بقلم : محمد حبوشة
بصوته العذب الشجي وبمداد من روحه التواقة للفن والإبداع في ميادين كثيرة ومتنوعة كما أعرفه عن قرب، أطلق الشاعر والإعلامي والفنان المبدع المسكون بمشاعر وطنية صادقة ووعي بدور الفن في صناعة رسالة تعتمد في مضمونها على القيمة والمعنى، والتأكيد على الهوية في ثوب من الأصالة والمعاصرة، وذلك كله في سبيل تحقيق أهداف أسمى للارتفاع بمستوى الإنسانية ومقاومة كل ما من شأنه أن يكون تشويها لرسالة الفن في حياتنا، ومن ثم كان راعيا للمواهب في مجموعته الطموح F5، أطلق الدكتور “طارق عرابي” ديوانه الصوتي الذي يحمل عنوان “قاريء الأشجان”، وذلك عبر 18 قصيدة تتنوع في أفكارها ومفاهميها بين الحب والعاطفة والوطنية والهجر والبعد والجفاء والخيانة والحنين، فضلا عن مشاهد من المواقف الحياتية اليومية التي تعكس هموم وهواجس الإنسان المصري والعربي، وذلك بأداء صوتي من جانب الشاعر نفسه وخلفية موسيقية لأحمد بدوي.
حين استمعت للديوان توقفت طويلا أمام قصائده التي تنعكس على سطحها شفافيته وإنسانيته العالية في مختلف أحوالها وفي شتى أطوارها، طموحاً وجنوحاً ويأساً وقنوطاً وفرحاً وحبورا، ورصدت معاناة الشاعر ومدى ما يلاقيه في سبيل سبك قصائده من لحم ودم وروح بحرفية عالية للغاية، بحيث يبدو كطائر مغرد تارة في ميادين الحرية مرفرفاً بعلم مصر محلقاً في ميادين الشهادة في مداها الواسع، وتارةً أخرى تأتي كلماته نحتاً من قلبه وسلخاً من فكره، فيبدو عبر معانيها كشمعة تحترق لتضيء لنا الطريق الذي يعبده بمشاعره الفياضة فيهدي الحائر والتائه في دنيا الاغتراب والعشق والغرام، في ذات الوقت تأتي التماساً للإبداع والإمتاع، وقد اصطبغت في مجملها بروح العصر وتضاريس البيئة وظروفها التي نعيشها الآن أكثر من أي وقت مضى وكأنه يقول: أنا هنا كي أهيئ لكم طريقكم نحو بر من الأمان.
الديوان يجمع بين العامية المغناة ولا مراء في تضمينه بعض من القصيدة الفصحى تأكيداً على أنها لا زالت في الوقت الراهن تصلح لتذوق الأصالة في ثوب المعاصرة، وستظل في ذات الوقت تمارس تألقها الوهّاج وتثبت وجودها الفعال، وتمارس تأثيرها المستمر على القارئ، ودونه بالطبع كثير من الشواعر والشعراء الذين أثبتوا حضورهم في الساحة الثقافية العربية وخارجها عن جدارة واستحقاق، لأنهم ظلوا أوفياء لهذا النمط الشعري الأصيل الذي يخترق الأزمنة ويتواجد في غيرها بقوة واستمرار على مر العصور التاريخية، ولا غرابة في ذلك ما دامت القصيدة الفصحى تمتلك قوة تواجدها بامتلاكها لنظام دلالي داخلي يؤطر مقوماتها الفكرية والفنية والجمالية.
وإذا كان التكلف قد يغلب على بعض الكتابات التي تنتمي إلى هذا النوع من الكتابة الشعرية، فإن اللافت للنظر حضور صوت “طارق عرابي” مميزا عبر تجارب شعرية راقية حتما ستبهر مستمعيها وتثير فضولهم وترجعهم إلى زمن القصيدة الفصحى الجميل في أقوى لحظاته وأبهى تجلياته وأرقى نماذجه الخالدة، وتعضد القصائد في عرضها على الشاشة لوحات وصور مختلفة مصحوبة بالموسيقى الهادئة في مناطق معينة، أو مصحوبة بغناء يقوى من الحالة الشعورية العامة في مناطق أخرى، ليؤكد أن الافتراضات الأولية إذ تم إقحامها في فضاء العالم الافتراضي ربما تكون أكثر تأثيرا وإيجابية على مجمل الديوان المسموع، وتعكس اللوحات التي يحكمها بقايا أعمدة إغريقية تحمل في طياتها مناظر تميل في مجملها إلى نوعية من الفن التشكيلي والفوتوغرافي، تتأرجح بين الشرقي بدفئه في شروق الشمس وغروبها وبرودة الغرب في قسوته وسط حالة الجو المضطرب والمتقلب والورود والقلوب والغموض أحيانا في وجوه لبشر أعياهم الوجد والهيام، وقد غطت السحب في بعضها الأفق مما ينم عن ضبابية الرؤية، وهى تعكس بعض حالاته الشعرية الباعثة على الشجن، أما البياض فضعيف في بعض تلك اللوحات حيث السحب المتناثرة في حين تبدو أشعة الشمس متوارية خلف الغيوم والسحب الدّكناء، وعموما تنسجم اللوحات مع العناوين انسجاماً قوياً بالتأشير على دلالات الاضطراب والحزن والشجن والفرح الطفولي في شكل رومانسي.
