الأغاني لأبي الفرج الإخواني
بقلم : الدكتور ثروت الخرباوي
إذا أردت أن أكتب مقدمة دينية لمقالة فنية فسأحكي لكم عن سيدنا داود عليه السلام قصة، والقصة ليست من عهد سيدنا داود ولكنها من عصر (سيدهم) الشيخ محمد عبد الله الخطيب، ولمن لا يعرف فإنني أقصد بسيدهم أي بسيد جماعة الإخوان حيث كان الشيخ الخطيب هو سيد الفتوى عندهم، وقد قضى هذا الرجل نحبه منذ عدة سنوات، ولكن الغريب أن الإخوان كانوا يلقبونه بالشيخ (أبو الفرج) وسبب هذه التسمية أنه كان قد صدر ضده حكمٌ بالسجن عشر سنوات في قضية 1965 الشهيرة بتنظيم سيد قطب، وعندما سمح لهم السادات بالخروج من السجن في السبعينيات كان هو أو المفرج عنهم من مجموعته، ثم كان أول من استقبلته وزارة الأوقاف بعد خروجه من السجن ليتم تعيينه إماما لأحد المساجد بشبرا، ثم تولى مواقع قيادية في وزارة الأوقاف، ثم أعير للسعودية، وفي كل هذه الأحداث كان هو الأول في الإفراج، الأول في إعادة تعيينه بالأوقاف، وهكذا، فاعتبر الإخوان أن هذا الرجل يسير والفرج معه فأطلقوا عليه (أبو الفرج) وكان بعض أفراد جيله من مشايخ الإخوان يطلقون من باب الاستظراف (أبو الفرج الإخواني).
ومن بعد أن مات سيدهم الشيخ الخطيب عام 2015 توالت على الإخوان مجموعة من أسياد الفتوى تُنظم لهم حياتهم، وترسم لهم خُطاهم في الفتاوى الدينية، والواحد من الأعضاء الصغار في الجماعة وقع في دائرة الضلال فلا حول له ولا قوة، ولا حيلة ولا ورأي، هم يقولون له فيفعل، هذا حلالٌ فيفعله، وهذا حرامٌ فيتجنبه، ولا شأن له بعقله، ولا برأي أبي حنيفة أو الليث بن سعد، أو أبو حامد الغزالي أو حتى الشيخ محمد الغزالي الذي كان يعزف على البيانو فاعتبروه مارقا شاذا، والأخ العادي الذي تعود على الإتباع، والسمع والطاعة، والثقة في القيادة، أفقدوه عقله، وهو حين يفعل ما يقولون يظن أنه إنما يطبق الإسلام تطبيقا صحيحا، والإسلام الذي عرفته مصر منذ قرون لم يكن فيه إخوان، ولا سلف، ولا تلف، ولا وهابية، ولا حتى حنبلية، فالذي يجهله هؤلاء العميان أن (الإسلام المصري) له ذائقة فنية وأدبية لا تضارعها ذائقة، حتى أن القرآن الكريم الذي نزل في مكة والمدينة، لم يُقرأ قراءة تُحرك القلوب، وتُهدهد المشاعر إلا في مصر.
مصر التي أبدع تلاوة القرآن فيها وبالمقامات الموسيقية عمالقة لن يجود الزمان بمثلهم، أولهم العملاق علي محمود، والعبقري محمد رفعت، والفلتة الذي لا يتكرر مصطفى إسماعيل، ومزمار القرآن عبد الباسط عبد الصمد، وغيرهم، وصولا إلى الطبلاوي والطاروطي ونعينع، ولك أن تتحدث عن الإنشاد المصري الذي لا يوجد مثله في أي دولة في العالم، إنشاد النقشبندي المذهل، والطوخي أحد عجائب الدنيا وقد تنتهي الصفحات ولا ننتهي من سرد أسماء الفنانين من كبار
المنشدين الذين حببوا الناس في الإسلام، وقرَّبوا العباد من رب العباد، ورفعوا الآذان بأصوات نورانية شفيفة، وبطبقات موسيقية متقنة، حتى أن كبار الموسيقيين المصريين تعلموا في الأزهر مثل الشيخ أبو العلا محمد والشيخ زكريا أحمد وغيرهما، مصر التي استقبلت موهبة المثَّال العبقري محمود مختار، وأنشأت أول كلية للفنون الجميلة في المنطقة كلها ولم يقبل أحدٌ من المصريين أي تخرصات لأي شيخ متزمت يقول بأن
الرسم والتماثيل حرام، بل إن بيوت كبار علماء الأزهر في أوائل القرن العشرين كانت تزدان بلوحات فنية عالمية.
