شكرا نمبر وان !
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
كتب صديقى الناقد المسرحى و السينمائى (محمد الروبى) هذه العبارة على صفحته على الفيس بوك ، و تحتها أضاف أن ما قام به هذا الممثل قد أحيا من جديد الحديث حول رفض التطبيع و شحذ همم من تناسوه فى خضم الحياة ، و الأهم – من وجهة نظره – أنه جعل الأجيال الجديدة تتساءل حول التطبيع : ما هو ؟ و ما هى أسبابه ؟ و ماهى أهميته ؟
و فى رأيي أن ما كتبه (الروبى) صحيحا ، فذلك الممثل يملك قاعدة عريضة و يشغل بال الشباب سلبا و إيجابا ، فأثناء إلقائى لمحاضرات عن مناهج التمثيل و الإخراج بقسم النقد و الدراما بكلية آداب عين شمس ، سألنى كثير من الطلاب حول تقييمى لتمثيل (نمبر وان) ، و كنت أتهرب من الإجابة قائلا : أن عليهم دراسة تلك المناهج جيدا ليستطيعوا التقييم بأنفسهم ، و فى داخلى كنت مشفقا على طلابى بين ما يدرسونه عن عظماء جعلوا لفن التمثيل قواعد و تدريبات مثل (ستانسلافسكى أو مايرهولد) ، و بين مايرونه على الشاشة حاليا . و لكننى لاحظت انقساما حادا بين الطلاب فى التقييم فبعضهم تبهره نجومية (نمبر وان) و البعض الآخر يرى أنه أحد أسباب إفساد الجيل الحالى و تدنى القيم و انتشار البلطجة . المهم أنه يشغل بال الجميع.
و لهذا السبب اختاروه بكل دقة لهذه المهمة : مهمة اختراق الشباب و افهامهم أنه لا غضاضة من التعامل مع أفراد من الكيان الغاصب ، و بدأوا أولا بالفنانين و لاعبى الكرة – أكثر فئتين محببتين للشباب . و لابد أن أقر أنهم قد أجادوا الاختيار : فـ (نمبر وان) رمز للشباب المتمرد على قيم و أخلاق المجتمع ، الذي يأخذ حقه بذراعه – و هذا ما يتمناه أى مراهق خاصة من الطبقات المهمشة – و لن يهتم برأى المجتمع فيه لو اعترض على سلوكه ، و لهذا اختاروه ( شخص متمرد و لا ينتمى لطبقة أو جماعة و يظن أن الجميع ضده ) متمنين أن ينساق وراءه الشباب باعتبار أن التطبيع شجاعة ، و تحدى قيم الكبار بطولة ، لأن افكارهم و مبادئهم التى تربوا عليها عفى عليها الزمن .
و هم أيضا قد احسنوا اختيار من يقوم بالمهمة : فاستغلوا حب (نمبر وان) للمال و للشهرة و عبادة الترند ، و استغلوا أيضا جهله و جهالته ، حتى أنه لم يسأل نفسه سؤالا بديهيا قبل أن يقوم بما فعل : لماذا لم يزر أى رئيس مصرى إسرائيل من بعد زيارة السادات و حتى الآن ؟ ، أو لماذا تتدرب قواتنا المسلحة – التى كان فردا منها – على مقاومة عدو قادم من الشرق ؟
و يقال إنهم دفعوا امولا ضخمة و أسرفوا فى وعود الإنتاج العالمى من أجل سهرة و عدة صور ، و لكن النتيجة كانت عكس ما يتمنون ، فالعاصفة التى ثارت فى وجه (نمبر وان) و أفشلت مخططهم كانت عاتية ، حتى أنها قلبت المخطط رأسا على عقب ، و بدلا من انسياق الشباب خلفه أصبح محط سخريتهم ، و لهذا كان دفاع مسئولين إسرائيليين عنه دفاعا مستميتا محاولين استفزاز الجميع بمقولة : لماذا تتخوفون من التطبيع ؟ هل السلام مخيف لهذه الدرجة ؟
أما هو فقد أساء اختيارهم ، فعندما حاول إخفاء الأمر ، و حذف الصور و وضع علم فلسطين ، و طالب صديقه الإماراتى بحذف الصور ، نشروها هم على موقعهم باللغة العربية حتى يراها القاصى و الدانى و كأنهم يقولون له لقد تورطت معنا و لا سبيل إلى الفكاك ، أو بلغة مسلسلات (نمبر وان) : انت مش هتعمل ماتعرفناش بعد ما هبرت مننا هبرة كبيرة . و بذلك تم فضحه عن طريق أصدقائه الجدد .
