بقلم : محمد حبوشة
ملامحه مميزة جدا، ونظراته تنم عن الكثير من الأفكار التي تدور داخل تلافيف عقله، هو المعنى الحقيقي للتمرد على كل شيئ، حتى أنه يتمرد على نفسه، مبدع بدرجة جنونية ، مبهر إلى حد الاندهاش، وهو فوق هذا وذاك مدرسة فنية متكاملة وأحد أعلام عصر النهضة المسرحية ومن أهم رموزها الفنية، فقد استطاع أن يضع بصمته الفنية في مسار المسرح المصري ليكون قدوة ونموذجا لأجيال تالية ومصدرا مشعا للإبداع لمن عاصروه، هو قيمة فنية إبداعية وعقلية إدارية جبارة، وهو ما انعكس على دوره الكبير في المسرح الطليعي منذ سبعينات القرن الماضي من خلال عروضه المسرحية ومن خلال إدارته لعدة مسارح كان أهمها وأكثرها تأثيرا وارتباطا باسمه الكبير هو مسرح الطليعة.
إنه المخرج المسرحي الكبير (سمير العصفوري) الذي تميزت أعماله بروح الفكاهة والسخرية الفكرية المرة والتمرد على القواعد السائدة واستلهام الصيغ الشعبية والبحث عن الجديد والمدهش، وتبدو براعته أكثر في انتقاء الإكسسوارات والموسيقى التصويرية، ويظل القلم والورقة لا يفارقانه أبداً، ينتقلان معه من مكان لآخر، على الطاولة وعلى الأرض وأحياناً فوق السرير، فإيمانه بفكرة (تفكيك النص) فى عمله كمخرج مسرحى يجعله غير ملتزم بأى قيود، لا فى مكان الكتابة ولا حتى فى تسلسلها، فكثيراً ما تجده فى كتاباته المختلفة يبدأ بالنهاية قبل البداية، وإذا سألته لماذا يتبع هذا الأسلوب، يرد على الفور: (أنا موظف عند نفسى).
المولد في بور سعيد
ولد سمير العصفوري بمدينة بور سعيد في 27 فبراير 1937، ولعل تنشئتة وسط الناس في تلك المدينة الساحلية أثرت إلى حد كبير في تكوين شخصيته، فأخذ إقدامهم، وجرأتهم، وقدرتهم على التعامل مع كل ما هو جديد والتفاعل والتكيف معه، فقد وجد نفسه فجأة داخل حركة إخراج وإنتاج مسرحية مدرسية، ووجد نفسه بطلا لهذه المسرحية، وكان أول دور يمثله في حياته هو دور (يوسف الصديق طفلا)، وكان أخواته صبيان وبنات (9 أفراد ماشاء الله) يتشاركون في عمل كل تفاصيل مايسمى بعملية الإنتاج والترويج لبيع التذاكر للتلاميذ الذين سوف يشاهدون العرض وبناء خشبة المسرح، والغريب أن البناء كان سهلا وكانت فكرته ذكية، إذ أنهم يخلعون أبواب الفصول ويقيمونها فوق مقاعد التلاميذ التي كانت تسمى (التخت)، وكانت التخت عريضة تستوعب أربعة تلاميذ متجاورين ويغلقون فتحة كبيرة في بهو المدرسة، ولأول مرة تعاون في صنع ستارة لهذا المسرح.