وطالما أننا تحدثنا عن الشيخ النقشبندي فسأعود إلى قصة سيدنا داود في زمن الإخوان، لأن النقشبندي رحمة الله عليه كان واحدا من أبطال هذه القصة، وقد كان ذلك في
نهاية الثمانينات من القرن الماضي، حينها فكر بعض الأخوة الصغار حديثي العهد بالانتظام في الجماعة في إعداد بعض الأناشيد الدينية متنوعة المعاني، على أن تصاحب المُنْشِد فيها بعض الآلات الموسيقية، واقتضى الأمر أن يقوم بتلحين الأناشيد مُلحنٌ من الهواة، المهم أن هؤلاء الشباب تحركوا سريعا وبشكل سري فيما بينهم ناحية إعداد الأناشيد وتلحينها، إلا أن كل شيء في دولة الإخوان لا يمكن أن يظل سرا، عرف المرشد حامد أبو النصر القصة، وانتفض مصطفى مشهور نائب المرشد وقتها غاضبا من هؤلاء الشباب الذين لا يعرفون أن فتاوى الإخوان تأخذ بالأحوط وتقول إن الموسيقى حرام، فصدر القرار إلى قسم التربية بالجماعة بتعنيف الشباب ومنعهم من الاستمرار في غيهم، وكان محمود عزت وقتئذ هو مسئول قسم التربية، وحينما استدعاهم وجدهم يدخلون معه في نقاش فقهي، ولأن بضاعة محمود عزت من الفقه قليلة، ولأنه لم يتعود المناقشات والأخذ والرد، فقط يعرف إصدار الأمر وليس على العضو إلا أن يستجيب، فكان أن حدد مع الشباب موعدا لمناقشة أرباب الفقه في هذا الأمر.
وكان رب الفقه عندهم هو الشيخ الخطيب (أبو الفرج الإخواني) ومعه الشيخ عبد الستار فتح الله سعيد، وجاء الموعد المرتقب في مقر الإخوان القديم بشارع سوق التوفيقية، وجاء صاحب المجموعة الموسيقية وهو شاب إخواني من أصل فلسطيني اسمه (نضال عبد الرحمن أبو لبن) وياللعجب جاء وهو يحمل عودا، وكانت معه فرقته الإخوانية التي كانت من مناطق إخوانية متفرقة بعضهم من مصر الجديدة وبعضهم من الدقي، وعندما بدأت الجلسة أصر الشيخ الخطيب على ضرورة إخراج العود من الحجرة لأنه من مزامير إبليس، وهو لا يجلس في مكان يجلس فيه إبليس، فقال الشاب (نضال) إنه أحضر العود ليكون شاهدا على عدم التحريم، وإنه كان سيعزف عليه مقطوعة من أغنية أم كلثوم (ولد الهدى فالكائنات ضياء) بلحن رياض السنباطي، فانفعل الشيخ عبد الستار فتح الله وقال باللهجة العامية بلا أم كلثوم بلا السنباطي بلا دياولو، العود لازم ينزل من المقر ولا نسمح بأن يتلوث المكان بمزامير شيطانية، العود لازم ينزل، (فيما بعد سخر هؤلاء الشباب وهم يحكون القصة وقالوا: أنزلنا العود من مقر الجماعة وقلنا بعدها فيما بيننا ونحن نضحك : الغزية لازم تنزل)، وهى العبارة الشهيرة التي كان أهل القرية يقولونها في فيلم شهير لصباح وعماد حمدي.
ونزل العود وبدأت المناقشة، فأخذ الشيخ الخطيب يشرح للشباب لماذا الموسيقى حرام، وأخذ يستدل في ذلك بأحاديث منسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، عن المعازف وحُرمتها، ولكن الشباب الإخواني ـ وقتها ـ أبو لبن قال لشيخ الإخوان: الشيخ النقشبندي يُغني الآن أناشيدا دينية بمصاحبة الموسيقى، ويقوم كبار الملحنين بتلحين أغانيه الدينية، فرد الشيخ عبد الستار قائلا: النقشبندي صوفي ضال ومبتدع، ومن الطريقة النقشبندية المنحرفة، فقال الشاب أبو لبن: إذن دعنا من النقشبندي ونعود للأحاديث النبوية، ثم قرأ عليه حديث عن جاريتين كانتا تغنيان ومعهما آلة موسيقية والرسول صلى الله عليه وسلم يستمع، وعندما دخل سيدنا أبو بكر الصديق نهاهما عن الغناء وقال مزمار الشيطان عند الرسول! فقال له الرسول دعهما إلى آخر الحديث، وحينما تدخل الشيخ عبد الستار فتح الله سعيد وهو قطبي وهابي من طراز عتيق، قال: المزمار الذي كان يقصده سيدنا أبو بكر هو صوت المغنيتين، فالرسول قال في حديث آخر لأحد الصحابة أنه أوتي مزمارا من مزامير داود، وكان يقصد بالمزمار صوت هذا الصحابي، فرد عليه الشاب النابه: يا سيدنا، الرسول لم يقل له إنه أوتي مزمار داود، ولكن مزمارا من مزامير داود، ومعنى ذلك أن صوت داود كان مزمارا إلا أنه كان يقترن بمزامير أخرى بدليل أن الله في القرآن قال: (ياجبال أوِّبي معه والطير) معنى ذلك أن نغمات الكون كلها كانت عبارة عن جوقة موسيقية لسيدنا داود.
