بقلم : محمد حبوشة
دعوني أولا أثمن الجملة التي ورت في نهاية مقال الأستاذ الإعلامي الكبير والقدير على عبد الرحمن، والتي اتخذت منها عنوانا لمقالي هذا، فهى تحمل في طياتها كثير من الدلالات على فقدان الأمل في منظومة إعلامنا المصري الذي مني بالخيبات تلو الأخرى، بينما وسائل الإعلامي العربي من حولنا تتطور لحظة بلحظة، في طريقة تناول الأحداث التي تدور في محيطنا العربي والشرق أوسطي، وتحليلها على نحو ينم عن كفاءة مهنية وحرفية وجدية شديدة في معرفة خطورة وتأثير الإعلام في مجريات الأحداث العربية، ولعل خيبة الأمل الجديدة التي سجلتها قنواتنا المحلية والفضائية، فضلا عن صحفنا المطبوعة ومواقعنا الإلكترونية وحتى الهيئة العامة للاستعلامات، تتمثل في التغطية المرتبكة لأحداث القمة الخليجية الأخيرة التي عقدت في مدينة (العلا) السعودية قبل أيام.
صحيح أن الشارع العربي فوجئ بإعلان وزير الخارجية الكويتي عن التوصل لمصالحة بين المملكة العربية السعودية ودولة قطر بعد قطيعة دامت ما يربو على أربع سنوات، وهو خبر ربما انتظرته الشعوب الخليجية ومن بعدها العربية بعد حقبة من العداء السياسي والقطيعة بين أبناء البيت الخليجي الواحد، قطيعة فرقت الصف العربي إلى صفين صف يساهم في التنافر وآخر يقف على الحياد، ولم يكن يوازي مفاجئة سرعة الاتفاق سوى سرعة العداء الذي أعلنته ثلاث دول خليجية مجتمعة بالإضافة لجمهورية مصر العربية كخطوة عقابية لقطر نتيجة انتهاجها لخط سياسي مستقل عن بقية أعضاء المجلس ومحاولتها لعب دور مناوئ في السياسة الإقليمية وهو الأمر الذي لم يرق للملكة كما أن قربها من الإخوان المسلمين لم يرق بدوره للإمارات العربية المتحدة ومصر بالتأكيد.
ومعروف أن قطر تبنت من خلال ذراعها الإعلامي المتمثل بقناة الجزيرة نغمة تتغنى بالثورات العربية وتدعوا للتمرد على الحكام، وقد شكلت تغطيتها للأحداث المصرية في العشرية المنصرمة خاصة بعد الإطاحة بحكم محمد مرسي الرئيس المصري الإخواني السابق، والذي انتخب في أعقاب الثورة المصرية نقطة خلافية مع باقي دول مجلس التعاون ومصر، وعلى أثرها قاطعت الدول مجتمعة دولة قطر وتم وضع عريضة من ثلاثة عشر مطلبا اعتبرت شرطا ملزما لإعادة تطبيع العلاقات، لتمر أربع سنوات كانت الأحداث خلالها مشحونة بالتغطيات الإعلامية العدائية المتبادلة سخرت فيها الأجندات السياسية والمنابر الإعلامية المختلفة.
ما سبق من معلومات لم تنتبه إليه قنواتنا المصرية التي منيت بخيبات الأمل التي أفقدتها حرفيتها وموضوعيتها ومهنيتها في معالجة القمة الخليجية على نحو ذكي يراعي المصلحة المصرية، فعلى العكس حدثت حالة من الإرتباك الشديد وعدم الفهم لطبيعة التغيرات الحادثة في السياسة المصرية تجاه تلك المصالحة، وفي الوقت الذي وقع فيه وزير الخارجية المصرية على اتفاقية المصالحة راحت بعض قنواتنا ومذيعونا يلعبون على حبال مقطوعة، فمنهم من ذهب بخياله نحو استحالة موافقة مصر على بنود القمة – بينما وزير الخارجية وقع بالفعل – وذهب آخر للترحيب بعودة قطر إلى الجسد الخليجي والصف العربي من جديد ونسي كل الآثام والجرائم التي ارتكبها النظام القطري في حق مصر والمصريين طوال 10 سنوات ماضية.