و الحقيقة أن موضوع التطبيع ليس خاصا فقط بالأجيال الشابة ، فما تم فى مهرجان الجونة قبل واقعة الممثل بقليل يثبت أن هناك لبسا فى ماهية التطبيع و حدوده ، هذا اللبس يحتم علينا مناقشة الأمر من كافة جوانبه ، فمنذ أيام قلائل و بسبب ( الجونة ) دخلت نقاشا مع أصدقاء أثق فى حسهم الوطنى و السياسى يقولون أن التعامل الفنى مع الكيان الغاصب لا يعتبر تطبيعا ، و كان ردى أن مقاومة التطبيع لا تشمل مقاطعة كافة أشكال التعامل مع الكيان الصهيونى فقط ، بل مقاطعة مناصرى هذا الكيان و المتعاملين معه . فلماذا ؟
علينا أن نعترف أولا بأن إسرائيل دولة قامت على اغتصاب أرض الغير ، و طرد سكانها الأصليين بالترويع و الترهيب و تخصصت فى إقامة المذابح طوال تاريخها ، بدءا من قتل من 250 إلى 350 فرد فى مذبحة دير ياسين عام 1948 – و التى كانت سببا رئيسيا فى نزوح الفلسطينيين بعيدا عن أرضهم – و حتى مذبحة قانا الثانية فى 2006 مرورا بمذابح متعددة و كثيرة و مخجلة ليس فى فلسطين وحدها بل امتدت إلى لبنان مثل صبرا و شاتيلا و غيرها . و أنت بتعاملك مع هذا الكيان تقر بموافقتك الضمنية على ما يقوم به من مذابح ، و أن أسلوبه فى الترويع لا يقلق ضميرك و لا يحرك فيك إنسانيتك .
و إذا تركنا تلك النقطة على اعتبار أن هذه المذابح جرائم سقطت بالتقادم ، و أن الكيان الغاصب لن يقوم بمذابح أخرى بعد الاتفاقيات الجديدة ، ستجد سؤالا صادما أمامك : هل توافق على ممارساته العنصرية الحالية مع الفلسطينيين و تراها ممارسات عادية و طبيعية ، فى حين أنك تتعاطف مع ضحايا عنصرية الشرطة الأمريكية !! و هل استخدام القوة المفرطة و الاغتيالات و الاعتقال لأصحاب الأرض الأصليين لا تمثل لديك جرائم ؟ هذا إذا تنازلنا أصلا عن رفضنا للاستعمار بكافة أشكاله ، و تعامينا عن أنه كيان غاصب و أن لأصحاب الأرض الأصليين حقوقا منها على سبيل المثال لا الحصر : حق العودة إلى أراضيهم التى أجبروا على النزوح عنها سواء فى الداخل أو الخارج .
و إذا ادعيت أن كل هذا الصلف و الجبروت فى التعامل مع السكان الأصليين سينتهى بالاتفاقيات الجديدة ، يؤسفنى أن أوقظك على حقيقة دامغة هى أن هذا كيان لا يحترم اتفاقياته و معاهداته ، بل تصبح هذه الاتفاقيات مجرد مرحلة أو استراحة يمارس من خلالها سياسته التوسعية ، و هاهو يبتلع الأراضى الفلسطينية عن طريق ضم الأراضى و بناء المستوطنات على أراضى السلطة الفلسطينية التى اتفق على تركها من قبل . بل إن اتفاقه الموقع بينه و بين السلطة تحول الى حبر على ورق و لهذا قامت الانتفاضة الثانية – التى راح ضحيتها 4412 شهيد و مثلهم أو أكثر جرحى – بعد عشر سنوات من اتفاق أوسلو بين السلطة و الكيان ، نتيجة لعدم تحقق أى شيئ عملى على الأرض و مازال الموقف منذ انتهاء الانتفاضة فى 2005 على ماهو عليه بل يزداد سوءا.
