المصريون يصنعون أبطالهم والفن يجعلهم أساطير
بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
هل الشعب المصري هو الذي يصنع أبطاله؟ هو الذي يضعهم فوق جبل المجد؟ هو الذي يصنع منهم أسطورة؟ ، إن كان الأمر كذلك فلك أن تأسى على أبطال حقيقيين كانوا في مصر منذ مئات السنين ثم سقطوا من ذاكرة المصريين، وتاهو في زحام الأيام والأحداث فأصبحوا منسيين، وبالرغم من أن بعض كبار الكتاب حاولوا أن يبعثوا هؤلاء الأبطال إلى الحياة مرة أخرى إلا أن الضمير الجمعي للشعب لم يتقبل منهم هذا الإحياء، وقد أوجعتني جدا قصة (السلطان حامد) التي كتبها الكاتب المبهر يوسف إدريس وضمها إلى مجموعته (حادثة شرف) تحت عنوان (سره الباتع) وأنا أرجوكم جميعا أن تقرأوا تلك القصة التي إن لم يكتب إدريس غيرها لكفته لكي يكون تشيكوف العرب وأمير القصة بلا منازع.
وقد تعجبتُ! لماذا لم يصبح (السلطان حامد) بطلا شعبيا تتناقل الأجيال قصته، ويغني له المنشدون، ويكتب سيرته وبطولاته الشعراء؟! ، لقد كانت بطولة السلطان حامد إبان الحملة الفرنسية من البطولات التي تحير الألباب، هو في الحقيقة لم يكن سلطانا ولكنه كان فلاحا بسيطا من قرية (شطانوف) آل على نفسه أن يقاوم الحملة الفرنسية فقتل أحد جنودها، وعلى أثر ذلك تحركت قوات الاحتلال لتقبض عليه، وقد كانت لديه علامة لا تغيب عن أحد، يستطيعون معرفته من خلالها، هى أن له في يده اليسرى إصبع مقطوع، وعلى جبينه وشم عصفورة، ولكي لا يعثر عليه جنود الفرنسيين قام مئات الشباب من القرى بقطع إصبع من كفوفهم، ورسموا وشم العصفورة على جبينهم.
كان تعاطف الفلاحين مع حامد وحبهم له لا نظير له، إلى أن قتله الفرنسيين وقطعوا جسده، فأقام الفلاحون له ألف مقام في قرى مصر كلها، وكأنهم يعيدون قصة أوزوريس، وكأن بهذه “المقامات” سيعود حامد إلى الحياة. . ياللجمال ويا للروعة، ولكن لماذا نسينا تلك القصة؟! لماذا لم نخلدها؟! ولم نعرف عنها شيئا إلا من خلال بحث قام به يوسف إدريس بعد أن عرف تفاصيله من كتاب فرنسي يؤرخ للحملة الفرنسية على مصر، ثم كتبها إدريس في مجموعته القصصية (حادثة شرف) ، بل لماذا لم نخلد البطولات الحقيقية التي قام بها أبطال ضن الزمان بهم على كل الأمم وخصَّنا بهم؟!، وفي ذات الوقت إذا بقصة “ياسين وبهية” تخلد في ضمير المصريين! وتصبح قصة “علي الزيبق” من القصص الخالدة في الوعي المصري، أما أدهم الشرقاوي فقد أصبح بطلا شعبيا، وسارت الدراما على استحياء وراء تلك القصص وساهمت في تخليدها.
ولأن للمصري جيناته الخاصة به والتي تحتاج إلى دراسة معمقة لذلك قام الضمير المصري بصياغة قصص علي الزيبق وياسين وأدهم الشرقاوي بما يتناسب مع الروح المصرية الرافضة للاحتلال، وللسلطة الموالية للمحتلين، ففي الفترة التي احتل فيها العثمانيون مصر صنع المصريون بطلا لهم هو علي الزيبق الذي كان “ضد السلطة” هذه هى ترجمة للنفسية المصرية التي ذاقت الويلات من سلطات الاحتلال، لذلك كان من يقف ضدها بطلا ولو كان لصا، أو قاتلا، أو سفاحا، أو عربيدا، لا يهم، فالمهم أنه ضد السلطة، وفي أوائل القرن العشرين كان أدهم الشرقاوي بطلا لأنه كان ضد السلطة، وأيا كانت الوسيلة التي عبَّر بها عن تمرده، سواء كانت بالقتل أو السرقة أو غيرها، إلا أنه تحوَّل في خيال الجماهير إلى بطل شعبي، في ذاك الزمن كان المصري يُستخدم في السخرة لخدمة الانجليز، وكان الانضمام للجيش مصيبة ما بعدها مصيبة، حتى أن الفلاح الفقير كان يقطع اصبعه حتى ينجو من التجنيد، وكانت الأم المصرية يستولي عليها الأسى حينما يذهب ابنها للجيش لأنه سيكون من أفراد جيش العدو، فخرج الضمير المصري بأغنية “يا عزيز عيني أنا بدي اروَّح بلدي، يا عزيز عيني السلطة أخدت ولدي” ، وفي تلك الفترة أيضا خلَّد المصريون قصة ياسين وحبيبته بهية، وأخذ المصري يبحث عن كل متمرد على السلطة ليمنحه نيشان البطولة ويهبه حب المصريين.
