بقلم : محمد حبوشة
سحقا لجمهور يرهبنا ليل نهار بالتنمر Bullying الذي أصبح ظاهرة انتشرت بكثرة في الآونة الأخيرة، حتى أننا أصبحنا نرى التنمر في كل مكان؛ في الشارع أو المدينة أو الجامعة أوالمنزل حتى في مكان العمل، والتنمر هو شكل كما هو معروف من أشكال العنف والإيذاء والإساءة التي تكون موجهة من فرد أو مجموعة من الأفراد إلى فرد أو مجموعة أيضا، وآخر الذين تعرضوا للتنمر من جانب جمهور يتصف بالجهل وعدم الوعي بقيمة الفن والفنانين هو الفنان الإماراتي (حسين الجاسمي) الذي تصدر مواقع التواصل في دول عربية عدة، وذلك على أثر حملة تضامن إلكتروني واسعة ردا على الإساءة التي طالته عقب انفجار بيروت.
كان الفنان الإماراتي الكبير والذي يتسم بخلق رفيع ويقدم فنا وطنيا راقيا وهادفا قد تعرض لتلك الموجة من التنمر والسخرية من خلال منصات التواصل بسبب تغريدة له عن لبنان نشرها قبل تفجير بيروت، وربطها مغردون بالفاجعة التي أصابت المدينة، وخرج الجسمي عن صمته لأول مرة بعد التفجير، قائلا بأن صمته كان بهدف الاحترام، وغرّد مؤكدا على “المسامحة وحسن الظن”، وعلى الفور أعرب العديد من المشاهير والفنانين عن دعمهم للجسمي، ودعوا إلى مكافحة التنمر الإلكتروني بكل أشكاله، وشارك الآلاف من المغردين بالحملة في دول عدة منها مثر والعراق ولبنان ودول الخليج، كما استخدموا وسوم #كلنا_حسين_الجسمي و #حسين_الجسمي_كلنا_نحبك، للتعبير عن تضامنهم مع الفنان.
وندد مغردون بهؤلاء الذين يمارس التنمر دون وازع من ضمير أو إدراك ما يتسبب فيه من أذى نفسي لمتلقيه، سواء كان شخصا عاديا أم فنانا مشهورا، مؤكدين على ضرورة مراعاة مشاعر الآخرين وتجنب الكلمات المؤذية، وأضاف ناشطون أن من يربط الفنانين بما تسمى “نذر الشؤم” على دول عربية، ما هو إلا تجاهل للأسباب الحقيقية وعجز عن انتقاد السياسيين المسؤولين عن ما يحل في تلك البلاد من أزمات، وجاء رد الجاسمي نفسه بسبب ما أثاره بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي من تعليقات سلبية حول تأثر بعض الدول التي غنى لها الفنان الإماراتي أو تحدث عنها ومرورها بحوادث كبرى، وآخرها لبنان التي شهدت انفجارا لمرفأ بيروت.
وعبر حسابه الرسمي على موقع (تويتر) كتب الجاسمي: (صمتنا احتراما تربينا عليه، نسامح ونحسن الظن كرما، ونتجاهل شموخا جميعكم نحب)، وسادت حالة من الجدل مواقع التواصل الاجتماعي منذ أيام بسبب حملة التنمر التي تعرض لها الجاسمي، وتداول أنباء عزمه الاعتزال بعد دخوله في حالة اكتئاب، بسبب اتهامه بأنه (نحس) أو (فأل سوء) على لبنان، نظرا لأنه غنى في حفله الذي أقيم في (أوبرا دبي) أغنية (بحبك يا لبنان) للسيدة فيروز، قبيل الانفجار الرهيب في بيروت، وذكرت تقارير أن الجاسمي مستاء للغاية من الحملة التي تتكرر كل فترة ضده، فيما انهالت التعليقات من محبيه الذين أكدوا على حبهم الكبير له وأنه لا يجوز ترك مسيرته الفنية الناجحة بهذه الصورة، وتم تدشين هاشتاج (حسين الجاسمي كلنا نحبك) على (تويتر) ليتصدر بقوة بأجمل عبارات الحب والدعم للفنان الإماراتي.
