سلامٌ على يحيى الفخراني
بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
أقر وأعترف أن يحيى الفخراني في بدايته لم يجذبني، كنت أراه ممثلا عاديا مثله مثل عدد كبير من الممثلين ظهروا ثم اختفوا، أو ظهروا وظلوا في منطقة الوسط، فلم يصعد نجمهم ولم يصلوا إلى القمة، والقمة التي أقصدها هى قمة الإبداع وليس قمة الشهرة، فكم من الممثلين حصلوا على شهرة طاغية ولكن موهبتهم كانت محدودة.
في بدايات يحيى الفخراني كنت أراه هو ولا أرى الشخصية التي يؤديها، كانت طريقته واحدة في كل الأدوار، هو الفخراني عند الانفعال وعند الهدوء وعند الابتسام والضحك، يؤدي بنفس الطريقة وهو يتقمص كل الشخصيات، لذلك كنت أرى الفخراني ولا أرى الشخصية التي يؤديها، وأصدقكم القول إنني كنت أصاب بالملل من طريقته الواحدة.
ولكن فجأة حدث شيء ما لا أعرفه جعل من الفخراني شخصا آخر، وكأن ساحرا أسطوري وضع عصاه على رأس الفخراني فإذا به ينتقل إلى وداي العباقرة، كان ذلك في مسلسل ليالي الحلمية، وكان الدور الذي يؤديه هو الباشا سليم البدري، ذلك الباشا الثري الأرستقراطي الذي ينتمي إلى أصول مصرية عادية، أنشأ والده مصنعا للغزل والنسيج وجمع ثروته من تلك الصناعة الوطنية، وعلى مدار أجزاء هذا المسلسل كنت أرى سليم البدري، ونسيت يحيى الفخراني تماما حتى عندما كانت حلقة تفوتني فكنت أسأل من تابعها عن سليم البدري وليس عن الفخراني.
كانت ليالي الحلمية هى رحلة صعود الفخراني إلى قمة العبقرية، فعبر عدة مسلسلات قام بأدوار مختلفة في التلفزيون، فتارة يكون الرجل المدلل المستهتر “حمادة عزو” الذي يعيش في حضن أمه، وتارة يكون شيخ العرب همام ذلك الرجل الأسطوري صاحب الشكيمة القوية، وتارة أخرى يكون المحامي البارع الذي كادت أن تنتهي حياته المهنية والذي كان مولعا بحفلات الأوبرا حتى يظهر نبوغه في قضية شهيرة، ولكن كل هذا كوم ، والخواجة عبد القادر كوم آخر، ولا أظن أن أحدا في مصر سابقا أو حاليا كان يستطيع أن يؤدي هذا الدور كما أداه الفخراني، هذا دور ينبغي ان تتوقف الدراما المصرية من أجله كي تؤدي له عظيم السلام والاحترام، والحقيقة أنني أحببت الخواجة عبد القادر وعشتُ معه ومن خلاله أمتع لحظات حياتي، ففي شهر رمضان منذ عدة سنوات عاد الخواجة عبد القادر إلى الحياة مرة أخرى، عاد بصورته التي شخصها الفخراني، عاد الخواجة عبد القادر للحياة لأن العبقري يحي الفخراني نسي نفسه وأصبح هو الخواجة عبد القادر بنفسه.
وقد أحدثت قصة الخواجة عبد القادر أثرا كبيرا في حياتي في فترة إذاعة المسلسل عام 2012 ، كان المسلسل يذاع في شهر رمضان، وشهر رمضان في هذا العام الثقيل جاء بعد وصول الإخوان للحكم في مصر بشهر، وكانت الدنيا قد ضاقت من حولي إذ كنت أعلم الخراب الذي يخطط له الإخوان لمصر بل ولأمتنا، فأخذت ألهج بالدعاء لله وأستغيث به عقب كل صلاة وأنا أردد “يا قادر يا قادر يا قادر” فإذا بعبد القادر “الخواجة” هو قصة رمضان التي كانت عبارة عن رسالة تلقاها من تلقاها، وفهمها من فهمها، وكانت الرسالة هي أن يد الله لا ترفع عنا أبدا، وأنه هو مسبب الأسباب القادر على كل شيء، وبقدرته لا بقدرتنا، وبحوله وبقوته دون حولنا وقوتنا سيحمي مصر.
