مناورة الملكة
بقلم : د. سامية حبيب
عنوان جاذب لمتابعي منصة (نتفيلكس) الدولية التي توسعت جدا فيما تبث من أفلام ومسلسلات درامية وسعدنا حين عرضت أول مسلسل مصري حمل عنوان (ماوراء الطبيعة) وحقق نجاحا مدويا جعلنا نأمل أن تستمر التجربة المصرية، ومنذ نهاية أكتوبر الماضي بدأت المنصة نفسها عرض مسلسل فاتن بكل معنى الكلمة تحت عنوان (مناورة الملكة -The Queen’s Gambit )، والمسلسل مأخوذ عن رواية بنفس العنوان للكاتب الأمريكي (والتر تيفيس) صدرت عام 1983 . وهذا ليس غريبا فالروايات الأدبية شكلت ولاشك مصدرا هاما للدراما المرئية في التليفزيون والسينما وأحيانا المسرح ، عبرتاريخ تلك الفنون المرئية خاصة في القرن العشرين.
ومسلسل (مناورة الملكة) جاء في سبع حلقات فقط وهذا ولاشك كثف من جماليات الصورة وأهمية كل لقطة وليس مشهد . هذا ماساعد عليه الحدث الذي يدور حول تفوق غير متوقع للاعبة شطرنج صغيرة السن بدأت الهوس باللعبة منذ طفولتها المبكرة في عمر تسع سنوات إلى أن فازت على كبار لاعبي العالم وهى في عمر العشرين . وتواترت آراء كثيرة حول شخصية بطلة المسلسل (بيث هارمون) هل هي شخصية حقيقة أم من خيال كاتب الرواية ، ونسبها البعض للاعبة إنجليزية عاشت في النصف الأول من القرن العشرين وتوفيت أثناء الحرب العالمية الثانية.
لكن أحداث المسلسل تظهرها طفلة أمريكية من ولاية كنتاكي تخلى عنها والدها وانتحرت والدتها فضمت وهى في التاسعة لملجأ أيتام مع غيرها من الفتيات لترعاهن مديرة دار قاسية ومتشددة في تربية الفتيات . تعيش الطفلة على هواجس وأحلام حول أمها وتتردد على مسامعها وهى يقظة ونائمة كلمات الأم الحزينة ، وتخرج من تلك الاّم جزئيا حين تتعرف على لعبة الشطرنج على يد عامل من عمال دار الأيتام وساكن بدروم المبنى (شانتيل).
فتأخذها اللعبة بكل تعاليمها التي يلقنها إياها العامل ويدربها عليها لتصبح رفيقة اللعب معه بعد أن كان يلعب منفردا وحيدا في البدروم ، التقى الوحيدان على حب اللعبة واكتساب مهاراتها والهروب من مناخ دار الأيتام القاسي . وتوازى في خيال الفتاة حب اللعبة وذكرى أمها وأضحي سقف الحجرة هو رقعة شطرنج يسلى ظلام ليل الفتاة الحزينة بينما نهارها يتوزع بين الدراسة والدير والبدروم حيث معلمها وشريكها في اللعب.
وتتمحور حياة الصبية حين تكبر وتترك الدار بعد تبني زوجين لها حول لعبة الشطرنج فبدأت تدخل في مسابقات محلية في مدينتها والمدن الأخرى إلى أن فازت بمسابقة أمريكا المفتوحة للشطرنج .
ولهذا حملت الحلقات السبع أسمائها وأفكارها الدرامية من تقاليد وقواعد لعبة الشطرنج (الافتتاحيات – التبادلات – بيادق مضاعفة – منتصف اللعبة – هجوم مزدوج – الإستراحة – نهاية اللعبة ).
بل زاد الكاتب والمخرج (سكوت فرانك، واّلان سكوت) من وحدة الجو العام الذي ساد المسلسل حول لعبة الشطرنج والمسابقات الكثيرة التي خاضتها البطلة (بيث هارمون) لجماليات الصورة أن جاءت كل ملابس طوال الحلقات إما تحمل اللونين الأسود والأبيض في أغلب الوقت أو تحمل تصميم رقعة الشطرنج أي المربعات المتداخلة أو صندوق اللعبة المستطيل أو تكوين فريق اللاعب الطابية والحصان والملك والجنود ، واختتم هذا الإبداع في الملابس بالزي الذي ارتدته البطلة في نهاية الحلقة الأخيرة بعد فوزها ببطولة العالم في روسيا، حيث ارتدت بدلة بيضاء أنيقة جدا واعتمرت قبعه من الفرو فبدت مثل ملكة الشطرنج تماما، ومن هنا جاء عنوان المسلسل فهي حافظت على الملك من الهزيمة بمناورة ذكية في اللعب، وبذا أصبحت ملكة اللعبة عالميا وصفقت لها الجماهير في روسيا قبل بلدها أمريكا .