والحقيقة أن الفنان الكبير حسين الجاسمىي ليس مجرد نجم غنائي عادي بل إنه خير من يمثل بلاده (الإمارات) في المحافل والمهرجانات الفنية العربية، وقد كرس الفنان نفسه سفيرا للمحبة والأغنية التي تعزز الإنسانية، والتقارب وروح التضامن بين الشعوب، من خلال مسيرة عطاء حافلة بالإبداعات الثرية والأعمال والاسهامات المعبرة عن هذا النهج، وهو ما جعل محبيه في العالم العربي، أخيراً، يهبون للدفاع عنه ودعمه في وجه حملات التنمر، التي شنت عليه من قبل بعض الموتورين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بعد الحادث الأليم الذي تعرضت له العاصمة اللبنانية بيروت.
وفي الوقت القصير الذي لجأ فيه الفنان إلى الصمت والامتناع عن الرد، كان هناك في المقابل حشد كبير يقف معه ضد التنمر، وقرر الكثير من الفنانين ونجوم شبكات التواصل الاجتماعي والجمهور أيضاً الدفاع عنه، وتلك لم تكن المرة الأولى التي يتعرض فيها النجم الإماراتي لهذا النوع من التنمر، فقد سبق أن تعرض لحملات مشابهة في مناسبات مختلفة، ولكن في الوقت نفسه كشفت جميعها عن مدى حب الناس له ومسارعتهم للوقوف إلى جانبه والدفاع عنه، وغرد البعض بكلمات وعبارات من أغاني الجاسمي لتعزيز الاحترام والوفاء مثل: (أنت حاجه ما تكرر مرتين .. ما جعلت الهيبة في اللسان وإنما في الأفعال وحسن الخلق واحترام الآخرين .. تساوي الكل .. أرجوك لا تحزن ارتاح وأطمئن .. أنت الجبل في عزتك ووقوفك ما تطيح من هزه ولا يهزك ريح .. مهم جداً وجودك في تفاصيلي.
وبتلك النبرة من الحب حظي الفنان الكبير بدعم كامل من أبناء الوسط الفني للدفاع عنه ،فقد قالت الفنانة (أحلام) على حسابها في تويتر، رافضة ما يتداول على شبكات التواصل الاجتماعي : (فخر بلادي الإمارات أخوي حسين الجاسمي)، وغرد الإعلامي (صالح الجاسمي) مدافعا عن شقيقه، من خلال ذكر صفاته، قائلا: (ليس كمثله أحد فهو من أطيب ما خلق الله من بشر، وأطهر قلب في زمن كله نفاق وخداع وتزلف وكذب وافتراء، يعطي ولا يأخذ، يمنح ولا يمن، يسامح ولا يخطئ، يحب وطنه العربي من المحيط إلى الخليج ولا يفرق بين الجنسيات، عرفته قبل 41 عاماً وما زال نفس الشخص، إنه الإنسانية كلها).
ومن جانبه قال النجم اللبناني (ملحم زين) مؤكدا من خلال تدوينة نشرها عبر حسابه الرسمي على الانستجرام أن الجاسمي محب لبيروت، ونشر زين، صورة للجسمي، وأرفقها بتعليق استغرب فيه هذا التجني ومن ما جاء في تعليقه: ( آخر شيء طلع مع جماعة السوشيال ميديا، الحق على حسين الجاسمي إنه غنى للبنان من فرط حبه للبنان، وأنا اللي بعرف أدي حسين بيحب بيروت)!، وتابع زين: (أسهل شيء إنت وقاعد ورا تلفونك تتنمر وتفتري على شخص بس لسانك هو مراية أخلاقك، وأخيراً حسين أبو علي المحب الخلوق الطيب.. شوف الجبل واقف ولا هزته ريح).
وقالت النجمة العربية السورية (نسرين طافش) عبر حسابها على (تويتر): (حسين الجاسمي .. حسين الجاسمي يعني الإبداع بلا حدود والنجاح والحب .. حسين الجاسمي يعني بشرة خير، ووجه السعد والخير.. قامة كبيرة لها كل الحب والاحترام والتقدير.. حسين الجاسمي كلنا نحبك)، وفي تصريح صحفي، قال هاني شاكر نقيب الموسيقيين في مصر: (التنمر مرفوض، حسين الجاسمي فنان كبير وله جماهيرية عريضة في كل العالم العربي، المتنمرون دائماً أعداء نجاح فلا يجب الالتفات لهم أو منحهم أكبر من قدرهم، حسين الجاسمي رائع في كل شيء، موهبة وحضور واحترام).
