حسن البنا الذي لا تعرفه الدراما
بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
أراني أكتب هذا المقال بشق الأنفس، حتى أنني أربط حروف الكلمات بعضها البعض بصعوبة بالغة، فالذي أكتب عنه هو في الحقيقة شخصية مزيفة، الحقيقة منه مخفية، والزيف هو الركام الذي غطاه، وكما يقولون إنك لا ترى من جبل الجليد إلا جزءً صغيرا هو الذي يظهر أمامك، فتظن أنه كل الجبل، وفي الحقيقة أن الجزء الأكبر منه مخفيا تحت الماء، لا يراه الناظر من بعيد، فقط الغواص هو الذي يستطيع أن يسبح حوله، ويلمس سطحه، ويعرف ما خفي منه، وما خفي كان أعظم.
تعرفون الآن أنني أكتب لكم عن (حسن البنا) مرشد الجماعة الإرهابية حينما تناولته الدراما المصرية، ولم أعرف عملا تناوله إلا مسلسل (الجماعة) في جزءه الأول، وسأغض الطرف عن المسلسل الذي كتبتُه للإذاعة منذ سنوات عن البنا وجماعته، وسأعتبر أن مسلسل الجماعة هو الوحيد في هذا الشأن، وقد ظننت أن السيناريست الأخ (وحيد حامد) سيلقي في عقولنا الإجابات الحقيقية، وسيضع أمام عيوننا ما خفي من شخصية البنا، فليس عندي شك أن المؤلف يعلم أن زمن إلغاء العقول قد ولى ومضى، كما أن زمن حشو العقول بأساطير لا أصل لها وأفكار سطحية لا عمق فيها قد توارى واندثر، وليس في إمكان أحد أن يقوم حاليا بتصدير بضاعة فكرية هشة وغير حقيقية عن شخصية كان لها أسوء الأثر في تاريخنا المعاصر لمجرد أن يخلب بها الأبصار ويسيطر بها على الأفئدة، ثم يُرضي بها كل الأطراف، فيخرج الجميع في حالة رضا، ولكن للأسف كان هذا هو الذي حدث! إذ يبدو “إن وراء الأكمة ما وراءها” وكم أخفت الأكمة من مصائب!.
ولذلك إذا عنَّ لك أن تتعرف على شخصية البنا الحقيقة فلا سبيل لك إلا الابتعاد عن الفنان (إياد نصار) وبراعته في أداء تلك الشخصية الدرامية، وخذ حذرك من تلك القصص الوهمية التي أوردها الأخ السيناريست عن حسن البنا، ففي دراما هذا المسلسل اختفت شخصية البنا لتظهر بدلا منها شخصية أخرى أداها باقتدار فنان موهوب، ولكنه كان يؤدي دورا عن شخصية أخرى لا يمكن أن تكون هي شخصية ذلك الرجل الذي مارس أخطر الأدوار في أهم فترات تاريخنا في القرن العشرين، وليس يعيب الفنان إياد نصار هذا الأمر، ولكن العيب كل العيب يقع على المؤلف الذي كان مذبذبا في عرض شخصية البنا، فأظهره في بعض الأحيان في صورة الرجل العالم الحاذق الحكيم الوسطي المعتدل، الغيور على دينه، سريع البديهة، الهادئ الواثق من نفسه، وعندما كان يتذكر أنه ينبغي أن يكون البنا في الدراما المصرية غير ذلك فسرعان ما كنت تجد ذلك الشيخ الذي كان حكيما ومعتدلا منذ لحظات، مندفعا وأهوجا ومتهورا وسليط اللسان ومحبا للرئاسة والسلطة!! وكأنه يكتب عن شخصيتين مختلفتين، ولا أظن أنه فعل ذلك ليرضي الإخوان، ثم ليرضي بالصورة الأخرى باقي أهل مصر، ولكنه إنما فعل ذلك بسبب جهله عن الشخصية التي كتب عنها، أو لأن الأكمة وراءها ما وراءها.