هذه المتعة البسيطة المرتجلة أعطت مؤشرات له ولإخوته بأنه يميل إلى هذه اللعبة (لعبة المسرح)، ولم يكن لديه الوقت ولا التفكير بأن يضع هذه الفكرة بشكل ثابت كمشروع مستقبلي، ففي السابعة أو الثامنة من العمر لا يستطيع الإنسان أن يضع مشروعا فكريا أو مستقبليا بعيد المدى، ولم يكن لديه بالطبع المؤثر الأعظم الذي يؤثر في شباب وفتيان وأطفال الجيل الحالي (التليفزيون)، نعم لم يكن لديه إلا الصوتيات، فقد كان يحيى عالم الصوتيات لا عالم الصور، وبالتالي كان يشاهد إخوته وهم يهتمون مساء الخميس ويستعدون لسهرة بجوار (الراديو)، حيث الليلة إذاعة لمسرحية لنجيب الريحاني، وكان يعاني كي يستطيع السهر ويستمتع لضحكات إخوته ساهرون سعداء سعادة بالغة بمسرحية للعملاق الكوميدي الفاتن نجيب الريحاني الذي شده فيها ذلك الصراخ وتساءل بينه وبين نفسه وهو طفل صغير: ما هذا الإيقاع الحاد وهذا الصوت الأجش وهذا الضحك المستمر وهذا المرح؟، لم يكن يفهم ما سر هذا الإعجاب الشديد بنجيب الريحاني، وماهذا الخليط العجيب من الأصوات، لكنه أدرك شيئا واحدا هو أن هذا فعل فني مسرحي يسعد الناس.
العصفوري ينصت للموسيقى
كان في بور سعيد مجموعة من الكازينوهات، يسمع (العصفوري طفلا) ألحانها المختلطة ما بين غربية وشرقية، ومن ثم فقد عاش خليطا من تلك الأصوات المتداخلة وخليطا من الضجيج، فقد كان بجوار منزله محلان أو ثلاثة على الأقل للموسيقى النحاسية، والتي تسمى في القاهرة (فرقة حسب الله) تعزف في الأفراح والمياتم الرسمية، وتعزف كثيرا من جميع الألحان لكن بطريقة (المارش)، وكان مجموعة الموسيقيين يرتدون حللا مزينة ويتحركون في خطوط منظمة .. وكان العصفوري الصغير – آنذاك – يحفظ عن ظهر قلب جميع الألحان التي سوف يعزفونها وبالطريقة التي يعزفونها، ويتعرف على نوعية آلات النفخ المختلفة كبيرها وصغيرها ويتعرف على آلات الإيقاع المتعددة، ومن سوف تلمح في أي حديث له ولعه الكبير بالموسيقى في المسرح، حتى أنه يشبة المسرح ذاته بالمقطوعات الموسيقية التي تتجسد على خشبته.
بعد أن أنهى دراسته الثانوية في بورسعيد عام 1956 انتقل للقاهرة يلتحق بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة عين شمس، في عام 1960، 1964، لكن شيئا ما ظل يطارده في أثناء تلك الدراسة النظرية وهى الإيقاع الموسيقى الذي تشبع به طفلا وصبيا كان يرقب حركة المسرح الكبير من حوله في الحياة المحيطة به في الشارع والجامعة والمسرح التي كان يذهب إليها للمشاهدة والاستمتاع، ومن هنا فقد نمى شغفه الكبير من خلال دراسة الأدب والشعر والمسرح بكلية الآداب الأمر الذي شجعه فيما بعد إنهاء دراسته أن يلتحق بمعهد الفنون المسرحية، والذي درس به 4 سنوات أخرى وتخرج كأول دفعته بتقدير جيد جدا.
فرق مسرح التلفزيون
بعد التخرج من معهد الفنون المسرحية تم تعيين (سمير العصفوري) ممثلاً ومخرجاً في فرق مسرح التلفزيون، ثم مخرجاً بالمسرح القومي، في عام 1974، وأصبح مديراً لمسرح الطليعة، وقد شهدت تلك الفنترة من حياته أنه طغت حيويته على المسرح، من حيث جرأته على التجديد والتجريب، فقد اتسم مسرح الطليعة بهوية متطورة وبنكهة (عصفورية) مميزة فأسس (قاعة 79) عام 1979 كنموذج للقاعات التجريبية بمصر، والتي تم تغيير اسمها فيما بعد إلي قاعة (صلاح عبد الصبور) تكريما لذكراه.