وانتهت الحلقة الأخيرة والبطلة الجميلة تترجل من سيارتها الفخمة لتجلس بين هواة يصطفون في حديقة لممارسة لعبة الشطرنج في موسكو ، تنزل إليهم وتبدأ اللعب معهم وسط احتفائهم بها ، وكأنها تعود بالفضل لكل البسطاء ممن ساعدوها منذ طفولتها وإلى بطولتها ، متخطية حدود الجنسية والسلطة والمال ، فكانت نهاية بليغة لمسلسل مميز فنيا وفكريا .
والحقيقة أن المواقف الإنسانية التي ركز عليها السيناريو رفعت كثيرا من جماليات المسلسل، مثل صداقة البطلة بيث مع رفيقتها بالدار البنت السمراء والتواصل الإنساني بينهما ،الذي خفف من قسوة مديرة الدار، وتعبير (بيث) عن افتقاد صحبتها حين تترك الدار مع الزوجين اللذين يتبنياها، وسوف تبحث عنها تلك الفتاة بعدما كبرت وتحضر لمنزلها للتشاركا معا في وداع العامل الطيب (شانتيل) معلمها الأول للعبة الشطرنج ، فينسج الحدث الدرامي مدى ألم وحزن البطلة على قلب أحبها، خاصة حين تنزل لمكانه وتجده قد جمع كل ماكتب عن بطولات الشطرنج التي شاركت بها ، قصصات كثيرة من الجرائد وصور لها منذ طفولتها فتبكيه البطلة بصدق، ثم تشاركها الصديقة ماديا في تكاليف رحلتها لموسكو لتشارك في بطولة العالم وهي تقول لها : نحن عائلة تربينا معا .
ويبدع كاتب السيناريو في توظيف شخصية الفتاة السمراء بالتماس الدال مع أفكار التفرقة العنصرية التي تأججت في أمريكا أثناء أحداث المسلسل في ستينيات القرن العشرين، دون البعد عن محور المسلسل بل يؤكد البعد الإنساني بأن البشر يتكاملون دون النظر لمفاهيم يختلقها الساسة مثل النوع أو اللون.
كذلك أبرز السيناريو تعاضدد زملاء البطلة معها في البطولة الدولية عبر التواصل بالأفكار وخطط لعب الشطرنج لتحقق الفوز الكبير على أبطال العالم ، متخطين المنافسات والخلافات السابقة بينهم وبينها أثناء المسابقات المحلية ، ولذا يكون فرحهم كبيرا حين تفوز وتصبح ملكة اللعبة وهذا إعلاء لقيمة المواطنة وتعاضد ومساعدة الصديق وهذا مبدأ درامي فالبطل لاينجح وحده أيا كانت قدراته بل يحتاج مساعدة من أصدقاء يؤمنون بهدفه.
وتأتي أحداث المسابقة التي في الحلقة الأخيرة لتأكيد فكرة هامة وهى القيم الرياضية التي تعلوا فوق الخلافات السياسية والعرقية، فقد رفضت البطلة أن تسيئ لسياسة الاتحاد السوفيتي حينها ، حين طلبت منها جمعية خيرية تدعمها ذلك وأعادت لهم الدعم رغم وقوعها في ضائقة مالية بسبب ذلك، كما رفضت توجيهات الحارس الشخصي من حكومة بلادها الذي رافقها إلى موسكو للإدلاء بأي تصريحات سياسية بذكاء، محترمة التقاليد الرياضية، وهو مابادلها به كل أبطال العالم من عدة دول، بالثناء والتقدير والتصفيق لموهبتها الفذة في نهاية المسابقة .
لاشك أن هذا المسلسل (مناورة الملكة) ممتع وأتمنى أن يكون ملهما لصناع الدراما في بلادنا، اختيار القصة وحرفية كتابة السيناريو والتمثيل وكل فنيات الصورة والمونتاج والموسيقى ، حقيقي مسلسل يدرس لكل صناع الدراما ، شاهدوه.