فمثلا عندما أورد المؤلف تفاصيل طفولة البنا وصباه وهو في المحمودية، رسم شخصيته وفقا لما كتبه البنا بالحرف الواحد في مذكراته، فجعله طفلا غيورا على دينه محبا للإسلام حريصا على الفضائل، محاربا للرزيلة، شجاعا وهو يقف أمام من هم أكبر منه سنا مثل مدير المدرسة ومفتش وزارة المعارف، زعيما على أترابه من زملاء دراسته، ولو أعمل السيناريست بعض ما أعطاه الله له من منطق لأدرك أن تلك القصص ما هي إلا من المبالغات الفجة أوردها حسن البنا حينما كتب مذكراته بعد أن أصبح مرشدا لجماعة سياسية ترتدي ثياب الدين، كتبها بعد أن أسقطه أهل الإسماعيلية في انتخابات مجلس النواب، وكانت في أول الأمر عبارة عن سلسلة من الحلقات نشرها البنا في مجلة الإخوان المسلمين، وتوقف نشرها بعد مقتله في فبراير 1949 ، ولكن الإخوان جمعوها في كتاب في فترة السبعينيات وأجروا عليها تعديلات كثيرة تختلف عن الذي سبق نشره قبل ذلك، وأظهروا مرشدهم بصورة الإمام الملهم منذ أن كان طفلا، في حين أن حسن البنا ابن الحقيقة كان طفلا مشاغبا فاشلا في دراسته يميل إلى الإيذاء والتخريب، ولم يكن متدينا أو متفوقا بحيث يلتحق بالتعليم الأزهري أو يستمر في التعليم المدني، فالتحق بمدرسة المعلمين المتوسطة.
وحسن البنا إبن الدراما التلفزيونية تخرج من كلية دار العلوم، أما حسن البنا ابن الحقيقة لم يدخل تلك الكلية من الأصل، ولكنه تخرج من مدرسة اسمها “تجهيزية دار العلوم” وهى لا تؤهل صاحبها إلا العمل بالتدريس في المدارس الإلزامية لمادتي الدين والخط العربي، وحسن البنا ابن خيال المؤلف التحق بالطريقة الحصافية وكان مرضيا عليه فيها، في حين أن حسن البنا الحقيقي طرده شيخ الطريقة الحصافية منها، وحسن البنا في الدراما تلقى من البارون (دى بنوا) مدير شركة قناة السويس خمسمائة جنيه لإنشاء جماعته، في الوقت الذي لم يكن فيه أي شخص يُدعى (دى بنوا) يعمل مديرا لتلك الشركة، أما الحقيقة فهي أن البنا تلقى خمسمائة جنيه ثم مبالغ شهرية من الماركيز (لويس أنطوان) مدير شركة قناة السويس وقتئذ ومدير المحفل الماسوني في باريس.
والعجيب أن المؤلف اختلق حوارا وهميا بين موظف في السفارة البريطانية والسفير البريطاني حيث كانا يتحدثان عن جماعة الإخوان التي لم يكن قد مر عام على نشأتها ــ وأي طفل صغير يعرف أن بريطانيا هي التي أنشأت تلك الجماعة ــ فإذا بالموظف يقول للسفير: إن هذه الجماعة شعارها هو “الإسلام هو الحل”!! ، رغم أن هذا الشعار لم يكن شعارا للإخوان وقتها ولكنه كان شعارا للجماعة في الثمانينات من القرن العشرين!.
أما من الناحية الدرامية والمنطقية فلن نتحدث أبدا عن الغرائب التي تتنافى مع العقل والمنطق والتي حفل بها المسلسل وهو يتناول حسن البنا صاحب تلك الجماعة التي انتشرت في مدن وقرى مصر، والتي كان منها على سبيل المثال لا الحصر كيفية معرفة حسن البنا بخبر وفاة حسن صبري باشا رئيس الوزراء، فحسن البنا صاحب جماعة الإخوان، وصاحب التنظيم الخاص الذي تصل إليه كل شاردة وواردة من أخبار البلاد من خلال شبكة اتصالات شديدة التعقيد والفاعلية، لا يعرف خبر وفاة رئيس الوزراء حسن صبري باشا إلا مصادفة وفي اليوم التالي للوفاة وهو جالس في حجرة المدرسين بالمدرسة التي يعمل فيها، حينما قرأ عليه أحد المدرسين هذا الخبر من صحيفة كانت معه!!، وهنا انزعج البنا وقال لصاحبه المدرس وهو يحاوره وملامح عدم الفهم ترتسم على وجهه: رئيس الوزراء مات؟! رئيس وزراء من؟! فيقول له زميله ساخرا: يعني ها يكون رئيس وزراء انجلترا؟! رئيس وزراء مصر طبعا، وقد صدمني هذا المشهد رغم براعة الممثل (إياد نصار)، لأنه دل على أن من كتبه لا يعرف طبيعة حسن البنا المركزية والذي تصب عنده كل الأخبار أولا بأول، كما وضح أنه لا يعرف شيئا عن كيف تُدار مثل تلك التنظيمات.
