الحيطة المايلة (7).. (طظ ) .. فى الثقافة !
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
كانت ندوة المسرح الجامعى التى عقدها (مركز اليوم السابع للثقافة و الفن و التنوير) تسير فى هدوء حيث أن معظم حديث المشاركين كان يُجمع على أن المسرح الجامعى فى صحوة، و أن المشكلات التى تعترضه من الممكن حلها ، فهناك مسابقتين للمسرح داخل كل جامعة ، الأولى تسمى بالمسابقة الصغرى و فيها يتم الاعتماد على الاكتفاء الذاتى لطلاب كل كلية فى مجالات المسرح المختلفة ، تمثيلا و إخراجا و ديكورا و إذا أمكن تأليفا أيضا ، و المسابقة الثانية هى المسابقة الكبرى و التى يتم الاستعانة فيها بمحترفين فيما عدا عنصر التمثيل فقط ، ثم هناك مسابقة تعقدها وزارة الشباب تحت اسم (إبداع) تتشارك فيها كل فرق الجامعات المصرية الحكومية و الخاصة و تشبه مسابقة (درع الجامعات) التى كانت تعقد فى الستينات و السبعينات .
أما صندوق التنمية الثقافية التابع لوزارة الثقافة فيعقد مسابقة أخرى تحت مسمى (مواسم نجوم المسرح الجامعى) ، و فيها يتم اختيار عددا من العروض الجامعية لتتسابق للحصول على جائزة هى الدراسة بورشة مركز الإبداع الفنى تحت إشراف المبدع الكبير خالد جلال ، و هى جائزة كبيرة يتمناها كل هاوٍ فى مجال المسرح . و هناك أيضا مهرجان دولى للمسرح الجامعى تدعمه وزارة الثقافة لتبادل الخبرات بين الفرق الجامعية المصرية و الأجنبية ، قدم دورتين ناجحتين و توقف بسبب الجائحة.
أما جوهر الصحوة و دليلها الأساسى ما ابتكره شباب المسرح الجامعى من نمط إنتاجى جديد يمكننا أن نطلق عليه بحق ( المسرح المستقل ) فهم لا يطالبون بدعم حكومى و لا ينتظرونه ، بل يجمعون المال من بعضهم البعض لتأجير أحد المسارح ، و يتم بيع التذاكر للجمهور – و أغلبه من زملائهم – لتقديم عروضهم لبضع ليالى ، و هى تجربة ناجحة لأن المشاركين لا ينتظرون منها ربحا و لا أجرا و إنما مجرد تغطية مصروفات العرض ليقدموه أكثر من ليلة ، بعد أن قدموه لليلة واحدة فى الجامعة . و هناك عروض استمرت لليالى طويلة ، مما شجع فرقا مستقلة لتكرار نفس التجربة . و لعل أشهر تجربة و أنجحها عرض جامعة عين شمس ( 1980 و أنت طالع ) تأليف محمود جمال و إخراج محمد جبر الذى فاز بجائزة المهرجان القومى للمسرح ، ثم تم تقديمه على مسارح مختلفة ليحقق سبقا بأن يكون أول عرض للهواة يعرض لسنوات ، بعدها كونا فرقة مستقلة تسمى 1980 تقدم العروض المسرحية ، و لها جمهورها من الشباب ، و أخيرا بدأت فى تقديم مسلسلات على النت .
و أذكر أننى منذ سنوات و فى ندوة أيضا باليوم السابع ضربت مثلا بهذا العرض فقد كنت أرى – و مازلت – أننا لكى نفهم هذا الجيل و نرصد اتجاهات تفكيره و آرائه ، علينا أن نتابع هذه العروض بالبحث و الدراسة – و ليس بالمنع و الرقابة – فإن عرضا واحدا من العروض التى يقبل عليها الشباب – برغم أنها بطولة زملاء لهم – كفيل بأن يوضح لنا ماذا يريد هذا الجيل ، و كيف نخاطبه ؟ و هى طريقة علمية و عملية و موضوعية و صادقة للفهم بدلا من الاعتماد على تقارير أمنية . و قد بادرت اليوم السابع بعقد ندوة مع أصحاب العرض فيما بعد .