يستطيع مستمع الديوان أن يصنفه استناداً إلى نوعية معجمه ضمن الاتجاه الرومانسي، على اعتبار أن التجربة الشعرية تتمحور حول الذات، ذلك أن كل النصوص الشعرية التي يحتضنها الديوان توظف ضمير المتكلم الدال على المفرد في أغلب الحالات، وتقوم مجمل قصائد الديوان على الحوار بطرق فنية مختلفة تؤثث مقام التواصل وتتحكم في هندسة النصوص الشعرية ومستوياتها الخطابية، وحتى عندما لا تجد الشاعر محاوراً تلحظ تعمده خلقه فنيا، فتستحضره على وجه المجاز، وكي يدل على المحبوب أو ينزل منزلته، على غرار ما تعود عليه القارئ في شعر الغزل العذري، وهو ما يجعل قصائد الديوان تتفاعل مع هذا الغرض الشعري في أرقى نماذجه، وتتكرر كاف الخطاب في قصائد كثيرة، ولا يحدده الشاعر بقدر ما يركز على صفاته ومعانيه وحالات حضوره مما يجعله يظل مفتوحا على تأويلات عدة، كما نجد في معظم القصائد.
يبدأ ديوانه المسموع بقصيدة “قارئ الأشجان” يتعرض من خلالها لقصة بين حبيب وحبيبته جلسا على أريكة الأشجان كي تبث مخاوف فؤادها ووجدانها، وهو يهم بتبديد تلك المخاوف كأنما يربت على كتفها مطمئنا إياها بأنه طبيبها الذي جلس ليقرأ فيها الإنسان، مؤكداً ومطمئناً أن حبيبها ليس بالمفقود ولا يسكن بقصر مرصود، بل هو حقيقة واقعة، موجود، له وطن وله عنوان، ومن هنا يسألها أسئلة حائرة قائلا : هل دقَ الحبُ على بابـِكْ .. أمْ أنكِ تبنينَ حبيباً من نسجِ خيالٍ يهواه؟، هل لاحَ الوجهُ بأيامِكْ .. أمْ أنَّ حبيبَكِ إلهامٌ وأناملُ تمسِكُ فرشاهْ؟ هل قالَ أُحِبُكِ سيدتي .. أم أنَّ الأمرَ بأحلامِكْ لوحاتٌ تنشدُ رؤياه؟ ،، وطالبها بوصف دقيق لحبيبها، وها هى تحلق معه في سماء الحب كعصفور طائر يتغزل في وصف حبيبٍ فاق الأوصاف عبر إحساسٍ راقٍ ومودة، وحنانٍ من غير حدود، وعلى جناح طبيب الأشجان راحت تهيم عشقاً ودلالا إلى آخر الكلمات التي تمهد لمشاعر متدفقة من فيض شاعريته كي تخلد عبر الأزمان.
وعلى درب آخر يذهب شيطان شعر “طارق عرابي” في القصيدة الثانية إلى مناطق مغايرة من خلال قصيدة بعنوان “رسالة من حبيبي الشهيد”، وهى رسالة يعتصر قلبها آلماً حين سماعها، حيث يخاطب الشهيد حبيبته في رقة وشجن، مطالباً إياها بعدم البكاء جراء هذا الفقدان، بل فقط عليها أن تتذكر لحظات عاشا فيها إحساساً بالدفء والحنان، ومحرضاً إياها في الوقت ذاته على أن تحب من جديد وتعيش حياتها، وألا تعيش طويلاً تجتر ذكرياته وأمنياته التي كان يحب أن يحققها لها، فهو وهب حياته لمن هو أغلى وأبقى، لمصر التي يعلو حبها فوق كل شيئ في الوجود.