ما بين مؤيد ومعارض للمصالحة راحت قنواتنا وباقي وسائل الإعلام المطبوعة والمسموعة في ظل صمت رهيب من جانب الهئية للاستعلامات التي كان ينبغي أن تبادر بإصدار بيان يوضح الموقف المصري ويدعم السياسة الخارجية، ونسي كل هؤلاء ضرورة التركيز على كيفية تغير لغة الخطاب الإعلام القطري وهنا السؤال: أليست تلك مهمة الإعلام المصري الذي ينبغي أن يتعامل بهنية وحرفية في ظل تلك الظروف الطارئة الجديدة، أم أن شغله الشاغل هو اللعب على التناقضات الحادثة في قلب المشهد؟.
ظني أن كل وسائل الإعلام المصرية فاتتها المهنية في معالجة الآثار الناجمة عن تلك المصالحة التي لم يتبدى لها أثر يذكر حتى الآن، وكان عليها أن تقفز على الأحداث وتناقش بموضوعية مسألة تغير لغة الخطاب القطري تجاه مصر في المرحلة التي تلي القمة الخليجية مباشرة، والتي سعت في أولى خطواتها لإعادة الثقة بين دول الرباعي العربي وقطر، وتغيرت بالفعل لهجة الإعلام القطري، لاسيما قناة الجزيرة، تجاه تناول الأحداث المتعلقة بتلك الدول، حيث كان المنشور الأكثر تداولا بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي عقب القمة الخليجية، للصفحة الرسمية لقناة الجزيرة القطرية، والذي أشادت من خلاله بفيلم وثائقي يعرض التطور الحضاري لعاصمة إحدى دول الرباعي العربي، وهو ما لم يحدث منذ 2017، بسبب توتر العلاقات.
وقالت الجزيرة في منشورها: (الجزيرة الوثائقية تتمنى لكم يوما مشرقا وسعيدا.. صورة تظهر حجم التطور العمراني والحضاري الذي تعرفه العاصمة السعودية الرياض)، وأضافت: (تصنف المدينة كثالث أكبر عاصمة عربية من حيث عدد السكان وتقع وسط شبه الجزيرة العربية في هضبة نجد، على ارتفاع 600 متر فوق مستوى سطح البحر).
لكن كيف يتغير الخطاب الإعلامي القطري تجاه مصر بعد القمة الخليجية؟
هذا هو السؤال الذي لم تطرحه وسائل إعلامنا في نفس لحظة تغير لغة الخطاب القطري تجاه الأربعة دول الخليجية، وربما يبدو الحكم على تغير الخطاب الإعلامي القطري تجاه مصر لا يمكن أن يصدر في اللحظة الراهنة، حيث تم عقد القمة الخليجية حديثا، ولذلك لا يمكننا الجزم بأن التغير البسيط في الخطاب سيكون مستمرا، بل إنه مجرد احتفاء بفاعليات القمة، لكن لاننسى أننا نحن الآن في مرحلة انتظار وترقب إظهار حسن النوايا من قبل قطر تجاه مصر، ونتمنى بالطبع أن تعود قطر دولة عربية تحترم أشقاءها وأن تتوقف عن تمويل الإرهاب والدفاع عن الإرهابيين، علما بأن الأمر أبعد من مجرد تغيير اللهجة الإعلامية فقط.
لم أرى قناة مصرية واحدة أو حتى برنامج من برامج (التوك شوز) يشير إلى ما نريده نحن في مصر بأن يتغير السلوك العام لقطر، من خلال التوقف عند لغة الجسد التي ظهر بها (تميم أمير قطر) في أثناء القمة حيث مازال مصرا على إظهار العداء تجاه مصر منذ عدة سنوات، ومن ثم فلابد أن تجديد الخطاب الإعلامي يصاحبه التوقف عن التحريض ضد الدول الأشقاء والتوقف عن التدخل في شؤونهم الداخلية، علما بأنه في عام 2014 تم عقد اتفاق ينص على أن تتوقف قناة الجزيرة عن السلوك المعادي والتحريض، ولكنها لم تلتزم، لكننا نأمل بأن تسير الأمور هذه المرة كما خطط لها، وأن تلتزم قطر بما تعهدت به، وأن تتوقف الحملات الهجومية المتبادلة بين الإعلاميين القطريين والمصريين خلال الفترة المقبلة، وهذا يستلزم بالطبع أن يتوقف الإعلام المصري عن مهاجمة الإعلام القطري لحين التأكد من حسن النية القطرية.
