بقلم : محمد حبوشة
لاشك أنها محاولة جيدة من جانب صناع مسلسل (لا حكم عليه) عندما لجئوا لهدم القوالب التقليدية القديمة في الدراما التليفزيونية وتجاوزها، والالتفات إلى ما يعانيه المجتمع اليوم من قضايا، ومن ثم فقد عمد الكاتبان السوري (بلال شحادات) واللبنانية (نادين جابر) إلى صياغة قصة رومانسية في إطار تراجيدي تجمع في طاياتها قضايا اجتماعية شائكة تصبح نصوصا درامية، فقد تلاحظ التعبير المباشر أصبح ناضجا هذه المرة كثيرا بحيث استطاع أن ينقذ عالم المنصات ممثلة في (شاهد منصة عرض المسلسل) من التكرار الأحادي لسلسلة من القضايا المستنسخة عن الغرب، في أشكال وسيناريوهات مملة.
يطرح مسلسل (لا حكم عليه) قضية تجارة الأعضاء، بعد أن تناولها الثنائي رامي كوسا والليث حجو في عام 2019 من خلال مسلسل (مسافة أمان)، لكنها جاءت هذا المرة كمحاولة متماسكة جداً على مستوى الأداء ، وتحسب بشكل رئيسي لقصي خولي (يلعب دور نسيم)، الذي غاب عن الدراما الرمضانية السنة الماضية، بسبب تأجيل مسلسل (2020) من إخراج (فيليب أسمر) إلى الموسم المقبل، كما تطل علينا فاليري أبي شقرا التي تجسد شخصية (زمن)؛ وقد أظهرت من الحلقات الأولى تقدما ملحوظا في طريقة الأداء، بدور المحامية التي تسعى إلى كشف جريمة قتل والدها بحادث دهس متعمد، في اليوم نفسه الذي قتلت فيه والدة نسيم مع زوجها الطبيب جمال (أسعد رشدان)، في ظروف غامضة.
يظهر التطور واضحًا في مسلسل (لا حكم عليه)، وذلك عبر اجتراح مفاهيم أخرى يحاول قصي خولي التغلب عليها بأداء رفيع، بعيدا عن ممثل (الشكل) الخارجي للشخصية، فوجهه لا يخلو من نتواءات واضحة أصيب بها داخل السجن، وهنا تبرز قدرته الفائقة على الأداء الاحترافي الذي يعتمد لغة جسد فائقة الجودة، وخاصة من خلال وجه أكثر صدقا وتعبيرا عن مرارة الأيام التي قضاها نسيم في السجن، وكذلك حال فاليري أبي شقرا، التي أثبتت في هذا الدور أنها ممثلة تتفوق على لقبها (ملكة جمال لبنان 2015)، وكأنها أمام بداية جديدة مرسومة بعناية بعد مشاركتها سابقا بطولة باردة في مسلسل (ما فيي – 2019) للمخرجة رشا شربتجي، وكذلك مرورها العابر في (الهيبة)، من إخراج سامر البرقاوي 2018.
قدم قصي خولي أداء عبقريا بالمسلسل، لا يختلف عما قبله من أعمال مشهودة له، إلا في حالة النضج الفني الذي أصبح ظاهرا بقوة في أدائه وانفعالاته التجسيدية للدور المركب بتعقيدات نفسية مرعبة، والتي استطاع من خلالها أن ينقلك بكل سهولة من خالة التعرض للظلم إلى حالة الدفاع عن النفس، فالشخص الحبيب الذي تراه على الشاشة هو ذاته الذي أضطرته الظروف إلى أن يصبح عنيفًا في دفاعه عن نفسه في وسط المجرمين، وقد تألق (قصي) في عدة مشاهد بالمسلسل ما بين الدرامية والحزينة، تجعلك تتأثر معه بشدة وتتفاعل من فرط اندماجه في الشخصية والتي تبدو طبيعية دون أن يبكي في كثير من الأحيان، ولذا فإنني أعده في النهاية من أهم النقاط الإيجابية في المسلسل، بما وصل إليه من نضج وتلامس مع روح الشخصية التي يقدمها ودمح بين الحزن والثأر والغضب في آن واحد فيما كان يقوم به من مشاهد.