في عام 1982 تولى (سمير العصفوري) منصب مديرا عام المسرح القومي، ثم مستشاراً للبيت الفني للمسرح 1994، وخلال تلك المرحلة المهمة في حياته أثرى المسرح بالعديد من العروض المسرحية الناجحة التي تنوعت بين التراث والكوميديا المعاصرة ومن أشهرها (مأساة الحلاج، العسل عسل والبصل بصل، حزمني ياااه)،
وشارك في إعداد العديد من النصوص الفنية ومنها على سبيل المثال: (ومازالت المغنية الصلعاء صلعاء) ليونسكو، (بدرمان) لماكس فريش، و(زنزانة المجانين) عن رواية (عنبر رقم 6) لتشيكوف، وأخرج (سمير العصفوري) العديد من المسرحيات مثل: (نجمة الفاتنة) تأليف بهجت قمر لفؤاد المهندس مستوحاة من إيرما لادوس، (جوازة بمليون جنيه) لمسرح الريحانى، (ولاد على بمبة) مستوحاة من الأخوة كرامازوف، (انها حقا عائلة محترمة، العيال كبرت، لعبة اسمها الفلوس) وغيرها من الأعمال الرائعة.
يعيش بمبدأ أنا وذاتى
سمير العصفوري يلخص فلسفته في الحياة عبر مقولة: (ممكن أقبل وأرفض فى نفس الوقت، فأنا أعيش دائماً بمبدأ أنا وذاتى)، ويعتبرها أيضا من أبرز عيوبه، ويقول عن نفسه: أنا حكواتي.. فأنا الرجل الذي أقرأ حكايات كتبها الآخرون وأعيد كتابتها وأرويها أمام الناس مستخدما كل الحيل الفنية التي تجعل الحكاية جميلة مدهشة لافتة للنظر، ولهذا يأتي أحيانا وصفي للحظات مهمة أو لمواقف بعيدة بأسلوب حكواتي يروي قصة، وإن كنت لا أهدف هنا أن أروي قصة أو أكتب بالمعنى الفني لهذا التعبير، كذلك لايمكن أن ألغي التأثر بالنصوص المسرحية العظيمة التي كتبها مؤلفون عالميون أو مؤلفون عرب أو مصريون: لأن هذه هى المصادر الرئيسية للإيحاء إلى العروض المسرحية التي قدمتها على مدار هذه السنوات الطويلة، بعض هذه النصوص كانت ذات إيحاءات قوية وذات ملامح واضحة تعلمت منها الكثير من فنية حرفية (الكتابة) المسرحية وبعضها نصوص احتاجت إلى كثير من الجهد لكي تتحول إلى عروض جيدة أو لكي يرضى عنها المشاهد والناقد في الوقت نفسه.
على مدار السنوات العشر التى غاب فيها (سمير العصفورى) عن العمل الفنى بشكل عام، وخشبة المسرح بشكل خاص، تحديداً من 2002 حتى 2012، كان يقضى معظم وقته مشغولاً بتجهيز كتابه (المسرح وأنا.. ذكريات وحكايات)، والذي استعرض من خلاله تاريخ البشر الذين تعامل معهم على مدار 60 عاماً من العمل المسرحى، ففى أجزائه الثلاثة يسرد لنا فيهم ما عاشه قائلا: (أنا أعيش دائماً بمبدأ أنا وذاتى)، لذا تبدو كلمات سمير العصفورى القليلة التى عبر من خلالها عن فلسفته فى الحياة ويراها هو نفسه من أبرز عيوبه، فكثيراً ما تجده يعترض على حال المسرح ويرفض التنازل وتقديم عمل بسيط يحتمل النجاح أو الفشل، خاصة أن حركة المسرح كما يصفها (اتغيرت عن زمان، الأعمال الكبيرة اختفت والجمهور نفسه مزاجه اتغير)، وعلى النقيض تماماً تجده فجأة يتناول (حبوب الشجاعة) ويعتزم تقديم عرض مسرحى مكون من 80 ممثلا وممثلة من الوجوه الشابة، ليخوضوا جميعاً عملية انتحارية فنية، ربما تنجح وتصل بالشباب إلى طريق النجومية أو يكون مصيرها الفشل الذريع.