الإعلام المصري من حقه أن يغطي الأحداث الجارية، ومن حقه أيضا أن يحلل ماوراء الترحيب الحار من جانب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بطريقة تدعو للتوقف والتساؤل، كما لا يمكننا مطالبة الإعلاميين بالسكوت في حالة تعرض مصر للهجوم من القنوات القطرية، خاصة أن فترة ما بعد عقد القمة الخليجية ستشهد تغيرا في الخطاب الإعلامي ليس على مستوى مصر وقطر فقط، بل تغير في خطاب الإعلام الخليجي مع قطر والإعلام القطري مع مصر، والإعلام المصري مع قطر، والإعلام بوسائله وأساليبه يتبع تحركات وأولويات النظام السياسي ومواقفه، حيث تسير المضامين الإعلامية وفقًا للقرارات والتوجهات الخاصة بكل دولة.
والشيئ بالشيئ يذكر: عندما كانت النظم السياسية الخليجية في حالة عداء مع النظام القطري كان مضمون الإعلام يأخذ شكل الدعاية المضادة ويوجه انتقادات للنظام السياسي القطري، ومن ثم يصبح الإعلام في حالة ترقب بعد الآن بعد تنسيق العلاقات على أثر القمة الخليجية، خاصة بعد زيارة وزير المالية القطري لمصر، وهو الأمر الذي يمثل أحد المسارات التي تدعم ما جرى وفق القمة الخليجية من تنسيق العلاقات المتبادلة.
والأمر المؤكد أن زيارة وزير المالية القطري عشية القمة ستفتح الطريق لسياسة إعلامية جديدة بين البلدين، ولكن الأمر لن يحدث بين يوم وليلة بل ستتغير اللهجة الإعلامين المتبادلة بين مصر وقطر بالتدريج، كما ستفتح الزيارة المجال للمصالحة، فالثابت دائما أن السياسة والإعلام يسيران جنبًا إلى جنب، لذلك تنعكس الخلافات السياسية بين أي بلدين بالتبعية على الخطاب الإعلامي المتبادل بينهما، وهذا أمر طبيعي، ولا ننسى أنه أثناء وجود الخلاف بين مصر وقطر كان الإعلام المصري من جانبه يترصد بشكل تام لقطر، وهذا حقه باعتبارها الدولة الراعية للإرهاب وباستعداء الأدلة المؤكدة ذلك، وربما اتخذ كبار الإعلامين منصاتهم الإعلامية للانتقاد التام لسياسات قطر باعتبارها دولة داعمة لكل ما هو إرهابي.
والآن لابد لقنواتنا الدخول في معترك توضيح الحقائق للمشاهد المصري الحائر منذ عشية القمة وحتى الآن، من خلال تبني منهجية جديدة للتعامل مع الأزمة، فمن الطبيعي أن يتغير الخطاب الإعلامي القطري تجاه مصر وباقي دول الرباعي العربي، بعد عقد القمة الخليجية، حيث أصبح هناك مصالح مشتركة بينها وبينهم، وربما يبدو واضحا وبشكل نظري أنه لا بد من أن يتغير الخطاب الإعلامي المصري أيضًا تجاه قطر.
وهذا يتطلب أن نوضح من خلال برامجنا أنه إذا تغير الخطاب الإعلامي المصري تجاه قطر خلال المرحلة الراهنة فبالتأكيد سوف يفقد مصداقيته مع الجمهور، حيث إن الاتفاقية مبهمة وغير واضحة فيما يخص الوضع القطري المصري، فلا يمكن لعاقل أو خبير بالسياسة قراءة الخطاب الإعلامي المصري في ظل غموض الاتفاقية، ولكن نظريا على الإعلام أن يخدم سياسة دولته الجديدة في هذه المرحلة الحساسة، خاصة في ظل التلويح القطري بعدم موافقة مصر والإمارات على المصالحة، رغم توقيع وزير الخارجية.