و حتى اتفاقه الجديد مع بعض الدول العربية و الذى تم تبريره بأنه من أجل وقف الاستيطان ، أقول لك أن الاستيطان لم و لن يتوقف، و الدليل على ذلك أن يوم الأربعاء الماضى كانت السلطة الفلسطينية تعترض على ابتلاع أراضى جديدة لبناء مستوطنات .
و إذا قلنا أن هذا يخص فلسطين و لا علاقة لنا كمصريين به ، فهل ننسى ما تم فى حرب 67 من دفن الأسرى المصريين أحياء – و هى قضية تطفو على السطح كل فترة و لم يتم حسمها أو الانتهاء منها – و لم يخجل (نمبر وان) من أن يضع صورته بالزى العسكرى على صفحته متناسيا دم الشهداء ، متناسيا أن هذا الزى ارتداه إبراهيم الرفاعى و أيمن حسن و محمود نور الدين و سليمان خاطر من قبل ، و لكنه فى سبيل استعطاف الجماهير يتصرف بلا خجل ، فهو يعتبر تلك الجماهير مثله بلا ذاكرة ، أو من السهل الضحك عليها . و إذا قلنا أنه علينا نسيان موضوع شهداء الحرب ، ففى الحرب كل شيئ مباح – برغم أن القوانين الدولية تجرم قتل الأسرى – فهل ننسى مذابح للمدنيين تمت على الأرض المصرية ، بقتل أطفال مدرسة بحر البقر ، و عمال مصنع أبو زعبل ؟
فهل ما بيننا و بين إسرائيل هو خلاف انتهى بعقد اتفاقيات الصلح ؟
بالطبع لا ، فمازالت إسرائيل تتمسك بأن لها حقوقا تاريخية فى أرضنا العربية من النيل إلى الفرات ، و أنها تسعى لتحقيق ذلك حتى و لو توقفت لزمن توطئة لهجوم جديد ، سواء أكان هجوما عسكريا أم هجوما اقصاديا بعد أن اتخذت الحروب أشكالا حديثة ، لذا فهى تحاول طوال الوقت أن تربط اقتصاديات الدول العربية باقتصادها ، معتبرة أن الوطن العربى يملك المواد الأولية لكثير من الصناعات و الأيدى العاملة الرخيصة و باعتبارها مالكة للتكنولوجيا المتقدمة فما المانع أن تقود هى الوطن العربى ليصبح المصدر و المصب باعتباره أكبر سوق مستهلك ، و كانت اتفاقية الكويز أكبر مثال لمحاولاتها فرض السيطرة ، و هى اتفاقية تتيح تصدير منتجات الصناعة المصرية و الأردنية الى الولايات المتحدة بدون جمارك أو حصص محددة بشرط وجود جزء مشارك من إسرائيل لا يقل عن 11 % فى تلك المنتجات . و هى اتفاقية تقحم إسرائيل فى كافة الصناعات التى تصدر إلى الولايات المتحدة غصبا و تضع الاقتصاد أضا تحت رحمة الجالس فى البيت الأبيض للضغط كما يهوى .
