رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

عبدالوارث عسر .. شاعر الـ 140 بيتا (على ربا عرفات)

يلقي بعض قصائده

كتب : أحمد السماحي

القلم يخجل من تعريفه فهو شيخ الفنانيين المصريين والعرب، الذي لم يقتصر إبداعه الفني على مجال التمثيل الذي صال فيه وجال فقط، ولا كتابة السيناريوهات السينمائية، ولا ترجمة العديد من المسرحيات الأجنبية مع صديقه الفنان الكبير “سليمان نجيب”، ولكنه كتب العديد من المقالات الصحافية، والدوواين الشعرية، هو الفنان الكبير “محمد عبدالوارث على يوسف عسر”، الذي ولد فى  في السادس عشر من سبتمبر عام 1894، في “درب الطبلاوي “بحي الجمالية، وهو في سن الخامسة التحق بأحد الكتاتيب فى الحي، وبعد عام واحد من دخوله الكتاب حفظ جزء كبير من القرآن الكريم.

المحدت

 فى هذه الفترة كان يوجد في حي “الجمالية” كثير من المقاهي التى تستضيف “المِحَدِّتْ”  الذي يروي القصص الشعبية والسير ــ كما ذكر للإعلامية “أمينة صبري” فى برنامجها “حديث الذكريات” ــ وكان يذهب للاستماع إلى هذا “المحدت”، وكانت تجذبه الحكايات التى يرويها، كما تجذب كل من يستمع إليها،  ويعيشون أحداثها حتى إنهم كانوا يستقبلون نهاية “الحدوتة” التى يحكيها إذا كانت سعيدة بالتهليل والفرح وتعليق الزينات، وكانت حكايات هذا الراوي هي أول ما جذب الطفل “عبدالوارث” إلى فنون الدراما.

مع أمينة رزق

تأثير مصطفى كامل

التحق ” عبدالوارث” بعد ذلك بمدرسة “خليل أغا” بالحسين، وأثناء ذلك ظهر الزعيم “مصطفى كامل”، الذى أنشأ مدرسة أهلية في شارع “أمير الجيوش” فى حي “الجمالية”، وكان يخطب فى “حوش” هذه المدرسة كل خميس، فيتجمع تلاميذ كل المدارس، وكثير من شباب الأحياء فى حوش المدرسة الذي كان يتسع لـ 5000 شخص، وكان الصبي الصغير “عبدالوارث” يحرص على حضور هذه الخطب، ومنها أحب اللغة العربية وتعلم فن الإلقاء، حبث كان عند عودته إلى البيت يقف أمام المرآه، ويقوم  بتقليد أداء الزعيم، فلاحظ والده قدرته على التشخيص إلى جانب موهبته في الإلقاء.

الشيخ سلامه حجازي

 بعد حصوله على الشهادة الابتدائية، التحق بالمدرسة التوفيقية الثانوية وفيها تعرف على أستاذ اللغة العربية الشيخ “أحمد القوصي” الذي كان أديبا وزجالا شهيرا، فلمس في الفتى مواهب عديدة، فضمه لفريق التمثيل، وكان تربط “القوصي” علاقة صداقة بالشيخ “سلامه حجازي” الذي كان ملء السمع والبصر، فطلب منه الحضور للمدرسة لتدريب التلاميذ على الأداء التمثيلي استعداد لحفل نهاية العام، وبالفعل جاء “سلامه حجازي” وتعرف على التلاميذ ومنهم “عبدالوارث عسر” الذى افتتن بالشيخ “سلامه”.

وحرص “عسر” بعد ذلك على توطيد علاقته بمعاوني الشيخ “سلامة حجازي” وكان دائم التواجد في المسرح، حتى واتته فرصة التمثيل عندما غاب ممثل، فاستعانوا به فبهرهم بحفظه للدور، والحقيقة أنه كان يحفظ المسرحية كاملة، ليس هى فحسب بل كل المسرحيات التي قدمتها فرقة “سلامة حجازي”.

مشهد من أحد أفلامه

وفاة والده

استحوذ تصفيق الجماهير على عقل “عبدالوارث” فى هذه الفترة، وكبرت آماله وأحلامه الفنية، لكن وفاة والده المفاجئة عام 1914، بعثرت آماله وأحلامه، وبدلا من الالتحاق بالجامعة اضطر للعودة إلى بلدة والده  “الدلنجات” مع والدته وأخيه “حسين” وأخته “سنية” لرعاية أرضهم التي ورثوها عن والدهم، ابتعد “عبد الوارث” عن القاهرة لمدة ثلاث سنوات قضاها في القراءة وكتابة الشعر، وعمل على تثقيف نفسه بالقراءة الجادة محاولا قدر جهده تعويض ما فاته من العلم بعدم اتمام دراسته الجامعية، لكنه لم يحتمل البعد عن الفن أكثر من ذلك.