ويتجه “عرابي” في قصيدته الثالثة إلى حواء قائلا : “الله على هن” وهنا غزل صريح يقصد وجود المرأة في حياتنا سواء كانت أماً، أختاً، أو بنتاً، فهى من وجهة نظره تبقى في أبهى صورها “نونو عسلاية في لفة، عروسة قمراية في زفة، ومصراوية ذات عفة ودلال تمدنا بالأخلاق والقيمة، ثم تأتي كلمات القصيدة مغناة بصوت الدويتو “أحمد بدوي وأسرار الجمال” بلحن بسيط يعكس جمال اللغة ورقة المشاعر والأحاسيس، بينما يتخللها صوت الشاعر نفسه بين الحين والآخر في ذهابه نحو آفاقٍ أخرى من الكلام حول المرأة المصرية بشهامتها وجدعنتها وحرصها على تربية أبنائها في سبيل هذا الوطن.
في قصيدة بديعة تحمل رقم (4) ينطلق الشاعر نحو أروع قصائد ديوانه على الإطلاق والتي تحمل عنوان “البلدة كشفت أسراري”، من خلال قصة حب جمعت بين قلبين بقرار مسبق، رغم أن أناس تلك البلدة قد كشفوا المستور، في وقت لم ينطق فيه بحرف واحد، لكن لغة تسكن عيني حبيبته قد غلبت كل فعل وكشفت كل الأسرار، ومع ذلك يتساءل في حيرة: هل يمكن أن تكون رابطة عنقه وملابسه المعتقة بعطر روحها قد فتشت السر أمام كل الفتيات، هل يعقل أن بعينيها يمكن أن تُستوحى أرقي الأزياء، وبلسمةِ طيبٍ من يديها تتطيب كل الأجواء؟، وذلك بعد أن صارت قصة هذا الحب محفورة فوق الجدران ، ورواة العالم قد نسجوا منها قصصاً وحكايا مستمدة من عيون حبيبته الملهمة التي لاتعرف طريقاً نحو الكتمان، حتى صارت تلك القصة ملحمة ترويها كل البلدان.
وفي خامس قصائد الديوان يقدم لنا “طارق عرابي” بأسلوب العامية حكمة بالغة الأثر على كل من يندم على خسران حب مضى وانقضى من جانب أحد الطرفين، وهو ماقد يتسبب في جرح غائر يصعب نسيانه، خاصة أنه كثيراً ما عاش أحد الحبيبن بين دموعه وحسرته على ذلك الخسران، فيهب في وجه حبيبه في تحد صارخ رافضا أن يكون مجرد “عقد قابل للتجديد” حتى يعودا إلى سيرة حبهما من جديد، ومن هنا لابد له أن يندم على كل ما فات، وبعزف عذب شجي على العود تأتي الكلمات مصحوبة بصوت مغن طربي رصين “أحمد بدوي” يبعث على الشجن لتنهي حالة الندم.
بمداد من الوجد وبلغة صوفية خاصة جدا يرصد لنا “عرابي” في قصيدته السادسة حالة عشق بين حبيب وفتاة يشاركه سيده في حبها ، وهنا تبدو لي إشارة واضحة إلى تأثره بأقطاب الصوفية بما ترصده القصيدة بنوع من الوله والاشتياق، فلا حكم للمحبين فيما لايملكون – على حد تعبيره – فالحب قدر لم يأتِ يوماً قبل موعده ، فإذا ما وُلد الهوى ليلقانا فمن ذا الذي يردُ الوليدَ بعد المَوْلِدِ، هذا صحيح جداً، ويبلغ قمة الصدق في تصريحه دون تلميح بأنه لم يرغب في نوع من العشق في الخفاء، ولكنه يحصد الحب دوما بالوفاء، ويبلغ قمة التألق بوصف حبيبه كعاشق بالحب يهتدي بها وتحدد له معالم الطريق.