وظني أم كلام نقيب الموسيقيين المصريين يعكس حالة الحب والاحترام لحسين الجاسمي من جانب الجمهور المصري الذي يعشق فنه ويقدر له حبه الكبير لوطنه الثاني مصر، وربما لا يمكن للمتابع أن يقدم تفسيرا يستند إلى قراءة عقلية محضة لاتساع نطاق المشاهدة التي حققتها أغنية (بشرة خير) عقب أن أطلقها الفنان الإماراتي حسين الجاسمي، قبل أيام قليلة من انطلاق السباق الرئاسي في مصر قبل 6 سنوات، فقد تحولت خارطة المشاهدة إلى خارطة مليونية خلال عدة ساعات من انطلاق الأغنية، وهو أمر نادر الحدوث في مصر، على الأقل في السنوات الأخيرة، وتحديدا منذ انطلاق شرارة ثورة الخامس والعشرين من يناير، حيث لم تقتصر الفوضى المصرية على الميادين العامة التي حملت رمزية الثورة معها، بل انسحبت الفوضى على التراث المعنوي للشعب الذي يطلق عليه نخبتها (القوة الناعمة المصرية ).
وعلى الرغم من أن الغناء المصري لم يترك جانبا من جوانب الحياة إلا وغمره بمزيد من الكشف الإنساني وتخليد المبهرين، حيث بات يمثل هذا التراث واحدا من أندر المدونات في الفنون العربية القديمة والحديثة على السواء، لذلك فإن جزءا من قلق المصريين على المستقبل لا ينفصل عن حالة التعلق الشديدة التي رافقت أغنية (بشرة خير) للفنان الإماراتي حسين الجاسمي، حيث تستعيد حالة الإجماع الوطني زخمها وقوتها وتجددها عبر لغة تعمل على توحيد وتعضيد المشاعر الجمعية لملايين المصريين في لحظة يستشعرون فيها خطرا محدقا بوطنهم.
حدث ذلك على مدار التاريخ الوطني المصري منذ ثورة 1919 حيث كان فنان الشعب سيد درويش أحد صناع هذه الحالة بفنه الرفيع الذي يحيا في ذائقة المصريين والعرب حتى أيامنا، وقد حدث الشيء نفسه مع ثورة يوليو، حيث خلقت اللحمة الوطنية فنانيها وكتابها ومفكريها، وأظن أن إرهاصات ما يحدث الآن في مصر ليست أكثر من إعادة تمثل لتلك الحالة التي شهدت فيها الوطنية المصرية أعلى درجات وحدتها وقوتها، ومن هنا فإنه يبدو جليا أن هذه المرة أن (الجاسمي) شريكا في صناعة المشهد الوطني الذي تجاوز كونه مشهدا مصريا إلى كونه تعبيرا عربيا عن الرفض الواسع للتحولات القسرية المبيتة التي كانت ترسمها القوى الكبرى للمنطقة نحو تنصيب الإسلام السياسي في سدة الحكم هنا أو هناك.
الجسمي لايستحق منا الإشادة فحسب، بل يستحق كل المساندة والوقوف ضد تلك الحملة المسعورة من جانب كل إنسان مصري يحب بلاده، لأنه ليس مطربا عربيا يشاركنا همومنا، بل شريكا أصيل في صناعة المشهد الوطني الذي تجاوز كونه مشهدا مصريا إلى كونه تعبيرا عربيا عن الرفض الواسع للتحولات القسرية المبيتة التي كانت تنتويها القوى الكبرى للمنطقة، والتي تكشفت خيوطها جلية مع صعود الإرهاب الإسلامي في مصر وبعض البلدان العربية إلي سدة الحكم، ويتبدى للعيان التقدير الشعبي لمشاركة الجاسمي كفنان في صناعة هذا المشهد النابض والحي، لكن ما لا يجب أن ينسى لدى المصريين كون الجاسمي إماراتيا، وهذه وحدها كانت سببا من أسباب طلب منح الفنان الجنسية المصرية.