جورج أبيض

باع قطعة من الأرض التي ورثها وعاد إلى القاهرة، بعد أن وصلته أنباء عن عودة الفنان “جورج أبيض” من أوروبا، وإحداثه ضجة هائلة في عالم المسرح بما استحضره معه من أساليب وتقنيات حديثة وتطويره للأداء المسرحي، كان عسر قد أتم تأليف مسرحية عن مقتل “الخليفة المتوكل”، فذهب إلى “جورج أبيض” وعرضها عليه، فطلب منه “جورج” أن يؤدي مشهدا تمثيليا أمامه، فألقى “عسر” على أسماعه خطبة “الحجاج بن يوسف الثقفي” يوم ولى على العراق، فأعجب به “جورج” على الفور وضمه للفرقة.

سر تجسيده لأدوار كبار السن

 كان أول تواجد له على المسرح في دور قسيس إسباني يقف صامتا خلف رئيس محكمة التفتيش في رواية تحكي مأساة العرب بالأندلس المفقود، وبعدها أسند له “جورج” دور مدير المسرح المُسن في رواية “الممثل كين” تلاه دور الراعي العجوز في مسرحية “أوديب ملكا” وتوالت أعماله المسرحية والسينمائية التى جسد فيها جميعا دور الرجل المسن، ولم يجسد طول عمره دور الشاب الصغير.

وعن السر فى تجسيده لهذه الأدوار التى صاحبته منذ شبابه الأول قال للإعلامية “أمينة صبري”: أقنعني الفنان “عمر وصفي” المدير الفني لفرقة “عبد الرحمن رشدي” التي التحقت بها بعد تركي لفرقة “جورج أبيض” بأن أدوار الرجل المتقدم في السن تتيح لي مجالا أوسع للعمل، أما أدوار الشباب فهي قليلة وتعتمد على وسامة الممثل الذي يؤدي أدوار الحب.

مع ماجدة الخطيب

الأدب والشعر

اليوم لن نتحدث عنه كفنان أثرى الساحة الفنية بأعماله الكثيرة الجادة، ولكننا سنتحدث ونكشف ابداعه فى مجال “الأدب والشعر” حيث بدأت ممارسة هواياته الأدبية والفنية منذ صباه المبكر بكتابة الشعر والزجل وكتابة بعض المقالات الصحفية بالصحف والمجلات، تلك المقالات التي تضمنت دعوته للإعتزاز بالشخصية المصرية وتوحيد الزي للمصريين، وتشجيع الصناعات المصرية والدعوة لمقاطعة شراء البضائع المستوردة، كما ترك لنا كتابا في “فن الإلقاء” ظل لسنوات مرجعا للتدريس في المعهد العالي للسينما الذي درَّس فيه مادة الإلقاء في الفترة من 1959إلى 1976، كما درّس نفس المادة بالمدرسة التوفيقية وجامعة الأزهر وكلية الشرطة.

 وقد كتب “عسر” العديد من القصائد أشهرها “أين المهرب؟”، “على ربا عرفات”، التي ألفها أثناء رحلته للحج وهي من 140 بيتا، وتأثر في كتابتها بالقرآن الكريم،  وله قصائد زجلية تحمل نوع من الفكاهة، وقصيدة “إلهي” التي كتبها بعد تعرضه لأزمة قلبية، وقصائد أخرى نشرت في مجلة الهلال، ويذكر أن له ديوان شعر لم يطبع، وديوان بعنوان “أزجال عبد الوارث عسر” يضم تسجيلا لأحداث حرب أكتوبر المجيدة في تقارير شبه يومية بالزجل، وقد وردت ترجمة له في معجم “البابطين” الشهير الخاص بشعراء العربية.

…………………………………………….