“ذنبي ولا ذنبك” القصيدة السابعة ترصد حالة عتاب من خلال حبيب يخاطب حيببه قائلا: هو ذنبي ولا ذنبك .. مش مهم ، لو حترجع وأبقى جنبك ده الأهم، لكنها عودة مشروطة على مايبدو تتمثل في شكل من أشكال التسامح بين طرفين، ولعل أجمل الوعد ذلك المقرون بمسح كل آثام الماضي بصفحة بيضاء جديدة، خاصة أنه في هذه الحالة سيختفي العند من قاموس لغتهما المشتركة، وتبقى كلمة الحب هى السر ومفتاح النجاة، وعلى إيقاع الجيتار يتغنى “أحمد بدوي” بكلمات الأغنية التي تبدو حالة خاصة في العتاب بين المحبين، لكنها تعكس أن العودة ربما تنسي كل آثام الماضي وتمحوها مع أول لقاء.
في مفارقة غريبة وعجيبة تحمل فلسفة خاصة يرصد لنا الشاعر “طارق عرابي” في قصيدته الثامنة موقف طريف من خلال قصيدة تقترب من الفكاهة في صورة فلسفة عميقة، وهى بعنوان “النملة وحبة الرمل”، وتحكي قصة نملة ضاق بها العيش فراحت تستدعى جمهور النمل قائلة: بكسرة خبز وحبة رملة نشرح درساً للإنسان، مستوحية ذلك من درس سيدنا “سليمان” قديماً، وتقول الحكمة: “إذا كان الرزق على الرحمن فليس هنالك من خوف أو أحزان”، وقد أعجبني جدا تشبيهه قلب النملة بالفرسان، لأنها تحمل نوعا من الجسارة ولا تستسلم أبدا للأحزان، ومن هنا فقد ذهب علماء النمل في وضع خطة العمران حيث ذهبوا للصحراء ليبدأوا الزرع والبينان، لتثبت النملة أن أرضها أرض سلام لا تحمل كرهاً أو عدوان، فقط هو نمل يبني دون كلام وطناً يسكن في الوجدان، وذلك كله في إشارة إلى نوع من البشر يعيش ليبني ويمحو من قاموسه كلمة الهدم بحكمة وجوده من قبل خالق هذا الكون.
“كن فيكون” .. تلك القصيدة التاسعة التي تحمل في طياتها قدراً من الإحساس بالوطنية وقيمة الجيش المصري، حيث يتوجه الشاعر من خلالها للبشرية في كل أنحاء العالم، حاملاً نياشين الفخار، مؤكداً أن حرب أكتوبر كانت درساً عظيماً، فبعدما كان الحال “لم يكن في الإمكان” قام الجيش ومن ورائه الشعب في هذا اليوم الذي وافق العاشر من رمضان بتحقيق أكبر نصر في التاريخ، وذلك على أثر دعوة أم في شهر كريم لاسترداد الحق والكيان، وهنا إشارة واضحة إلى أن هذا النصر جاء بأمر من الله وتوفيقه في تلك اللحظة النورانية من تاريخ هذا الوطن، وذلك بعد أن حطم جيشنا ساتر المحال، وبعد أن كان العبور دربا من الخيال، لكن الله سلم وعرفنا أن النصر في أكتوبر هو بمثابة حياة، وقد ضمن بهذه المناسبة دعوة صريحة وواضحة مؤداها: أنه لابد من ضرورة التخطيط للمستقبل لتنفيذ أهداف بلدنا بناء على روح أكتوبر العظيم، الذي غير مفاهيم الحلم ونفض غبار اليأس عن نفوس أعجزها الخوف طويلا من تحقيق حلم عودة حدود الوطن كاملة دون نقصان، لأنه باختصار: لو أراد رب الكون فيصير الأمر “كن فيكون”.
من خلال قصيدته العاشرة “القصة كانت وهمية”، يوجه الشاعر “عرابي” رسالة لامرأته التي أطلق عليها “ذات الذكرى الحسية” في تحد واضح وصريح واصفاً إياها بشوكة قلب أبدية قائلاً لها: قصتك كانت وهمية، فبعدما جذبته بخدودها الوردية وبدموع الشوق والشفقة مشفوعة بشفاه تهمس في مهده، خدعته بدفء وهمى في برد قارص ونسيم يشهق من عطره، وعبر أمواج البحر وقوارب بلا شطآن يهيم الشاعر واصفا كذبها وواصفا إياها بأنها خائنة سلام في الحرب، ومن ثم أصبحت بارعة الطعنة في القلب، فهى لا قلب لها يتألم أو حس فيها يتعلم، بل هى مجرد حطام يتكوم، لذا أصبحت قصتها منسية وفي طي الكتمان.