وهذا ليس مطلبا شعبيا صادر فقط عن آلاف النشطاء على صفحات التواصل الاجتماعي، بل إنه صدر عن نخب معروفة من الصحافيين المصريين ونجوم الإعلام الرسمي وغير الرسمي، ويتعزز هذا الشعور يوما بعد يوم بعد الموقف الإماراتي الناصع من ثورة الثلاثين من يونيو ودعمها غير المحدود للشعب المصري، وهو دعم طالما أعلنت رئاسة الدولة أنه قائم وسيظل قائما حتى تخرج مصر من أزمتها، وفي هذا السياق لابد من إنشاء هاشتاج حالي للتضامن معه تحت عنوان (شكرا_حسين_الجسمي)، يحمل توقيع ملايين المصريين المحبين تعبيرا عن امتنانهم على 11 أغنية قدمها الجسمي لمصر هى (بحبك وحشتيني، مبروك لمصر، مساء الخير، تحيا مصر، أجدع ناس، بشرة خير، تسلم إيديك، سيادة المواطن، هذه مصر، فرحان بمصر، متخافوش على مصر)، وهى جميعها تحث الشعب على حب بلاده والانتماء لها والوقوف بجانبها في الأفراح والأحزان.
حالة الحب الجلية التي يعبر عنها (الجاسمي) لمصر لم تكن مقتصرة على أغانيه بل انسحبت على أحاديثه الصحافية، وقد عبر عن ذلك صراحة بعد النجاح الباهر لأغنيته الأخيرة عندما قال: (شرف لأي فنان عربي الغناء لمصر، خاصة وأن كل أغنية مصرية قدمتها من قبل كان لها أثر كبير في نفسي وأعتبرها محطة مهمة في مشواري الغنائي، وحبي لهذا البلد العظيم وشعبه الجميل يؤكد شرف الغناء له)، وقد كان هذا الارتباط الحميم بالفضاء المصري سببا في التواجد شبه المستمر للجاسمي في القاهرة، لكنه كان شديد الحرص على ألا تجرفه السياسة، فالفنان في رأيه يجب أن يمتلك الوعي الكافي للفصل بين كونه فنانا وكونه داعية سياسة، ويقطع هنا هذا الالتباس بقوله ( يجب ألا يكشف الفنان عن اتجاهاته حتى لا يؤثر على جمهوره، فالفنان يمتلك سلاحا ذا حدين وهو حب الناس، وحب الناس نعمة من الله ويجب ألا يتاجر بها أحد أو يضعها لتحقيق مصالح خاصة، الفنان يقدم للجمهور على أنه شخص عليه إسعاد جمهوره بتذوقه للفن).
ويري كثيرون وأنا منهم بأن النموذج الفني الذي يقدمه الفنان الإماراتي حسين الجاسمي يستعيد النماذج الواعية بدور الفن في صناعة العقل العربي وتجديد ذائقته وحفز مخيلته، كما لا يبتعد هذا النموذج عن تكريس حالة ثقافية تستعيد الشيء الكثير من الفن بمعناه القومي، الأمر الذي يوسع قاعدة المشتركات في الذائقة العربية، ولا ينكفئ على الخصوصية المحلية التي تكرس عادة لحالة عشائرية أو شعبية تكون محدودة التأثير في أغلب الأحوال، وهذا على ما يبدو فيه أبعاد سياسية، إلا أنه في حقيقته لا يستحضر السياسة باعتبارها حالة براجماتية بل باعتبارها تجسيدا لمعني القومية في أنصع صورها.
وفي النهاية فإنه إذا كان المتنمر بشكل أو بآخر يقوم بفعل إرهابي تجاه ضحيته سواء كانت شخص أم مجموعة وهو والمتحرش في الأمرسواء، فإن مصر ستكون سباقة في مواجهة تلك الظاهرة السلبية، بعد أن وافقت لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية في مجلس النواب المصري، على تعديل قانوني العقوبات والإجراءات الجنائية، لمواجهة ظاهرتي (التنمر والتحرش الجنسي)، وتضمن القانون الذي أعد لهذا الغرض عقوبة الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وغرامة مالية وإذا كان الجاني أو الفاعل له سلطة على المجني عليه يتم تغليظ العقوبة المشددة، وظني أنها عقوبات غير كافية، بل ينبغي أن تغلظ أكثر لقطع دابر المتنمرين والمتحرشين ويكونون عبرة لغيرهم ممن يقومون بإيذاء بعض منا دون وازع من ضمير.