وإذا نظرنا للدراما وصلتها بالبطل الشعبي قبل ثورة 1952 سنجد أن السينما والإذاعة والمسرح لم يكن لهم أي اهتمام بالبطل الشعبي صاحب البطولات الأسطورية، إلا أن الثورة أعطت للمصريين وعيا جديدا، إذ أصبح رئيس السلطة جمال عبد الناصر هو بذاته البطل الشعبي الذي نصرهم ضد المحتل وأتباعه، وضد سلطة سابقة حرمتهم من حقوقهم، لذلك ما أن جاء عام 1960 حتى أخرجت لنا السينما فيلم (بهية) ، وهو يحكي قصة ياسين، وحبيبته بهية، وكان لابد وأن يكون ياسين وسيما وقويا، ولم يكن في السينما من يقارب رشدي أباظة في وسامته وقوته، لذلك كان هو ياسين، وكانت بهية هي لبني عبد العزيز بملامحها المصرية الفرعونية.
وفي هذا الفيلم شاهدنا ياسين المصري الذي يبحث عن الحق ويقاوم الظلم، ومهما حاول المؤرخون في نفي بطولة ياسين واتهامه بالإجرام إلا أنه ظل عنوانا للبطولة، وكيف لا يكون ورشدي أباظة هو من قام بتشخيصه؟! وكيف لا يكون والظالم الإقطاعي حاول أن يغتصب حبيبته بهية؟! وكيف لا يكون وياسين هو الذي ينقذها من بين براثنه؟!، وفي عام 1962 تتوقف الحياة في مصر كل يوم جمعة عند إذاعة مسلسل “أدهم الشرقاوي” في الإذاعة المصرية، وقد كان هذا المسلسل الإذاعي عبارة عن ملحمة غنائية أداها المطرب الشعبي محمد رشدي، وكانت هذه الملحمة هي سلم النجاح بالنسبة له، إذ ذاعت شهرته بعدها وأصبح من كبار المغنيين، وقد شارك في ملحمة أدهم الشرقاوي مجموعة من كبار الفنانين على رأسهم محمد السبع صاحب الصوت العميق، وكريمة مختار وأحمد أباظة شقيق رشدي أباظة.
اهتم المصريون بالبطل أدهم الذي وقف ضد الظلم وتحمَّل السجن، وقاوم السلطة والمحتل، ووقف ضد ظلم الباشا وزوجته، ووقف مع أهل قريته ليدفع عنهم استبداد الاحتلال، وينجح في تحطيم قضبان السكة الحديد، لينقلب القطار المحمل بالجنود الإنجليز، وبطولات أخرى كثيرة، ولاشك أن الشعب المصري عند إذاعة تلك الملحمة كان فخورا ببطله الشعبي جمال عبد الناصر، معتقدا أنه نبت من تلك الأرض التي نبت منها أدهم، لذلك كانت المقاربات في أذهان الناس تدور بين أدهم الشرقاوي وجمال عبد الناصر، وستظل هذه المقاربات في الخيال الجمعي للمصريين.