عن إنكار الحب بحب جديد، تأتي القصيدة رقم (11) والتي تحمل عنوان “كتر ألف خيرك” بضمير المتكلم الذي يعد بعدم محاسبة محبوبه لأنه باختصارهجر قلباً خانه، وحتى لو كان قرار الخيانة نابعاً منك أو من غيرك لافرق في هذا، وحتى ذلك الخيال الذي زعمت من خلاله أنه من المستحيل أن أستغني عنك فإن رده عندي يأتي في قلب غيرك، ويقول في أسى وحزن: “مش بطولة لما تكسب بالخداع قلب صافي كان مصدق حب قلبك، مش رجولة لما تنوى ع الوداع وانت طافي كل نور الحق عندك”، وهنا ربما قد حسمت قرارها بأن لن تبكي بعده، فهى ليست من البنات التي يمكن أن تضيع على أثر السكوت، لأنه بالنسبة لها في النهاية أصبح مجرد “ذكرى تاهت وسط حبة ذكريات”.
من وحى قصيدة “رسالة من تحت الماء” يذهب طارق عرابي في قصيدته رقم (12) بعنوان “كما قال نزار” في معارضة نزار شعريا بقوله: “خلصني من حبك واعذرني .. يامالك كل الأعذار”، فهى سيدة لاتقرأ في الحب إلا لنزار، وهى عاشقة وغارقة لا تتقن فن الإبحار، وعلى هدى كلمات شاعر الحب والعاطفة تهيم تلك السيدة الناطقة بلسان حال الشاعر قائلة: “اشتقت إلى نظرة عينك وازداد حنيني إلى صوتك ورجوت لقلبك عنوان”، فهى قد دونته في قلبها رمزاً لكل العشاق، ونثرته وردا في دربها رغم الأشواك، لذا تقول: “اخترتك أنت فعلمني ألا أختار”، لأنها مجرد غارقة لاتتقن فن الإبحار، وهى تتألم من بعده وستفتش في كل الأشعار، وستقول كما قال نزار: أخرجني من يَمِّكَ واعذرني يا مالكَ كلِ الأعذار، فهى في الحب غارقة تتعلق بحروف نزار.
ويخاطب “عرابي” أم الشهيد هذه المرة في قصيدته رقم (13) قائلا لها “جوانا بكره بيبتسم”: ويخاطبها بطريقة حماسية مباشرة : “إبنك يا أمي إبننا، إبنك شهيدنا كلنا” فهو في النهاية أخويا وابن عمى، وهو مايؤكد خصيصة مصرية صرفة وهى أن الحزن نقتسمه جميعاً في لحظات الأزمة، لأنه باختصار يستطيع أن يرجع شملنا كي نأتي بحق الشهيد وحق الأم وحقنا كلنا، ومهما يكون البكاء في يوم ما – يخاطب أم الشهيد – فغداً يبتسم لنا بالأمل، ويؤكدا لها بأن روحه ترفرف حولها، وفي يوم عيدها يغني لها ولنا جميعا، ويشد على يدها بدعاء المولى أن يشيد لها قصرا في الجنة، ويشير إلى أنه لاخوف بعد اليوم فالذي يحل دمنا لابد أن يعدم في غير رحمة، ويستحلفها بألا تبكي بعد الآن، فدموعها غالية علينا جميعا، ومؤكد أن “جوانا بكره بيبتسم” من هدي ابتسامة الشهيد المرسومة على وجهه وهو يودع دنيانا الفانية.
قصيدته رقم (14) تأتي غاية في الرومانسية الشفافة الحالمة بعنوان “أنام بعينيك”، حيث يخاطب فيها محبوبته قائلا: “سأنام اليوم بعينيك، باحثا عن سر بقائي في ظل عيونك التي أصبحت مهدي .. ورموشك التي صارت في الحب غطائى”، نعم فجمال قلبها استطاع أن يدركه، وأصبح يراها حلماً يأخذه على مواطن الشجن خارج إطار الزمن، بعدما أسلمها خارطته، ومع ذلك تظل تنتظرها نافذته المشرعة على الحب دوما وأبدا، فهو من أسكنها مملكته وشكلت ذاكرته حتى صارت نظراتها هى ملهمته في العشق والوجد والهيام، فذهبت كل الأحزان، ومن ثم سينام بعينيها غارقاً في بحار لا تجف من الحب، ما أجمل تلك المشاعر النابضة بالرومانسية التي تسكن عيني المحبوب.