وقد لفت نظري أن المخرج فيليب أسمر في هذا المسلسل الذي لايزيد عن 15 حلقة أنه يتخطى عالم الصورة هذه المرة، وينتفض على أعماله في الدراما المحلية اللبنانية، فيخالف ما يفرضه المحلي في تفاعله الحي مع الدراما العربية المشتركة: فتجد أن إيقاع للأحداث متسارع منذ البداية وحتى النهاية، بحيث يبدو شريط من الرواية يبدأ سريعا من الحلقة الأولى مستغلا الأحداث المفروضة من داخل سجن قضى فيه (نسيم) محكوميته إلى الفضاء الخارجي الغارق في تفاصيل القضية وتشعباتها.
وفي النهاية يقدم لنا مسلسل (لاحكم عليه) رؤية خاصة اجتهد فيها كل من المؤلفين ونجوم التمثيل والمخرج بحيث تتناسب مع فلسفة السخرية الدرامية أمام قضية تجارة الأعضاء، التي تشغل العالم بقالب قصة حب بين نسيم وخطيبته نور (كارول الحاج)، التي تتركه بعد اتهامه بقتل أمه وزوجها، ثم اندفاعه نحو المحامية (زمن).
حالة من الإثارة والتشويق قدمها النجمين (قصي خولي وفاليري أبو شقرا) بالإضافة إلى باقي فريق التمثيل مثل (طوني عيسى، كارول الحاج، عبدو شاهين، وإيلي متري).
وبغض النظر عن أن غالبية الأعمال اللبنانية تأتي مقتبسة من فورمات أجنبية وهذا تحديدا مأخود عن المسلسل التركي (العشق الأسود)، فإننا نجد أن أحداث (لا حكم عليه) تأتي في كادرات بصرية مثيرة للإعجاب، كما أن مجريات الأحداث تسير بين (الفلاش باك) والتوقيت الحالي للمسلسل، وجاء ذلك في رتم إيقاعي منضبط، بين الماضي والحاضر بتسكين المشاهد بطريقة محفزة للمشاهدة وموضحة للأحداث بطريقة سلسة وسهلة على المشاهد ومشوقة في ذات التوقيت مما يزيد من تفاعل المشاهد مع المشاهدة بشكل كبير.
كما أن المخرج (فيليب أسمر) نجح بالاختيارات المناسبة لأماكن التصوير الطبيعية والتي جاءت في سياق الدراما، خادمة على القصة بشكل جيد، سواء كان هذا في المشاهد التي لها علاقة بالحارة أو المناظر الطبيعية، وما شابه ذلك من مؤثرات بصرية بالمسلسل.
وقد جاء الـ (ماستر سين) في هذا العمل من خلال عدة مشهد ترتبط ببعضها في تغذية وتهيئة الشعور بالحالة الرومانسية إلى جوار المشاهد التراجيدية الحزينة من الحلقة العاشرة حتى الثالثة عشرة والتي جاءت على النحو التالي:
بعد أن أفلتت (نسيم – قصي خولي) من براثن السجن المؤبد وأطلقته حرا، وبدأت (زمن – فاليري أبو شقرا) في التعاون معه لكشف غموض مقتل والدته التي تعاونت مع والدها الصحفي الذي قتل في نفس يوم مقتل (والدة نسيم – سحر فوزي) بدأت تدب المشاعر في قلبيهما على أثر اللقاءات المتكررة، حتى حانت لحظة ضعف كل منهما تجاه الآخر، وفي أثناء لقائهما في منزل والد (زمن) الريفي راحا يبوحان بتلك المشاعر الدافئة بينهما على إيقاع سكون الكون وبردوة الطقس وألم الذكريات المرة لكنه جاء في صورة همس وتلميح وليس بالتصريح المباشر على النحو التالي:
نسيم : بعد ما إجيت هاون ما حكيتي ولا كلمة ولا قولتلي شو صاير معك، ما بدك تحكيلي شو مشكلتك؟
ببكاء حار وموجع ترد زمن : لو بلحظة وقف فيي الزمن ما كان قطع كل هالوقت .. رجعت بنت صغيرة وحسيت بنفس الشعور .. نفس الخوف .. نفس الإحساس .. حاسة بنفس الوجع، ثم تدخل في حضن نسيم وتبدأ في البكاء الحار على حالها الذي كان في الزمن البعيد زمن الطفولة المرعبة.