وفي عام 1964 تُخرج لنا السينما فيلما يروي قصة أدهم الشرقاوي، قام ببطولته عبد الله غيث بعبقريته، فهو الفلاح ابن الفلاح، ابن منيا القمح بمحافظة الشرقية، وهو الذي عاش في الريف ويعرف مشاعر الفلاحين وحرصهم على أقواتهم وحرياتهم ورفضهم للظلم، وتأتي لبنى عبد العزيز المصرية ذات الملامح الفرعونية في دور البطولة، وكأنها هي دائما المصرية الأصيلة، ويبدو أن بزوغ نجم محمد رشدي في ملحمة أدهم الشرقاوي الرائعة جعل عبد الحليم حافظ يأخذ مكانه، ويكون هو المغني والمنشد الثوري في هذا الفيلم، لم نر صورته ولكننا سمعنا صوته، فأعطى للفيلم رونقا ملحميا خاصا، ونجح الفيلم نجاحا كبيرا، وانقلبت الآية فأصبح عبد الحليم هو الذي ينافس محمد رشدي، وكان هذا الفيلم من الأفلام القليلة التي قام عبد الله غيث ببطولتها المطلقة، وقد استطاع فيه تجسيد شخصية الفلاح المصري عندما يصبح بطلا أسطوريا.
كل هذا كان له مذاق، ولكن علي الزيبق كان له مذاق آخر، فمن كتبها للإذاعة هو سيد الأدب الشعبي فاروق خورشيد، ومن مثلها في الإذاعة من قبل هو عبد الرحمن ابو زهرة الذي قدم في المسلسل الإذاعي دور عمره، وأيضا قام محمد وفيق ببطولة مسلسل إذاعي عن علي الزيبق، وتم تقديم هذه الشخصية في المسرح، ولكن الذي أظهر نبوغه في أداء تلك الشخصية فهو فاروق الفيشاوي في المسلسل الشهير (علي الزيبق) الذي شاهدناه عام 1985، ذلك المسلسل الممتع المشوق الذي كتبه الكاتب والأديب الرائع يسري الجندي، وكنت أرى في هذا المسلسل ليس براعة التمثيل والإخراج فحسب، ولكنني كنت أرى مباراة ممتعة في التأليف بين فاروق خورشيد ويسري الجندي، تلك المباراة التي كانت نتيجتها التعادل، إذ لم يستطع أحدهما أن يتفوق على الآخر، وقد كانت هذه المبارة هى المتعة الكبرى، ففاروق خورشيد كتب علي الزيبق للإذاعة، وخيال المستمع في الإذاعة يلعب دوره ويضيف من عندياته للأحداث، أما التلفزيون فلا يدع مجالا للخيال، هو يحبسك في خيال المؤلف، وتنفيذ المخرج، وأداء الممثل، فإما أن يبهرك، أو يجعلك تهجره، علي الزيبق في المسلسل الإذاعي، وأيضا في التلفزيوني هو البطل المصري شديد الذكاء واسع الحيلة، هو الذي يقف ضد الوالي العثمانلي الظالم، ويحارب القاضي الفاسد حلاوة، ويدبر المقالب لشميعة اليهودي المرابي، ويهزم مقدم الدرك (سنقر الكلبي) المرة تلو المرة، ويدك معاقل التجار الجشعين، وقد كانت أحداث المسلسل الإذاعي قمة في التشويق، ولك أن تتيه فخرا بأن مصر لديها ممثل في قدرات عبد الرحمن أبو زهرة الذي تفوق على نفسه.
فإذا نظرت إلى المسلسل التلفزيوني فلا أظنك ستحب إنسانا قدر حبك لفاروق الفيشاوي الذي قدَّم في هذا المسلسل دور عمره، بمعنى أن أي عمل فني قدمه الفيشاوي عبر حياته كان بالنسبة لعلي الزيبق لا شيء، كل أفلامه ومسلسلاته تقف أما الزيبق حاسرة الرأس محنية الهامة، قدَّم لنا الفيشاوي شخصية علي الزيبق فجعلها مطبوعة في الوجدان المصري لا يمكن لأحد أن يخلعها منه أبدا، لذلك فإن فترة الثمانيات قدمت لنا شخصيتين ألهبتا مشاعر المصريين، بل والعرب جميعا، هما علي الزيبق، ورأفت الهجان، وكلما كنت أشاهد أعمالا أخرى للفيشاوي كنت أقول: إن علي الزيبق هى بيضة الديك بالنسبة للفيشاوي، فقد بلغ فيها آفاقا عالية، وجعلنا نحب هذا البطل الشعبي ونتمنى أن يتكرر في كل جيل، ولم يستطع الفيشاوي أن يقدم لنا عملا آخرا أو شخصية أخرى تقترب في قامتها من علي الزيبق، أما محمود عبد العزيز فقد كانت له بيضات ذهبية كثيرة أعظمها رأفت الهجان.