“مقدرش أكونك” هى القصيدة رقم (15) و تحكي عن الدروس المستفادة في الخيانة في ظل اعتراف صريح بأنها تتمتع بحماية خاصة انطلاقاً من مشاعرها المتدفقة قائلة: “أنا عارفه نفسي ما أقدرش أكونك ومكنش نفسي لوكنت أخونك”، فرغم الخيانة تظل محافظة على العهد ولو لنفسها فقط، وتقول إنه حتى ولو كانت ملامحك خائنة أستطيع العيش بدونك، ورغم لغة اللوم واللوعة في خطابها، فهي تؤكد على أنها تعرف كيف تصون ملامحها وحتى جرحه لايمكن أن يكون سببا في فرحها، ومع ذلك فهي لايمكن أن تنساه، وبصوت مكتوم تناجيه وتقول إنه رغم أنك ربما تكون مصدر شقائي ودمعي، وربما أغفر لك وهذا ليس طبعي، لكني في ذات الوقت “مقدرش أكونك” فأنت أنت وأنا وأنا.
في القصيدة رقم (16) التي تحمل عنوان “حان الوقت”: قدم لنا “طارق عرابي” خطابه الشيق لإمرأة عشقت وتمنت وصارت أسطورة أزمان ولت، وهو هنا يصفها بعودٍ أخضر لم ينبت وشفاهٍ ظمأت دون أن تبتل، ومع ذلك فقد اختزن الزمن رسائلها عنده في محاولة لتحريك وجد وجدانه في ظل اختزال المطر لبدائلها في وسيلة لإعادة زمانها بزمانه، وفي محاولة لإحضارها ، ويحن القلم إلى ورقه ليدون رحلة الأشواق التي كانت، فمازالت أوصافها تمنحه القدرة لخيال يبحث عن فكرة عن كلمة سر أو شفرة ترسمها خارج أوراقه، فالوقت تبدل من أجلها والكون تأهب لما هو أعمق، والشمس تعزف لرحيل ربما يكون مراً، لكن جمالها في اللوحة يصبح أكثر إشراقاً كلما استدعى صورتها، فبحسب وصفه هى حور من أهل الجنة، وكلماتها مازالت تنبض بالحب.
موال شجي في العتب يجتره في القصيدة رقم (17) بعنوان “أنا مش عارفة”، تقول فيه امرأة لحبيبها الذي هجرها: “عارف ليه أنا باغفر ذنبك وأرجع تاني وقلبي يسامحك؟”، وتضيف: “عارف ليه باشتاق لملامحك؟”، لكنها تتراجع في حيرة لأنها لاتعرف حقيقة أمرها، لكنها أرادت أن تصارحه عندما يعود بعد إحداث الجرح وهى تلومه فإنه يشرح كي تنسي، وفي نفس الوقت تسمع له بإنصات واهتمام وذلك شعور غريب جدا في تلك العلاقة، فمهما جرحها فإنها عندما تراه تفرح عيناها على الفور وتعود لها روحها في لحظة رجوعه، ومن هنا تغفر له ذنبه وهى غير مدركة لفعلها، ومع ذلك عندما تقترب توجع قلبها من جديد وعندما تبعد ترجع ثانية وتقول “عايزاك”، هى حكاية حب معذبة، لأنها عاشقة متيمة ولاتفهم نفسها ولا تفهمه هو، فقط هى لاتعرف سوى ذلك الحب الذي يتعلق بقلبها رغم كل مايأتي به من جروح.
وفي نهاية الديوان يختتم الشاعر “طارق عرابي” بقصيدة تختزن بداخلها كماً من المشاعر العاطفية في نضج وقوة بعنوان “أحيطك علما”، تخاطب فيها حبيبة حبيبها في وجل ووله قائلة: “أحيطك علما أنني ما كنت لأكون بدونك:، وهى تحكي عن تكامل شاء القدر أن يجعله في علاقة بين قلبين عاشقين فهو الذي أيقظها بحنانه وبريق عيونه الخاطفة، وهو الذي علمها وغيرها وأيقظها من ثباتها، وهى قصيدة تغنت بها المطربة “أميرة” ولحنها المبدع “شريف تاج”، لتحصد ملايين المشاهدات في أيام قليلة، جراء عذوبة الصوت ودفء الكلمات الشاعرة وروعة الموسيقى العذبة التي أضفت أجواءً مضيئة بالرومانسية والبهجة، في ثقة الحبيبة التي تصارح حبيبها بأنه هو الذي منحها القدرة على الحب، وسبب لها السعادة أينما ذهبت أو حطت رحالها في أي مكان على وجه الكرة الأرضية.