من قصيدة: على رُبا عرفات

أشعثٌ أغبرٌ يعفِّر خدَّيه

ذليلاً على ربا عـرفاتِ

خاطئ جاء تائبًا يُسْلم الـوجه

لمن لا يضنّ بالرحَماتِ غافرَ

الـذنب قابلَ التوب لبّيتُ

وصلّيت ربِّ فاقبل صلاتي

ربِّ سبحانك استويت على العرش وكرسيك

 احتوَى الكائنات وأمرت

السماء والأرض إذ قلت:ائتيا

 فاستجابتا طائعات وخلقت الزمان ربِّ

تنزَّهْتَ عن الأوليات

 والأخريات وخلقت المكان

 سبحانك اللهُ عن القاصـيات

 والدانيات أنا مثقالُ ذرة مـن ترابٍ

 أنا لولاك لست أدرك ذاتي

أنا – لولا هداك – عـظمٌ ولحمٌ

ودماءٌ تفور بالنزوات

ربيَ الله لستُ أدعـو سواه

هو أهل الحنان أهل الزكاة

وعبوديَّتي له أعتَقَتْني      

وسَمَتْ بي على الغلاظ الجُفاة

ربِّ أنت الودود أنت الرحيم

 البَرُّ أنت المرجوُّ

في الغاشيات أنا مهما

أسرفت لست يؤوسًا

إن ربَّ الهداة ربُّ الخُطاة

بَيْدَ أني أخاف عدلك

 في الميزان يهوي بكفَّة

السيئات فاكْفِني العدلَ يا رحيمُ وزنْ لي

بموازين عفوك الراجحات

واعطِني الصبر والحضور ونورًا

يغمر القلب ساعة السكرات

واعطني يومَ يحشر الناس

 جناحين حمى

 في ظلالك الـوارفات

…………………………………………….

إلهي

إلهيَ هذا منزل الروح مشرفٌ

على هَدمةٍ فامددْ يمينك واقيا

لقد بلغ السيل الزبى وتحشرجت

صدورٌ بأرواح بلغْنَ التَّراقيا

وباتت بنيَّاتٌ وشِيبٌ وفتيةٌ

تظن الأشمَّ الضخم لا بدَّ هاويا

تُساءل فيما بينها بعيونها

وتقليب أيديها حيارى سواهيا

علوت ولم أخفض جناح مذلة

وإنّ “عليَّاً” كان في الناس عاليا

ويا رُبَّ أمْرٍ أكبَرَ الناسُ شأنه

سموت له حينًا وحينًا سما ليا!

…………………………………………….

وردة صفراء

وردةٌ صفراءُ حيّتْها الأقاحي بالسجودْ

ذبلت إلا جمالاً لاح في معنًى فريد

هى في البستان مثلُ النور في جفن الوليد

إن في الضعف لحسنًا جلَّ عـن خدٍّ وجـيد

وضياءُ البدر والنسمةُ في الفجر شهود

 بِيَ حُبٌّ كلما أكتمه الناسَ يزيد

نزلت آياته: إن عذابي لشديد!

واصطليت القرب نارًا دونهـا نار الصدود!

ما عسى يُجْدي اقترابُ الجسم والقلب بعيد

حيرةٌ ضلّت بها روحي وهـيهات تعود

…………………………………………….

من قصيدة: هذا المجد

وكل منارةٍ للمجد فيه

مفاخرها ومرجعها إليّا

فهذا المجد مبعثه رجالي

وهذا الفن مبعثه بنيّا

ألا قوموا انظروا رأس احتفـالي

تروا ولدي العرابيّ الأبيا

تعالَى في الممالك ملك مصرٍ

وكنتم يا بَنّي له حُلِيّا

أتموا البدء وابتدروا المعالي

رُقيّاً مثل أولنا رقيا

خذوا أهرام مصر لكم منارًا

وهيا أنشدوا للمجد هيا

أسرة فيلم “زينب” مع أديب الرواية محمد حسين هيكل

فن الإلقاء

يعتبر كتاب ” فن الإلقاء”  للفنان ” عبدالوارث عسر” من أهم الكتب التى لا يستغنى عنها كثير من الفنانيين والباحثين والمحامين وفئات آخرى كثيرة فى المجتع مثل “الإعلاميين، ورجال الشرطة” وغيرهم وجاء الكتاب ملما بكل ما يتعلق بفنون الإلقاء، ليكون متمما للصور التمثيلية في شخصيتها، وما يعتريها من انفعالات تنطق بها الملامح والحركة، ثم تجيء الكلمة متممة ومبينة، فلا تتم الشخصية إلا بالأداء، ولا ينفصل الأداء عنها.