كما أن اسرائيل – التى ضمنت لنفسها التفوق العسكرى بامتلاك أكبر سلاح طيران بالمنطقة قادرة على أن تمد يدها إلى أى بقعة لتضربها بسهولة و منعت أمريكا على دول عربية كثيرة محاولة التساوى فى القدرة مع اسرائيل ، بل أقامت الدنيا و أقعدتها بسبب محاولات إيران الدخول إلى العصر النووى ، و قامت بعدة مناورات سياسية و ضغوط لمنع وصول إيران إلى مرحلة التخصيب النووى فى حين أن إسرائيل تمتلك ما يقرب من 200 قنبلة نووية و لديها نشاط فى المجال النووى منذ الخمسينات . و لم يقترب أحد من هذا الموضوع ، و حتى عندما نادى حسنى مبارك بإخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية تم اعتبار أن الموضوع موجه إلى إيران فقط و تعامى المجتمع الدولى أو الشرطى الأمريكى عن ترسانة إسرائيل النووية .
فهل يجب أن نمتثل مادامت الدول تعقد الاتفاقات و المعاهدات مع الكيان الصهيونى ؟
إن لكل دولة ظروفها التى تقوم على أساسها بعقد المعاهدات و بما أن العالم العربى لا يهوى الشفافية ، فنحن لا نعرف أى ظروف دفعت الدول التى طبعت مع إسرائيل ، و لا نملك أن نناقشها و لكننا نملك ألا نسير فى موكب التطبيع ، و التاريخ بين هذه الدول و بين إسرائيل ليس بسواد تاريخنا ، كما أن اسرائيل لا تريد فقط التطبيع مع الدول بل تهتم أكثر بالتطبيع مع الشعوب ، ما قيمة أن تستورد الحكومة – أى حكومة – بضائع اسرائيلية مادام أفراد الشعب لا يشترونها ، ما قيمة السلام البارد الذين لا يتيح لإسرائيل التغلغل فى المجتمع و المشاركة فى نشاطاته الفكرية و الفنية لكى تدرسه تمهيدا لتقويضه فى اللحظة الحاسمة ؟ ، و ما أقول لا علاقة له بنظرية المؤامرة ، بل بناء على شعار إسرائيل التوسعى ( من النيل الى الفرات ، هذه ديارك يا إسرائيل ) ، و الذى لم يتم فى أى مرحلة نفيه أو تعديله ، و الحقيقة أنهم لا يملكون هذا ، لأن تعديل الشعار ضرب لأسس قيام دولة اسرائيل ، فهى دولة دينية ، قامت لتضم أفراد ديانة واحدة يعتبرون أنفسهم الأفضل و الأرقى ، و فى صميم تلك الديانة جاءت نبوءة الرب بامتلاك أرض ( الهمج ) من النيل الى الفرات ، و أعطاها الرب لأبنائه الاسرائيليين منحة ، محبة منه و تقديرا لهم . و التخلى عن تلك المنحة تخلى عن صلب العقيدة و إهدارا للدين الذى هو عماد تلك الدولة .
هل نقف وحدنا فى الميدان ؟
برغم الأخبار المتواترة عن اتفاقيات أخرى قادمة ، إلا أن المفرح أنه فى الدول التى طبعت من قبل مازال هناك قابضون على الجمر فى الأردن و فى مصر ، و هناك فى البحرين جمعية لمقاومة التطبيع و هناك جمعيات و أفراد يصدرون البيانات ضد التطبيع ، و أعتقد ان نفس الشيئ فى بعض الإمارات ، و لكن للأسف الشديد يتم حجب تلك الأخبار !! ، و عندما تكتب على محرك البحث أى عبارة خاصة بمقاومة التطبيع فى الخليج ، ستجد الكثير من الموضوعات و لكنها محجوبة كلها للأسف .
و فى النهاية أشارك الروبى فى شكر (نمبر وان) ، فلقد نبهنا أننا قادمون على معركة شرسة ، أما هو فعليه أن يحتمل ما سيجرى له ، فلقد قبض ثمنه مقدما ، و لقد سعى طويلا لأن يكون قدوة ، فعليه أن يحتمل أن يكون عبرة ، و فى نفس الوقت أرى أن يجلس المثقفون و الفنانون مرة أخرى – من خلال اتحاد النقابات الفنية – لنعيد تذكير اأفسنا بمبادئ رفض التطبيع و طريقة ممارسته و عقوبة ممارسيه ، فقد اختلطت الأوراق عن عمد.