عصا المصريين (4) .. جيبة السادات
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
بعد ما دخلت مصر – أو دخل فى مصر – عصر الانفتاح ، أصبح كل شيئ مباح ، و كل شيء متاح . عدو الأمس ( أمريكا و اسرائيل ) صار صديق اليوم ، و صديق الأمس ( الاتحاد السوفيتى و العرب ) صار العدو ، تجار المخدرات أصبحوا أعضاء برلمان ، و اللصوص هم التجار ، و هاجر معظم المثقفين إلى منافى اختيارية بالسفر للخارج ،أو منافى إجبارية بالمنع من الكتابة و التضييق الأمنى.
و مع بداية الحرب الاهلية اللبنانية ، تحولت السياحة العربية من بيروت إلى القاهرة ، فوجدت مصر نفسها بين ليلة وضحاها مطالبة أن تنحى تاريخها و ثقافتها و ريادتها كى تكسب رزقها من القادمين الجدد الذين جاؤوا محملين بزكائب الأموال ، و كأنهم الملوك يدخلون القرية كى يفسدوها.
كان التناقض حادا و قاسيا بين مصر الرائدة و القائدة و مصر التابعة و المُقادة ، ففى عصر ( الرئيس المؤمن ) تم افتتاح أكبر عدد من الملاهى الليلية فى مصر ، و فى ظل شعار ( اخلاق القرية ) تحولت أحياء بكاملها إلى شقق مفروشة ( من مجاميعه ).
و بما أن الملك يحتاج دائما الى مهرج يسليه و يرفه عنه ، و بما أنه وفد علينا عدة ملوك ، احتاجت المرحلة إلى عدة مهرجين ، و سرعان ما ظهر هؤلاء المهرجون ليس فى القصور أو الأسواق أو الحانات و إنما على خشبات المسارح ، و فجأة غصت مصر بستة عشر عرضا للقطاع الخاص فى عام 75/ 76 – بعد أن كانت أربعة فقط فى بداية السبعينات هى الريحانى و المتحدين و إسماعيل ياسين الذى ورثت مسرحه تحية كاريوكا – و معظم تلك العروض لا يقدم إلا التسلية الرخيصة و اللحم الرخيص و الضحكة الرخيصة فى عصر اتسم كله بالرخص.
لا أحد يستطيع أن ينكر أن هناك فرقا للقطاع الخاص قدمت أعمالا رائعة دخلت تاريخ المسرح المصرى و تربعت ، و لكننا نتكلم عن الغالبية العظمى التى كانت تتمثل فى تركيبة تكاد أن تكون ثابتة : راقصة و مطرب و مضحك بلا نص أو إخراج ، و كأننا عدنا لمسارح عماد الدين أثناء الحرب العالمية الأولى التى كانت تقدم مسرحيات الفرانكو آراب و اسكتشات كشكش بيه.
و صارت أرباح تلك الاعمال مضمونة و ضخمة ، حتى تحولت بعض من دور السينما إلى مسارح و من لم يجد له مسرحا ربما استأجر حديقة او كازينو ليقدم عرضا يستهدف ( الطير الأبيض ) الذي يهبط مصر صيفا و فى الأعياد و إجازة نصف العام .
كانت كل العروض ضاحكة و لكنها ليست ساخرة ، السخرية تحتاج إلى ثقافة و لها هدف ، أما الضحك فكان للضحك فقط ، السخرية لسان حال و اصطدام مع أخطاء ، أما الضحك ففيه تواطؤ على ألا نثير المشاكل ، السخرية شكوى و انتقام و الضحك لا يحب التوتر و يبحث عن الاسترخاء.
و زاد الطين بله – كما يقولون – أن الملوك الجدد طلبوا أن تكون التسلية ( ديليفرى ) بعد انتشار أجهزة الفيديو ، فظهرت أندية الفيديو التى تؤجر لك فيلما أو مسرحية تراهما لمرة و تطلب غيرهم ، إنها ثقافة ( الشكلتس ) تتناول قطعة اللبان – أو المنتج الفنى – لتأخذ منها قليلا من السكر و ترميها لتتناول غيرها ، و اشتغلت بالطبع ( أفران الفن ) لتنتج اللبان المطلوب الذى يستعمل لمرة واحدة ( مثل مناديل الكلينكس ) و عليه أيضا أن يكون ناعما لا يجرح عند الاستعمال فلا يثير قضايا أو يبعث على التفكير.
و هكذا حول البعض عصا المصريين إلى وسيلة ارتزاق بدلا من كونها وسيلة انعتاق ، و بدلا من أن تضرب المخطئ صارت تزغزغ من يدفع. و هكذا أصبح لدينا مجتمعين يحملان اسم مصر : أحدهما يحمل تاريخه و ثقافته على ظهره و يتكئ على عصاه ، و الآخر تخلص من كل ماعلى الظهر ليفسح مكانا لزى المهرج و استبدل العصا بمقرعته . و قرب نهاية ذلك العصر كانت كل رموز المجتمع الأول فى السجن.
و قبل اغتيال السادات كانت العدة تعد لدخوله سيناء على العجلة الحربية لرمسيس الثانى ليرفع العلم على بقية سيناء المستعادة ، و ترك المصريون أهمية الحدث و كان شاغلهم الأكبر هل سيرتدى السادات زيا فرعونيا كعادته فى ارتداء أزياء مختلفة ؟ و هل سيكشف الرداء الفرعونى الذى يشبه الجيبة عن سيقان السادات ؟.