روح شاب ثائر
أغلب المحيطين بالمخرج سمير العصفورى، يؤكدون أنه يعيش بشخصيتين، ففى الوقت الذى تظهر ملامح (الشيب) على قسمات وجهه، ويعيش بشخصية تتناسب مع سنوات عمره، نجده فى لحظة يتمرد على فكرة الرجل المسن الذى يعانى أحيانا من الوعكات الصحية الناتجة عن تقدم العمر، ويعيش بروح شاب ثائر يجد متعته فى الحديث مع الشباب على (فيس بوك وتويتر) يقرأ أعمالهم ويتناقش معهم فى أحوال البلد، وفي هذا الصدد يقول: جوايّا ولد صايع متشرد بيحب المغامرة والتجريب، هكذا يصف الشخصية الثانية التى بداخله ويحرص عليها، لأنها سبب استمتاعه بالحياة.
تلك الشخصية تظهر بوضوح فى علاقته بأحفاده الثلاثة الذين يعيشون معه فى نفس المنزل المكون من عدة طوابق، فتجده يجرى ويلعب مع أحفاده دون اكتراث بسنوات عمره ولا حتى بإرشادات الأطباء أو الإنصات لنصائح زوجته ورفيقة عمره الفنانة (إنعام سالوسة) التى تعرف عليها حين كان طالباً بكلية الآداب، وكانت هى زميلة له، حيث قررا المضى معا فى نفس الطريق ليشاركا بعضهما البعض ليس فقط فى الحياة الزوجية، وإنما أيضاً فى معظم الأعمال الفنية التى قاما بتقديمها.
الشاب الثائر داخله جعله من أشد المتحمسين للثورة، وأبرز المتفائلين بالشباب، رغم أنه لم يزر الميدان طيلة أيام الأحداث كشخصية فاعلة، فحسب قوله: (لست رجل نضال سياسي من الناحية العضلية)، وهو نفسه الذي طالما ناضل فى أعماله وثار على أوضاع البلد، لكن بطريقة الحلم والخيال، حتى جاء اليوم وقام الشباب بتحقيق ما حلم به فى أعماله الفنية، ولعل دخوله عالم الشباب وتواصله مع من هم فى عمر أبنائه وأحفاده جعله يكتشف أن أصدقاء (الفيس بوك) يكتبون كوميديا أحسن من المحترفين، حيث إن تعليقات السطر والسطرين التى يكتبها الشباب على صفحاتهم الشخصية أفضل بكثير من الكوميديا المصنوعة التى تقدم فى أعمال فنية كثيرة ولا يكترث بها الجمهور.
نظرته للفن المسرحي
وعن نظرته للفن المسرحي يرى (سمير العصفوري) أن أنه لايمكن أن ننظر إلى الفن المسرحي باعتباره فنا ثقافيا رفيع لمستوى لنخبة من التلاميذ والأساتذة والنقاد والمشاهدين.. إنه ليس قيمة إضافية زائدة للحضارة، ولكنه أيضا حرفة.. حرفة فنية يشترك فيها حملة الشواكيش والأودات والمقشات والمقصات، إنه مهنة حرفية يشترك فيها عدد كبير من أساتذة الصنعة الفنية، هؤلاء هم الذين يصنعون الإطار الفني والذين يدخلون في كل التفاصيل ويتحملون كافة المستويات، ولدي هؤلاء الأساتذة الصنايعية الخبرة والمعرفة الكبيرة، ولا يمكن إطلاقا أن نعزل من هذه التجربة خبرة هؤلاء الكبار الذين عملنا معهم في المسارح العظيمة، مثل مسرح الأوبرا القديم بكل أسطواته الذين تعلموا على أيدي كبار أساتذة الديكور الحرفة المسرحية القادمين من أوروبا، والذين عاشوا في مصر لفترات طويلة فأعطوا هؤلاء تفاصيل دقيقة في الصنعة الفنية وأعطوهم قاموسا فنيا عالميا تعلمه (العصفوري) وأقرانه وعاشوا بتلك المفردات فترة طويلة وعلموه لآخرين من تلميذهم في حرفة المسرح.