عندما سئل لماذا سميت كتابك “فن الإلقاء” ولم تسمه “علم الإلقاء”، فأجاب: وهذه الدراسات سميناها فنا ولم نسميها علما، لأنها تعتمد في أساسها على الذوق والجمال قبل اعتمادها على القواعد والقوانين، وما القواعد والقوانين إلا المادة التي يظهر فيها الأثر الفني”.

وقــد استهل الفنان الكبير كتابه الرائع بالآية القرآنية الكريمة “وعلم آدم الأسماء كلها” وقـد ذكر في تعريف فن الإلقاء بقوله “وكذلك كانت عناية الإنسان بالكلمات ومعانيها طبيعة أصيلة في خلقه، وإنمـا يتميز الإنسان عن سائر الحيوان بأنه ناطق، وكذلك نستطيع أن نقول أن فن الإلقاء هو فن النطق بالكلام على صورة توضح ألفاظه ومعانيه”.

وركز الفنان الكبير على النطق، لإيمانه بأن النطق من أهم مقومات الشخصية الإنسانية، وأن أهميته لا تقل عن البعد المادي “الظاهري” للشخصية بملامحها وكل ما يتميز به البعد الجسماني، ولا عن البعد النفسي بانفعالاته وأحاسيسه.

كمـا أكد الفنان الكبير على أن توضيح اللفظ يتأتى بدراسة الحروف الأبجدية في مخارجها وصفاتها وكل ما يتعلق بها لتخرج من آلة النطق سليمة واضحة المعاني ..

واستخلاص المعنى يتأتى بدراسة الصوت الإنساني في معادنه وطبقاته، وعلى الدارس أن يدرسه دراسة موسيقية وأن ينغمه حسب المعنى مما يشنف آذان المتلقي بوقع جميل على أذنه.

وقد أشار الفنان الكبير بأن تدريب الممثل على الكلام لا يكتمل إلا بالعناصر الأساسية الأخرى، فالممثل الذي يجعل الصوت هو همه الوحيد والنطق هدفه النهائي، إنما هو ممثل يقضي على نفسه بنفسه، فالممثل يحتاج إلى تطوير قواه الداخلية والخلاقة التي تساعده على الأداء التمثيلي بطريقة لا تخلو من الخيال، وإلا ظل تفسير نص الكاتب المسرحي سطحي المرام، وتكون النتيجة صوت منفصل عن جسد صاحبه وهو في النهاية لا يعبّـر عن شيء.

وتهتم المدرسة الصوتية بتدريب نطق الممثل فحسب، متناسية أن الجوانب الجسدية الأخرى تحتاج أيضا إلى قدر من الاهتمام، وقد اهتمّ بهذه الجوانب بجوار تقويم آلة النطق، المخرج الروسي الكبير “ستانسلافسكي” مؤلف كتاب “إعداد الممثل”  وكتاب “حياتي في الفن”، حيث تقوم مدرسته على التنمية الحرفية الداخلية لدى الممثل.

وفي انتقال من التنظير إلى التطبيق فقد أفرد في الباب الثاني تحديدا لـ “قواعد النطق” وقد حدد فيه فصلين يحتوي الأول على “مخارج الحروف وصفاتها” والآخر عن “التركيز والسكتتات والتمبو” وقد قال الفنان عن هذه القواعد: “هـو الذي أتاح لنا بعد ألف وأربعمائة سنة تقريبا، أن ننطق العربية كما كان ينطق بها العرب الذين عاشوا قبل هذه القرون الأربعة عشر وأصبح الممثل العربي في هذا العصر، إذا عرض له دور تمثيلي يتلبس فيه بشخصية “أمريء القيس” الشاعر العربي الجاهلي مثلا أو بشخصية “الحجاج بن يوسف الثقفي”، فإنه يستطيع أن يبرز هذه الشخصية بكل مقوماتها كاملة..

الرحيل

تزوج الفنان عبد الوارث من ابنة خالته وأنجبا ابنتين فقط هما: “لوتس وهاتور”  وقد أسماهما بأسماء فرعونية إعتزازا بحضارته الفرعونية، وحفيده هو الفنان “محمد التاجي” وقد توفيت زوجته فى 3 مايو 1979، وكان يحبها جدا ومرتبطا بها إلى أقصى درجة، وبعد وفاتها حزن حزنا شديدا عليها ودخل على إثرها المستشفى في شبه غيبوبة كاملة، وظل فترات طويلة بمستشفى “المعادى للقوات المسلحة” حتى توفي بالمستشفى فى 22 أبريل عام 1982 عن 87 عاما.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.