و لكن الملاحظ أن الإعلام بشكل عام – و الصحافة بشكل خاص – لا يهتم بنشر أخبار المسرح الجامعى و متابعة عروضه و التعرف على نجومه لفهم الأجيال الجديدة و معرفة ما يفكرون فيه و ما يتمنونه ، و إتاحة الفرصة للقراء أو المشاهدين لتتبع ذلك النشاط الهام ، و بدلا من هذا تهتم الصحافة بموضوعات لا قيمة لها ، فالملاحظ أن ما نُشر فى الصحافة الورقية أو الإلكترونية العام الماضى عن قضية فتيات (التيك توك) يفوق كل ما كتب عن نشاط المسرح المصرى بكل أطيافه : المحترف و الهاوى و الجامعى و المستقل !!
و اتخذت الندوة مسارا ساخنا عندما رد أحد الأصدقاء من الصحفيين أن على الصحافة ان تتابع الترند فهذا ما يهم القارئ ، و هنا اعترض صديقى المبدع الكبير خالد جلال على هذه المقولة قائلا : تلك هى صحافة الإثارة التى تسعى خلف خبر الرجل الذى عض الكلب و تهمل خبر عقر الكلب للرجل ، لأنه خبر عادى و غير مثير للقارئ ، و هى صحافة مرفوضة .
و هنا تناوبت على رأسى الأسئلة : عن أى ثقافة نتحدث إذا كان هذا حال معظم صحافتنا خاصة الإلكترونية ؟ و ماذا ننتظر من مجتمع لا يرى حوله سوى أخبار على هذه الشاكلة ؟ ، ألا يمكن أن يصنع الإعلام الترندات بدلا من السير وراءها ؟ و أى إحباط يصيب شباب المبدعين بتجاهل إبداعهم ؟ ألا نضرب لهم المثل بقدوات سيئة بسعينا وراء الترند ؟ ألا نرسخ لديهم أن التفاهة هى طريق الشهرة ؟ و أن التحقق لا يمر إلا عبر الترند أيا كانت قيمته الفنية و الفكرية ؟
أسرعت بالقول : أن للصحافة دور تثقيفى و تنويرى هام ، فاساتذة علم التربية علمونا بأن الصحافة من ضمن الوسائط التى تنقل الثقافة ، و عندما تهتم بالترند فقط فإنها تهمل مسئولياتها عن عمد و تخرج لسانها للمجتمع قائلة له (طظ فى الثقافة) . فأضاف صديقى المخرج القدير ناصر عبد المنعم بأن وسائل الإعلام كلها من وسائط نقل الثقافة و ليست الصحافة فقط . و تلك حقيقة فالإعلام يحتل مكانا هاما و تأثيرا قويا ضمن وسائط كثيرة و متعددة تضم الأسرة و المدرسة و جماعة الأصدقاء وغيرها ، فكلها ناقلة للثقافة .
و هنا لابد و أن نتوقف قليلا لنوضح أن مفهوم الثقافة الذى نتكلم عنه هنا ليس ( مجموعة المعلومات التى نقرأها فى الكتب ) ، أو ( الاطلاع على الإنتاج الأدبى أوالفنى أو الفلسفى أو ما شابه ) ، أو أنها ( معرفة مجموعة مصطلحات أجنبية للتشدق بها ) ، بل نتكلم عن الثقافة بمفهومها المتسع مترامى الأطراف ، و الذى لا نملك له تعريفا وحيدا أو نهائيا و لكنه بشكل عام و فى أبسط العبارات : مجموعة العادات و التقاليد والقيم لمجتمع ما ، و هى مجموعة المعارف المكتسبة بمرور الوقت سواء كانت مادية كالعلوم و التكنولوجيا و الأنماط المعمارية أو غير مادية مثل الأساطير و الفنون و الطقوس و مبادئ التنظيم الاجتماعى . و الثقافة تتم من خلال ما يسمى بالتنشئة الاجتماعية ، فالثقافة عملية مجتمع بأكمله يتشارك فيها الجميع و ليس وزارة الثقافة وحدها .
و بما أن بعض علماء التربية يضعون الإنتاج الدرامى بتفرعاته ( المسرح و السينما و التليفزيون ) ضمن الإعلام فى منظومة وسائط الثقافة ، فلابد و أن ننظر لهذا الإنتاج نظرة فاحصة ، و أن نتساءل هل يقوم بدوره هو الآخر أم لا ؟ و قبل الإجابة علينا أن ندرك أن الفن ابن مجتمعه و نتاج لظروفه الاقتصادية و الاجتماعية و قدر الحرية المتاح ، و أن الفن ليس السبب فى إنهيار أخلاق المجتمعات ، برغم أن له دور تربوى و لكن ممارسة هذا الدور يكمن فى رسالة خفية يتم زرعها فى ذهن المشاهد بغير مباشرة أو فجاجة و بعيدا عن الوعظ و الإرشاد .