ولهذا فقد امتازت فترة الستينات والسبعينات بنهضة مسرحية كبيرة، كما يصفها لنا العصفوري قائلا: كنا نعاني ونحن ما زلنا طلابا في المدارس، في الخمسينات من القرن الماضي من ضيق مساحة الإبداع أو مساحة الفرص أو الطريقة التي يمكنن أن نصل بها إلى أن نتعلم فنون المسرح على الأقل، فكنا نحاول أن نجتذب من هنا كتاب ومن هناك مسرحية كي نتعرف على هذه الحكاية، لكن كانت هناك مصادر أخرى نتعلم منها، فالراديو كان هو المصدر الرئيسي لكثير من المعلومات زائد المجلات الفنية المحترمة ومجموعة كبيرة من الأفلام القيمة المحترمة التي كان يقدمها نجوم كبار والراديو الذي كان يقدم برامج كثيرة تعطينا ثقافة موسيقية دائمة ونستمع إلى أحاديث طه حسين والعقاد وأشعار وموسيقات متعددة.
حركة مسرحية حقيقية
الإعلام كان مدرسة علمية مفتوحة من الأربعينات وليس فقط الخمسينات يضيف (العصفوري)، وكانت الثقافة موجودة ومتاحة، صحيح أننا لم نكن نرى هؤلاء الكبار مباشرة، لم يكن التلفزيون قد ظهر، وفي 1964 قررت الدولة زيادة المسارح وتكبير حجم الفرجة المسرحية وبدأ التلفزيون يتعامل مع المسرح بإنشاء فرقتين ثم عشر فرق مسرحية، هذه الفرق حولتنا جميعا من محبين وشبه محترفين مشردين إلى أعضاء في فرق الدولة المسرحية، وتبنت حركة مسرحية حقيقية وكبيرة للغاية، أهمية هذه الحركة أنها انتشرت عن طريق التلفزيون، الغريب في الأمر أن الناس لم تصب بالكسل لتجلس أمام التلفزيون، بل كانت تلك هى الوسيلة الأساسية لانتعاش الحركة المسرحية وجذب جماهير واسعة إلى المسارح والتعرف على كمية كبيرة من الأسماء العظيمة، وكان هناك جذب لمسرحيات من الأدب العالمي ومسرحيات رصينة لـ (سعد وهبة ويوسف إدريس ولطفي الخولي ونعمان عاشور وألفريد فرج) وغيرهم.
لقد كانت المنظومة الثورية في 1952 كما يشير (العصفوري)، كانت منظومة جادة لأنه لم يكن لدى الرئيس جمال عبد الناصر ولا القيادة الثقافية والفكرية رغبة في عمل أنشطة ذات عائد تجاري، فهو أراد نشاطا ثقافيا متاحا بأسعار ممكنة حتى لو بالمجان لبعث نوع من الثقافة والحركة الثقافية والوجدانية، فكان من الممتع أن من يستطيع أن يشاهد حفلة أم كلثوم – وهي مسألة صعبة لأنها حفلة غالية – فليمض إلى الحفلة، لكن في نفس الوقت فأم كلثوم متاحة على الشاشة التلفزيونية بصفة دائمة، كانت الثقافة للجميع ببساطة متاحة وليست محددة بسعر معين يجعل الإنسان غير قادر على أن يتسابق مع من يملك المال في أن يستمتع، أنا صاحب الوطن وصاحب الحق في أن استمتع، يمكن أن أجد كرسي في دار عرض أشاهد أم كلثوم وجها لوجه، يمكن أن أجلس على الكنبة أو الحصيرة واستمتع بالتلفزيون الخاص بي الصغير أو الكبير بالسيدة أم كلثوم.