واشتد النقاش والشيخ الخطيب يقول إن كلمة (أوِّبي) معناها سبِّحي وليس غني، والشاب يرد ولكن الطير لن يُسبِّح صامتا، فالطبيعي أن كل نوع من أنواعه الطيور ُ سيُسبِّح بصوته المختلف مع الآخر، فهذا عصفور وذاك بلبل، وتلك حمامة أو يمامة، وهذا هدهد، وحتى الغراب سيكون صوته مثل الطبل وهو يُسبح لله، فقال الشيخ عبد الستار فتح الله خلاص خلي الجوقة الموسيقية بتاعتك عصافير وكناريا وبلابل، وهنا حدث أغرب شيء يمكن أن يتصوره أحد، فقد أخرج شابٌ من الشباب الجالسين من جيبه شريط كاسيت، وناوله آخر جهاز كاسيت صغير الحجم، وقام الشباب بتشغيل الشريط، فإذا به يبدأ بأصوات مختلفة للطيور، ثم إذا بصوت طفلة تغني: (سبح الطيرُ وكبَّر منشدا الله أكبر.. ليت للناس عيونا كعيون الطير تُبصر)، ثم دخلت الموسيقى مع الطفلة وكانت الموسيقى عبارة عن تجميعات صوتية لعدد من الطيور تم دمجها وتحويلها لنغمات ومقامات، وهو الأمر الذي كان قد فعله الفنان الراحل محمد فوزي في أغنيته الشهيرة (طمني كلمني) مع بعض الاختلافات، وعندما سمع الشيخان الأغنية بموسيقى الطيور انتفضا وتم طرد الشباب، ليس من المقر فقط، ولكن من جماعة الإخوان كلها.
والآن سنلتقط أنفاسنا لأنني دخلت بكم مباشرة إلى (الأغاني لأبي الفرج الإخواني) لأقول إن في صوت تغريد الطيور موسيقى، وفي صوت الماء والشلالات والمطر موسيقى، وفي صوت الرياح موسيقى، فكيف نستطيع أن لا نسمعها، وكيف لنا أن نُحَرِّمها، وعندما أفتح معكم هذا الملف وأسبر غور فن الإخوان على الطريقة الإسلامية، أو إخوان الفن الحلال قد يتبادر إلى ذهنك فور قراءة كلمة الفن الحلال عبارة (ذُبح على الطريقة الإسلامية) كأن يجلس القصَّاب الإخواني أو صاحب الخلفية الإخوانية ليذبح الفن وهو يقول بعد أن يضع السكين على رقبته (بسم الله الله أكبر) والآن لك أن تسألني وتقول : كيف يرى الإخوان الفن، كل الفن، لا الغناء فقط ؟.
الخيار الرسمي للإدارة الإخوانية هو في الحقيقة مرجعية دينية لجمهور الإخوان، وقادة تلك الجماعة وهم يُشكلون أفكارهم الدينية رأوا أن كل الفنون حرام إلا إذا كانت تخدم فكرتهم فقط، ومع مرور الوقت تشكلت أجيال من الجماعة تم تربيتها فقهيا على حرمة فنون الرسم، وتحريم الغناء!! وأظن أن هذا التحريم يبدو طبيعيا ويتفق مع السياق العام لتلك الجماعة وغيرها من جماعات التطرف، فأولئك الذين ألفوا العنف والإرهاب، وعاشوا بعيدا عن الفنون التي ترتقي بالنفس الإنسانية، قست قلوبهم فأصبحت كالحجارة أو أشد قسوة، وغدت مسألة تحريم الفنون عندهم مزاجا عاما، وآثمٌ عندهم من يستمع للموسيقى، وفاسقٌ عندهم من يعزف على آلاتها، حتى أن الموسيقى التي حرَّمها الرأي الإخواني الرسمي أصبحت رجزا من عمل الشيطان، فهي مزامير إبليس يُغيّب بها عقولنا!! وغابت مساحة الفنون عند الإخوان فأصبح الرسم مُحرَّما بشكل مطلق إذا كان لشيء فيه روح، أما عن الصور الفوتوغرافية فقد أفتى الإخوان بكراهيتها إلا للضرورة.
وعن التماثيل أصدروا فتوى قالوا فيها إن التماثيل حرام وهى شرك بالله، ولا عبرة عندهم بالقرآن الكريم وهو يقص علينا خبر سيدنا سليمان عليه السلام عندما كان يأمر الجان بصنع تماثيل يزين بها قصره، أو نحت رسم بالنحاس على الزجاج، ففي سورة سبأ يقول الله سبحانه وتعالى (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات)، وبذلك أغلق أبو الفرج الإخواني باب الفن أمام الجميع.