بعد الانتهاء من حضن دافئ يمسح نسيم دموع زمن في حنو بالغ الأثر في نفسها، فهمت بالانصراف إلى داخل البيت على إيقاع خطوات سريعة وكأنها تخجل لحالها وانكشاف مشاعرها أمامها، ويناما ليلتهما المبطنة بمشاعر دافئة، ثم يظهر (نسي) في صالة البيت أمام طاولة وهو يعبث بالحطب من فروع الأشجار، ثم يضع يده على خده في انتظارها حتى أطلت وجلست (زمن) أمامه على نفس الطاولة وظلا يتبادلان النظرات وكأن العيون تنطق بما يخفيه قلبيهما تجاه الآخر في ليلة أمس المفعمة بالشجن والحنين.
زمن في طمأنية وإحساس بالأمان بعد قضاء ليلة دافئة بالمشاعر والأحاسيس تنظر لوجه نسيم قائلة : إيه شو عملت اليوم؟
نسيم يستخرج ورقة من جيبه ويرد عليها : جبت المطلوب من شان فحص الـ DNA.
زمن : كيف جبته؟
نسيم : عندي طريقتي .. المهم صار معنا.
زمن : نسيم ما تكون اتهورت؟
نسيم : لا لا لا تخافي .. ثم ينظر لها متسائلا : كام يوم راح تطلع النتيجة؟
زمن : بالمبدأ 3 إلى 5 أيام بس أنا باقدر طلعها بوقت أسرع.
نسيم يسحل رشفة من كوب أمامه ثم يلتفت لها قائلا: أنا إن شاء الله بكره باقدر أمن لك المصاري.
زمن : لا مش مشكل.
نسيم : فيه شغلة تانية كمان.
زمن : شو فيه؟
نسيم : أكرم وأبو ريشة.
زمن : شو صار معهم ؟
نسيم : هلا أخبرك ع الطريق .. يلا.
نسيم بعد أن وصلا لمكان اختباء (أكرم وأبو ريش) : أعطيني مفتاح السيارة يلا.
زمن : نسيم اللي عم تعمله كتير غلط.
نسيم : هادول الناس هيك بيمشوا بس .. مافي غير حل .. أعطيني مفاتيح السيارة يلا.
يدخل نسيم على أحد الشباب من الحراس قائلا : طارق شو عمتعمل هاون ما انك عند أكرم؟
طارق : أكرم مش هاون؟
نسيم : كيف يعني؟
طارق مش انته قلتله لوائل ياخده لعندك ؟
بعد جلسة عتاب بين الحبيبين على أسلوب إدارة الأزمة بالعنف مع (أكرم وأبو ريش) من جانب نسيم الذي اتهمته زمن بالعنف معترضة على هذا الأسلوب وهو عاتبها على شبهة اتهامها لأمه بالتورط مع تجار الأعضاء، جلسا الاثنين على صخرة صغيرة مختبئة بين الأشجار وتعانقا واتفقا اتفاقا ضمنيا على الحب دون أن ينطق أحدهما للآخر.
في بيت الجبل الذي ألحق به (أكرم وأبو ريشة) جلسا (نسيم وزمن) يتناجيان، حيث قال نسيم: زمن انتي من اليوم بعهدتي وأمانتي .. راح أحطك بعيوني إن شاء الله.
تتجرأ زمن قائلة : كنت خايفة أوصل لهاي اللحظة.. لحظة الحب!!.
نسيم ينهي المشهد قائلا : الحب ما بيخوف .. أنا ما راح أتركك .. أنا بحبك زمن .. بحبك كتير.