الجونة.. السينما مهمشة والتعري طاغ!
بقلم : محمود حسونة
انفض مولد الجونة (السينمائي)، بعد أن سيطرت عليه عروض الأزياء وغطت على عروض الأفلام، وتسابقت وسائل الإعلام على نقله لنا وكأنه مهرجان للموضة وليس مهرجاناً للسينما، ولم ينشغل لا رواده ولا الإعلاميين المتابعين له بما عرض خلال فعالياته من أفلام قدر الانشغال بملاحقة النجمات والباحثات عن الشهرة من ضيفاته المغمورات، اللائي يعتقدن أن الطريق إلى الشهرة لا يكون من خلال دور متميز في عمل جيد بل من خلال حضور مهرجان بفستان أو فساتين لا يتجاوز دورها دور ورقة التوت، بعد أن تجاوز العري الحدود، ووصل إلى السرّة وتفننت ضيفات المهرجان في الكشف عن ما يزعج كشفه، من دون مراعاة أبسط خطوط الموضة، واختلطت مفاهيم الموضة الراقية مع مفاهيم الانحطاط في الذوق.
عندما تم الإعلان عن انعقاد مهرجان الجونة السينمائي، أثلج الخبر صدور كل عاشق للفن السابع، وكل حريص ألا تغرب شمس هذا الفن عن حياتنا مهما كانت التحديات، واعتبرنا أن عودة المهرجانات هي الوسيلة الأمثل لعودة الحركة إلى بلاتوهات السينما والمشجع الأكبر لعودة المنتجين والممثلين والمخرجين لقيادة إنعاش فن ترك بصماته الإيجابية على حياتنا، وأيضاً هي المشجع لعودة الجمهور إلى قاعات السينما، بعد أن فشلت محاولات إغرائه بالعودة للصالات في ظل الإجراءات الاحترازية، وظل رعب كورونا يشكل حاجزاً بينه وبين هذه العودة.
اعتقدنا أيضاً أن المهرجان وما يتضمنه من عروض لأفلام وندوات عنها ومناقشات إعلامية وفنية لها ومقالات صحفية تنتقدها سيكون كفيلاً بإعادة الناس إلى السينما، ولكننا فوجئنا بغياب كل ذلك عن العلن لتشغل الفنانات الأضواء بعرض واستعراض الفساتين الكاشفة لكل مثير على السجادة الحمراء، ومواصلة هذه (الاستعراضات) طوال أيام المهرجان وعدم اقتصارها على حفل الافتتاح، وانشغال الإعلاميين ومواقع التواصل الاجتماعي بالحديث عن أجمل وأسوأ إطلالات والمديح في فستان هذه الفنانة والسخرية من فستان تلك، والإشادة بمصمم وإهانة آخر، لدرجة أن من يحاول البحث أو (يجوجل) عن مهرجان الجونة يجد قائمة طويلة من الموضوعات والفيديوهات التي تتناول إطلالات الفنانات، ويعاني في البحث عن تغطية صحفية كلاسيكية أو رؤية نقدية أو تحقيقاً حول قضية فنية أو متابعة لفيلم أو مقال يحمل رأياً وموقفاً عن الافتتاح أو الختام أو ما بينهما، ونادراً ما يوفق في إيجاد مبتغاه.
الفن السابع الآن يعاني أزمة غير مسبوقة، تهدده وجودياً، ولكي يعود إلى المكانة التي حققها قبل أن يصيبه وباء كورونا في مقتل، لا بد من تضافر جهود صناعه وعشاقه وداعميه، وبعد أن وجدنا ذلك من مهرجان (فينسيا) في إيطاليا ومهرجان (سان سيباستيان) الأسباني، واللذين سبقا مهرجان (الجونة) في العودة، انتظرنا أن تكون عودة هذا الأخير بهدف دعم السينما والمساهمة في إعادة الروح إليها بخلق حالة من الجدل في أروقة وقاعات المهرجان وعلى وسائل الإعلام حول أحوالها والمخاطر التي تهددها، إلا ان المتابع يصدمه ظهور المهرجان وكأنه سباق للفساتين وللعريّ منذ ليلته الأولى، ففي ليلة الافتتاح أطلت (لميس الحديدي) لتقدم سهرة خاصة عن المهرجان، وجاءت السهرة أيضاً غير معنية بفن السينما ولَم تنشغل المذيعة سوى بالإطلالات والفساتين والكلام الاستهلاكي الذي لا يقدم ولا يؤخر، وهو ما يوحي أن كل ذلك لم يكن مصادفة ولكنه توجه وخيار مدروس وقرار متخذ.
الكلام الذي أثير عن الجونة قبل انعقاد (المولد) كان معنياً بالسينما أكثر مما أثير عنه خلال انعقاده، ولعل السبب أن المتابعات المسبقة لانعقاد المهرجان كانت معنية بقضية أساسية وهي تكريم الفظ غليظ القلب واللسان والسلوك (جيرار ديبارديو)، الذي لا نعرف له ملة ولا جنسية، ولا نعرف عنه سوى أنه داعم للكيان الصهيوني إلى درجة الموت ومعادٍ للعرب بنفس الحدة، وأن بلده فرنسا لم تكن تعنيه مثل إسرائيل، لذا لم يكن صعباً عليه أن يتنازل عن جنسينه الأم تهرباً من الضرائب والارتماء في أحضان الدب الروسي الذي استخدمه لتصفية حسابات سياسية، ولعلنا لم نجن شيئاً من تكريم الجونة لديبارديو، ضارباً عرض الحائط بقرار اتحاد النقابات الفنية وكل النقابات المصرية وبإرادة الشعب، لم نجن سوى ما نراه اليوم من انقسام بين الفنانين، ليتحولوا إلى حزبين، حزب يؤيد المهرجان وديبارديو وحزب يصر على مقاطعة كل داعم لإسرائيل فنياً وسينمائياً، ونتمنى أن لا ينعكس ذلك سلباً على علاقات الفنانين ببعضهم البعض، خصوصاً وأنهم لا تنقصهم خلافات.
هذا الكلام ليس رفضاً للموضة، ولكنه رفض للبذاءة في الموضة والانحطاط في الذوق، فالموضة شيء والخلاعة شيء آخر، وما بينهما فرق كبير، ولا خلاف على أن متابعي المهرجان تلقوا جرعة كبيرة من اللاذوق خصوصاً وأن إدارة المهرجان كرست ذلك بتنظيم فعالية “الريد كاربت” يومياً، وتحويل النجوم إلى عارضي أزياء، وهو ما لا تنشغل به مهرجانات السينما العالمية الكبرى التي يكون هدفها دعم وتشجيع فن السينما لا استغلاله لمآرب أخرى.
لا ننكر أن المهرجان استضاف أفلاماً ونظم مسابقات وشكل لجاناً ووزع جوائز، ولكن كل ذلك لم يأخذ المساحة المستحقة إعلامياً، وطغى الاهتمام بالفساتين والموضة وآخر صيحات التعري على كل ما عداها، لتزيح فن السينما وتأخذ مكانه بل وتشوه صورته أمام من يكونون صورة عن المهرجانات من خلال ما يصلهم عنها إعلامياً.
بقدر ما سعدنا عندما تم الإعلان عن تنظيم المهرجان بقدر ما أحزننا تهميشه لجوهر السينما، فطغت القشور وصار (الجونة) حكاية فستان وفتحات ظاهرة من أوله إلى آخره.
mahmoudhassouna2020@gmail.com