ساءتني جدا بعض التغطيات في ظل الأحكام المتسرعة عشية القمة الخليجية من جانب إعلاميين مقربين من النظام المصري، حين راحو يهاجمون قطر بضراوة، ويؤكدون أن مصر لن تحضر ويذكرون بإساءات (الجزيرة) وتحريضها ضد الجيش المصري ، في الوقت الذي بدا الإعلام المصري الرسمي صامتا عقب الإعلان التاريخي عن فتح الحدود بين السعودية وقطر عشية القمة الخليجية المرتقبة التي عقدت في مدينة العلا السعودية، وقد هاجم إعلاميون مقربون من النظام المصري قطر بضراوة، وأكد أحدهم أن مصر لن تحضر القمة الخليجية، ولا أدري على أي أساس بنى وجهة نظره التي تفتقد للمسئولية وعدم مراعاة المصلحة العليا للوطن، فقط بدا حديثه مجرد إنجراف عاطفي غير محسوب ومخطط نحوحافة الهاوية المهنية.
ربما بنى بعض إعلاميينا وجهة نظرهم على أساس أن الأمة عانت كثيرا من ألاعيب النظام القطري ومؤامرته وتلك حقائق ثابتة، وتساءل بعضهم بعد انعقاد القمة : تري ماذا قدمت قطر، هل استجابت للشروط، هل اعتذرت لأسر الشهداء الذين قتلوا من جراء دعمها للإرهاب، هل تعهدت لكم بأنها ستتوقف عن التحريض والتآمر، هل ستغلق بوق التآمر الذي لايكف عن التحريض ضد بلداننا، هل قالت لكم قطر إنها ستستغني عن الوجوه الحاقدة والمتآمرة التي تطل علينا من قناة الجزيرة، هل ستسلم الإرهابيين المطلوبين؟، أم سيظل النظام القطري مرتبط بأجنده معادية تهدف إلى تفتيت الأمة وبث الفتنة علي أرضها ولن تتراجع؟
وبالتأكيد هو محق في تخوفاته تلك، فنظام قطر هو الذي دعم الإرهاب ولايزال، وهو الذي احتضن الإخوان ودعمهم بالمال والسلاح، كما إنه النظام الذي تسبب في قتل أبنائنا وتخريب بيوتنا وهدم أوطاننا، ولايمكن نسيان أن النظام القطري هو الذي سلط قناة الجزيرة لتسيء إلي بلداننا ولتسب شعوبنا، وهو الذي دفع الملايين لإهانة ثورتنا وراح يسيء إلي جيشنا وقائدنا ويسمي ماحدث بالانقلاب، وهو أيضا النظام الذي يحرض الغرب ضدنا ويدعم منظمات حقوق الإنسان لتسيء إلي سمعتنا، ولونسينا كل ذلك هل ننسي دماء أبنائنا، من يعيدهم إلينا بعد أن راحوا ضحية التآمر القطري ودعمه للإرهاب.
كل ما مضى من تساؤلات وتخوفات تبدو منطقية، ولكن الإعلام ياسادة وظيفته الأساسية التوعية والتنوير والتثقيف، ومن هنا هو منوط بتوضيح الحقائق وعرض وجهات النظر من جانب خبراء السياسة والاقتصاد الذي يعرفون بالضرورة مصلحة مصر الوطنية، لا أن يذهب بعض إعلامينا إلى حمل سيف من خشب وويظل يلويح بها في الفضاء المفتوح على مصراعية غير واع بأبسط قواعد المهنية والاحترافية في معالجة قضايا العلاقات بين الدول والشعوب بطريقة أكثر حكمة وموضوعية، على ألا يغض الطرف عامدا متعمدا عن رأي القيادة الساسية صاحبة القرار الأول والأخير في المصالحة مع قطر أو غيرها في إطار لعبة السياسة الحاكمة بين الدول.
وفي النهاية أختتم قولي: بإن تغطية إعلامنا لما حدث في مؤتمر المصالحة ومابعده يؤكد أن التخبط هو الذي كان سيد الموقف وأن التوقع غير وارد من الأساس، وأن تجهيز الملفات ليس واردا أيضا في أجندة مذيعينا، وأن صدمات البث سوف تتوالي يوما تلو الآخر، وأن خزائن خيبات الأمل في الإعلام لاتنفذ في نهاية المطاب بل تجذر الفرقة والعداء، وأن المجالس والهيئات والشركات والقنوات والتدخلات لم تجدي حتى الآن، وأن إصلاح الإعلام هيكليا وإداريا ومحتوى أصبح ضرورة حتمية، بل هو واجب وطني حتمي لصالح مصر وقيمتها وقامتها وشعبها ومتطلباته في إعلام وطني حقيقي ومهني، ويقظ يمكنه أن يخدم المصالح العليا للوطن .. اللهم بلغت .. اللهم فاشهد.