أما أنا فقد أحببتك يا فخراني، أحببتك يا شيخ عبد القادر، ولا أدري لماذا اختلطت شخصية الفخراني عندي بشخصية الخواجة عبد القادر، حتى أنني اعتقدت أن هناك ملامح في الشخصيتين جمعت بينهما، المهم أنني أحببت قلبك يا خواجة عبد القادر الذي لا مثيل له في الصفاء، فأنت الذي قلت لمن زارك في قرية “دراو”: “إن حبي لله جعلني أحب كل خلق الله، وما كان حبي للمخلوق إلا تابعا لحبي للخالق”.
نعم، كان المهندس “هربرت دوبر فيلد” واسمه الحقيقي “جليوس فاجو بورتليمو” والذي أصبح اسمه فيما بعد “عبد القادر عبد الباقي المكاشفي” أو الخواجة عبد القادر النمساوي، كان يرفض نمط الحياة الأوروبية المادية القاسية التي لم يكن فيها أي قدر من الروحانيات، نعم كان الخواجة عبد القادر النمساوي يحب الخمر ويعبها عبا إذ كان يجد فيها ملاذه، أو قل إنه كان بها يهرب من قسوة الحياة، وانشغال الناس بأنفسهم، واحتقارهم للعلاقات الإنسانية الودودة، ولكنه ذات يوم بعد أن لعبت الخمر برأسه رمى نفسه على فراشه في بيته الصغير، وحينما استيقظ وجد نفسه ملقيا على الأرض بجوار الفراش، وكأنما أصابت جسده هزة عنيفة ألقته على الأرض، وعندما أغمض عينيه مرة أخرى راح في سبات عميق، وفي سباته هذا رأى رجلا اسمرا يعتمر عمامة بيضاء على رأسه، وكان هذا الأسمر ينظر له ويبتسم ويشير له بيده وكأنه يقول له: تعالا ! وشاءت اقدار الله أن يسافر هذا المهندس المخمور إلى جبل الأولياء بالسودان التي كانت جزءً من مصر آنذاك، وكانت الشركة التي يعمل بها قد أُسند إليها إنشاء خزان جبل الأولياء، وهناك في المعسكر الذي كان يقيم فيه هو ومهندسو وعمال الشركة سمع موسيقى غريبة تتهادى إليه من بعيد، كان وقعها على نفسه غريبا، إذ أشاعت في روحه الطمأنينة والهدوء وراحة البال، وكأنها انبعثت من عالم سحري لا وجود له في الدنيا، فاقترب من مصدر الموسيقى، حينئذ تخيلتُ وأنا أشاهد هذا المشهد سيدنا موسى عندما رأى نارا من بعيد، أظنكم تعرفون هذا الموقف وتحفظونه، فالله سبحانه قال عن موسى :”إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى” ولكن الخواجة سمع موسيقى فذهب إليها فوجد عندها هُدى.
كان الخواجة قبل ذلك كاد أن يكفر بالله، وكان كفره عبارة عن اعتراض نفسي على حياته، وكأنه يلقي باللائمة على الله، وهكذا معظم الملحدين، في نفوسهم نقمة فيعترضون على الله، فينكرونه، وكأن هذا الإنكار يريح ضمائرهم، وعبد القادر كان مثل هؤلاء، لم تكن حياته تسير على هدى، بل كانت عبثية، كان ناقما أن جاء إلى تلك الجبال البعيدة جدا عن بلاده، غاضبا من ناس ظلموه عندما كان يعيش في النمسا، فلم يجد ناصرا له، وتحت هذه الجبال البعيدة عن بلاده، في السودان المصرية عند جبل الأولياء بالقرب من الخرطوم، أيقن أن حياته يجب أن تنتهي، وأنه يجب أن يقضي عليها بنفسه، كانت هذه هي الأفكار التي تسيطر عليه حينما كان يستمع إلى الموسيقى التي جاء صوتها إليه من بعيد.