ورغم أن لي الحق في الحديث عن أخطاء التاريخ التي تكررت في المسلسل والتي منها على سبيل المثال ذلك السؤال الذي طرحه المؤلف على لسان حسن البنا والذي وجهه للصاغ محمود لبيب عام 1947: هل سمعت من قبل عن أنور السادات؟ فيجيبه محمود لبيب: نعم، فيطلب البنا من محمود لبيب أن يقنع السادات بضرورة أن يوفر له لقاءً سريعا مع يوسف رشاد طبيب الملك!!، ظهر حسن البنا في هذا المشهد وكأنه سمع عن السادات منذ أيام، وأنه لا يعرف إن كان محمود لبيب على صلة بالسادات أم لا؟، مع أن البنا كان على صلة قوية بالسادات منذ عام 1940 والتقى به مرات عديدة كان منها عدة مرات في حضور محمود لبيب!.
وتوالت في المسلسل عشرات المشاهد المزيفة غير الحقيقية عن حسن البنا، فأبدا لم يكن حسن البنا شخصية وطنية، بل كان عميلا للانجليز بامتياز، ولم تكن فلسطين تعنيه في كثير أو قليل، وكان في تكوينه عبارة عن شخصية نفعية نرجسية، ولكن معظم صفات البنا الحقيقية غابت عن هذا المسلسل، واعتقد أن السيناريست غيبها لجهله بها، أو لكي يتجنب نقد الإخوان له، أو لأن الأكمة وراءها ما وراءها!، فمثلا أين حياة حسن البنا الخاصة؟ وأين بناته وشقيقاته وإخوته؟ هل تستطيع معرفة رجل، والولوج إلى عقله وفكره دون أن تعرف بيته وسلوكه مع أهله وحال هؤلاء الأهل؟ هل تستطيع أن تُحلل لرجل ما زال العالم يتحدث عن جماعته دون أن تتعرف على أسرته؟ نعم قص لنا المسلسل طرفا من علاقته بوالده، إلا أنه أحجم بعد ذلك، فإذا بقصة حسن البنا في هذا المسلسل تعرج على ساق واحدة! نرى بعضها، ونجهل أهمها.
سكت المؤلف عن إلقاء الضوء على أسرة غريبة، لم يكتسب واحدٌ منها لقب “البنا” إلا حسن وحده، وفي مستقبل الأيام وبعد أن أصبح حسن البنا مشهورا غيَّر أفراد الأسرة ألقابهم في الأوراق الرسمية وأضافوا إليها لقب “البنا”، بعد أن كان لقب الساعاتي هو لقب أبيهم بسبب حرفته، ولو دخل الأخ السيناريست في حياة تلك الأسرة لعرفنا قدرا مهما من شخصية حسن البنا، فقد كان بعضهم يرفض فكر حسن البنا تماما، وكان البعض الآخر يرفض الانخراط في الجماعة، وإلى أن مات ظل جمال البنا الشقيق الأصغر لحسن البنا يقول: إن حسن البنا طلب منه أكثر من مرة الانخراط في الجماعة إلا أنه رفض وقال له إن مشروعي الفكري يختلف عن مشروعك.
سكت المؤلف عن إلقاء الضوء على شقيقة حسن البنا السيدة (فوزية) التي لم ترتد الحجاب في حياتها، وكانت تعيش حياة أرستقراطية مع زوجها عبد الكريم منصور المحامي الذي اختاره لها شقيقها حسن البنا!، وسكت المؤلف عن شرح كيفية حياة بنات البنا خاصة وأنهن ظهرن في صور فوتوغرافية معه دون حجاب، وكان البنا هو الذي نشر هذه الصور في إحدى مجلات الإخوان في الأربعينات! لم يكتب لنا المؤلف عن ضابط الشرطة (عبد الباسط البنا) شقيق الشيخ حسن، والذي احترف كتابة الشعر والأغاني الدينية والوطنية حتى أنه كتب بعض الأغاني للمطرب عبد الغني السيد.
لا شك أن أسرة حسن البنا كانت ذات شأن في حياته وإذ سكت عنها المؤلف ظهر البنا في صورة غامضة لا نستطيع من خلالها أن نستبين ملامحه وكأن المؤلف أراده أن يرتدي النقاب حتى لا نراه على حقيقته والله أعلم.