و لنضرب مثلا بأحد النجوم الذى يصر أن يبلونا كل عام بدراما الانتقام و الصعود ، فوجود أمثال هذا النجم بكل مايقدمه و كل ما يمثله من قيم هو ابن للظروف الحالية و لكن تكرار أعماله بنفس الشكل و بنفس المضامين أصبح خطرا ، لأن النموذج الذى يصر على أن يقدمه فى كل أعماله يبدأ من قاع المجتمع ، و لا يصعد متطورا إلى رجل أفضل ثقافة أو تعليما أو رقيا ، بل صعوده يتمثل فقط فى الحصول على المرأة و المال ، و يتمكن من الانتقام من كل من ظلمه لتمتلئ الشاشة بالقتل و الخيانات ، و هكذا نرسخ فى عقول المشاهدين أن مجتمعنا ينقسم إلى أغلبية من ( الظالمين ) و أقلية من المظلومين ، و أن على كل مظلوم أن ينتقم لنفسه و بنفسه متجاوزا القانون . فأى قيم ينقلها هذا النجم للأجيال الجديدة ؟
و لأن الشركة المحتكرة للإنتاج الإعلامى تسعى وراء الربح فقط ، لذا تقدمه لنا فى نفس الثوب كل عام مادام يحقق لها أرباحا و ( طظ ) فى الثقافة ، و إذا بحثنا فى باقى مسلسلاتها الاجتماعية سنرى فى معظمها صورا لحياة لا تشبه حياتنا و بيوتا لا تشبه بيوتنا و علاقات شاذة لا تمثل مجتمعنا ، فكم من عادات و تقاليد تنزعها تلك المسلسلات ، و أى تنشئة اجتماعية تزرعها ، و أى رسائل خفية ترسلها ؟
و إذا قدمت تلك الشركة مسلسلا جادا ناجحا يحمل قيما و أفكارا تفيد المجتمع ، تسعى على الفور لاستنساخه لأن الابتكار أو التفكير فى تقديم الجديد توقف لديها ، و تسعى خلف المضمون و الترند ، فنجاح مسلسل ( الاختيار ) أغراها بإنتاج جزء ثانى له ، و لست بالطبع ضد العمل و لا ضد تقديم جزء ثانى له و لكننى ضد تقديم هذا الجزء بهذه السرعة ، ألم نلاحظ أن مابين مسلسلى ( دموع فى عيون وقحة و مسلسل رأفت الهجان ) حوالى أربعة عشر عاما ، و أن جميع مسلسلات الجاسوسية التى أتت بعد رأفت الهجان لم تنجح نفس النجاح ، كما أن الإلحاح على نفس الموضوعات بشكل متكرر و كثيف يفقدها قيمتها و أهميتها ، ثم ألا يعلم صناع الدراما أن المسلسلات ذات الخلفية السياسية ليست بالضرورة هى ما تتكلم عن وقائع سياسية بشكل مباشر ، فمسلسل كـ ( ليالى الحلمية ) هو مسلسل سياسى بامتياز .
و الغريب أن تلك الشركة المحتكرة بكل إمكاناتها لم تفكر فى تقديم أعمال مسرحية جادة ، أو حتى فى تصوير المسرحيات الناجحة ( باستثناء عرض سلم نفسك الذى شاهده السيد الرئيس ) فى حين أن هناك عروضا كثيرة جيدة تستحق ، و لكن إنتاجنا المسرحى فى واد و القنوات التليفزيونية فى واد آخر ، و كأنه حرام أن يعود التليفزيون إلى إذاعة الأعمال الجادة ، و إذا كان الأمل ضعيفا فى شركة الاحتكار لأنها تبحث عن الربح و الربح فقط من خلال الترند أيا كان ، فالأمل فى التليفزيون الحكومى معدوم بسبب ظروفه المادية المتعثرة .
و تظل ثقافة الترند سائدة و نافذة و مسيطرة مادامت الدولة سمحت لشركة باحتكار الإنتاج و ملكية القنوات و سيطرت على سوق الإعلانات فقتلت المنافسة و عملت على تعظيم أرباحها فقط ، و لكن للأسف لا يصنع هذا إعلاما جيدا و لن يكون الوسيط الأمثل لنقل الثقافة ، و لا أدرى لِمَ لم يناقش السادة النواب هذا الأمر .
و للحديث بقية ..