حق هذا الشعب
كانت الثقافة للجميع كلمة حق وليست ادعاء بحسب (سمير العصفوري)، ولا ننسى أن كل هذا كان داخل منظومة بها قدر من الحنان الاشتراكي مع كافة عباد الله، وهذه المسألة سواء المسرح للجميع أو المتعة الثقافية الإعلامية للجميع لم تكن مجرد مظاهر، لكنها كانت حقيقية لتنمية وجدان الناس وهو ما جعل الناس في حالة متابعة دائمة لما يجري في الساحة السياسية والاجتماعية، كان من حق هذا الشعب أن يستمتع في لحظات الفراغ بقدر عال من المتعة الثقافية والفنية، وأيضا يشارك بحماسه عندما ينقلب الحال إلى حسم لمعركة، هذا كان منهجا من مناهج الوعي الثقافي والسياسي في هذه الفترة استفاد منها المسرح فائدة كبيرة.
ويقف المخرج الكبير (سمير العصفوري) على أعتاب المسرح الحالي لييقول: للأسف نحن نتحدث عن المسرح يعني نتحدث عن فراغ أو حلم ومضى وعن فرق غير موجودة، قديما كانت تلك الفرق المسرحية قائمة وموجودة، فتعرف عنوان مثلا (محمود المليجي) أنه يحب العمل في مسرح الحكيم، فؤاد المهندس يعمل في المسرح الكوميدي و(سميحة أيوب) قطعا في المسرح القومي، كان الممثل أو الفنان عنوان المسرح، أما الآن فلا نعرف من ولا أين؟ وهكذا نجد أن الجمهور أيضا قد تاه، لا يعرف لمن يذهب أو ماذا سيشاهد إلا عند ظهور علامات واضحة مثل ظهور (يحيى الفخراني)، فهذا مؤشر، فهو يظهر عادة في المسرح القومي الذي يحبه، فأنت تتجه للمسرح القومي ليس لأن المسرح القومي جذاب بالنسبة لك، لكنك تذهب إليه عادة لأنه يوجد ممثل أو كاتب كبير تعرفه، وهنا تذهب مثلا ليحيى الفخراني، وإذا تم وضع ممثلا غير معروف بدلا منه فلن يذهب أحد، لأنه لا يتوقع أحد أنه في مسرح كبير جماهيري ومعروف وهو مسرح الشعب كله أنه يمكن أن يحدث تجريب، فمزاج المشاهد البسيط ليس أن يشاهد المسرح التجريبي، كأن يوجد شاب يقدم تجربة ثانية أو ثالثة بالنسبة له، هذا اختلاط يمكن أن ينجح أو يفشل داخل قاعة تدريب.
الفوضى المسرحية الحالية
وعلى جرأته وتمرده الذي عرف به طوال حياته فلم يقم (المخرج الكبيرسمير العصفوري) بتشريح دقيق لحالة الفوضى المسرحية الحالية على وجه الدقة، ربما لأنه اتجه مؤخرا للعمل كممثل في قلب الدراما التليفزيونية، وقد أثبت من خلالها جدارته كممثل له حضور خاص وتكنيك احترافي، ويبدو أنه ظل حلم التمثيل يراوده منذ أن كان طفلا صغيرا يجسد أدوارا صغيرة على مسرح متواضع في الدرسة أو البيت الذي تربي في كنفه على عشق الموسيقى حتى قرر مؤخرا خوض تجربة التمثيل حتى ولو كانت مساحة الدور صغيرة، لكنه يبقى له أثره المميز الذي يضفى نوعا من السخرية اللاذعة مموزوجة بحس كوميدي ساخر، أو على جناح الأداء التراجيدي بالغ الروعة والجمال كما ظهر في عدة مسلسلات .. متع الله مخرجنا الكبير بالصحة والعافية ومد في عمره كي يقدم لنا متعة تمثيلية أخرى تضاف إلى رصيده المسرحي فائق الجودة.