فإذا به ينتفض من غفوته، يا الله، فحينما وصل إلى مصدر الموسيقى ورأى الجالسين يتحلقون حول شيخ كبير ظن أن نظره يخاتله، أو أن ما شربه من قنينة الخمر أسكر بصره؟! وخدع عقله؟! فالشيخ الذي كان يجلس وسط هذه المجموعة من الناس هو هو ذلك الشيخ الذي كان يأتي إليه في المنام حينما كان في أوروبا!! أيمكن أن تنتقل الأرواح من مكانها لتزور من يُشبهها؟ وأنتم تعرفون أن شبيه الشيء مشدود إليه، هذا اللقاء إنتهى بالخواجة إلى الإقلاع عن الخمر تماما، وقد أحببت هذه الانسيابية التي صاحبت الخواجة “الفخراني” وشيخه في مسألة الإقلاع عن الخمر، وضحكت وأنا أرى الشيخ فضل الله يحذر الخواجة “عبد القادر” من ارتكاب الكبائر مثل القتل والسرقة والزنا وشرب الخمر، ويوافق الخواجة على قائمة المحرمات، ولكنه ببساطة محببة وبتلقائية مذهلة وخفة ظل طاغية ـ وصل بها الفخراني إلى قمة البساطة والسذاجة ـ يساوم الشيخ فضل الله في شرب ولو قليل من الخمر، ولكن التنبيه كان صارما، وعندما يعود الخواجة إلى بيته يضعف، ويشرب من الزجاجة التي كان فضل الله قد ملأها له، ويسكر الخواجة، ثم يعرف عبد القادر أن الذي كان في قنينة الخمر هو شراب العرديب “التمر هندي” !! وأن الله أسكره من شراب لا يُسكر! وأظن أن الفخراني وصل في هذا المشهد إلى مرحلة “الجنون” وهي مرحلة تالية للعبقرية، فلم يكن عقل الفخراني موجودا وقت هذا المشهد بل الذي كان موجودا هو عقل الخواجة عبد القادر الذي أيقظه الفخراني من الموت وجعل روحه تصاحبه وهو يؤدي شخصيته!!.
ولكن هل أصبح عبد القادر بعد إسلامه على يد الشيخ المكاشفي عالما، أو فقيها، أو مُحدثا، أو أو أو ؟ لم يكن أي شيئ من هؤلاء، ولكننا من قصته عرفنا أنه كان أعلى من كل الفقهاء والمحدثين والعلماء، مع الشيخ عبد القادر أكتشفنا أن الله يوم القيامة لن يُجري لنا يوم القيامة امتحانات في الفقه وعلوم الحديث، ولكنها الجامعات المعنية بدراسة تلك العلوم هي التي تجري تلك الامتحانات لطلابها، ولكن الله يمتحن القلوب، وقلب الخواجة عبد القادر أصبح صافيا كاللبن الحليب، ليس فيه أي شائبة، فقد أصبح لا يحفل بالدنيا، زهد فيها ونظر إليها نظرة المسافر المرتحل، ومع زهده هذا تذكرت قصة أحد الفقراء الذي كان من الزاهدين، حين تقابل مع واحد من كبار الأغنياء وكان أيضا زاهدا، فقال له الفقير: أنت أفضل مني، فأنا زاهد في الدنيا وهي ليست معي، وأنت زاهد عن الدنيا وهي معك.
كانت شخصية الخواجة عبد القادر في المسلسل بالنسبة لي رسالة من رب العالمين، استقبلتها بقلب امتلأ بالرجاء، وغضبت من كل الذين أساءوا له، ولكنني أشفقت عليهم لأنهم لا يعلمون، إذ لو كانوا يعلمون أن الله يؤتي الحكمة من يشاء من عباده، وأنه يُلهمها بعلم من لدنه لانتبهوا، ولكن الناس سيظلون في غفلتهم يعمهون، فسلامٌ عليك يا عبد القادر، سلامٌ على قلبك المطمئن، سلامٌ على نفسك الراضية، وسلامٌ على العبقري يحي الفخراني الذي كان كأنه عبد القادر.