حبسُ الدم
بقلم : فراس نعناع
يبني د. نضال الصالح، عمارة عمله الروائي “حبس الدم” بشكل هرمي. معتمداً على التوثيق من زاوية، والزاوية الثانية على الواقعية. أما رأس هرم عمله الروائي فهي “الواقعية السحرية” وهى بنية عمله وأساسها. هذا من الناحية الشكلية ، للتنظيم والبناء العام للرواية ، ناحية الوصف. محاولاً ترك انطباعات لدى القراء، عبر طرح عمله او موضوعته وتفاصيلها وتناولها بأسلوبه ، الذي قد يكون موضوعياً، أو ذاتياً في طرحها.
- التوثيق
بعيداً عن الرسمية أو القدسية، والتي عنونها ب”بمثابة المتن”، او الهوامش. يوثق ويسرد لنا ناقلاً ما كتب عن مدينته حلب بادئاً بوصف “حبس الدم” الذي كان صهريجا لجمع الماء أيام البيزنطيين، ثم تحول لسجن والذي سجن فيه “السهروردي” صاحب فلسفة الاشراق ومات من الجوع، أيام الآيوبيين، ويذكرنا بالصنوبري الذي قال: حلبٌ أكرم مأوى. كما وثق بحيادية ما تناقلته وسائل الاعلام والوكالات عن ما جرى في حلب، لحظة دخول الجماعات المعارضة المسلحة أحياء حلب الشرقية ٢٠١٢. وما فعلته “جبهة النصرة” من تحطيم الأضرحة في مقبرة الصالحين، وتخريب حجرة (مقام إبراهيم الخليل) وسرقة الصخرة المنسوبة اليه، حيث قدمه محفورة عليها. وهدم ضريح “الشيخ النبهاني” ونشرت تقريراً مصوراً، بأنها قامت بإزالة أحد “صروح الشرك” الذي تنصرف له العبادة من دون الله. وينقلنا إلى عمورية حلب أي قبل الحثيين بمئات السنين، أي إلى القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، وينقل لنا ما كُتب عن “خير الدين الأسدي” موضوعة العمل الرئيس” من خلال من عاصروه ومنهم من تتلمذ على يديه ك”ناهد كوسا” وآخرين. كلها بمثابة المتن والمتون كثيرة تأخذك شارداً وباحثاً عن تفاصيل تعرفها وقد تكون لا تعرفها عن حلب.
- الواقعية
بين أزيز الرصاص وكل مشتقات كل وسائل الحرب التي فرضت على مدينة حلب، وبأن حلب لم تثور فأتينا بالثورة اليها. يصاب “فهد” الدكتور المهندس المعماري، حيث يتوفى وينقل لمقبرة الصالحين بصعوبة بين معارك قائمة لحظتها، ويدفنه أبا محمود التُربي.
ثم ينقلنا الصالح بين صديقين عبر رسائلهما في البريد الإلكتروني فالأول يقطن أحياء حلب الغربية “جهة سيطرة النظام” والآخر يقطن الأحياء الشرقية “جهة سيطرة المعارضة المسلحة” ، وكيفية معاناتهما للعبور للضفة الأخرى بصعوبة عبر ما سمي “المعبر” معبر بستان القصر سيء السمعة. نقل لنا نضال الصالح جزءاً من معاناة أهالي حلب الحقيقية إبان حصارها “الجزء الغربي ” منها.
كما تساءل عبر إحدى شخصياته عن تحول الرفيقة الدكتورة وصال “الشيوعية” حبيبته السابقة، من نقل البندقية من كتف لكتف وانضمامها لفصائل تقاتل النظام وقد وضعت على جباهها عصبات سوداء مكتوب عليها “لا إله الا الله محمد رسول الله”. وأجاب بنفس الوقت عبر لسان “وصال” نفسها حيث تقول لحبيبها تدعوه فيها للانضمام اليها: أفليس من حق الناس يا دكتور أن تنتفض في وجه الظلم والفساد، أفليس من حقهم، حقنا جمعياً أن نعيش بكرامة ومن دون خوف؟ الخوف من أن نغيب في المعتقلات والسجون بسبب كلمة.
أي ذنب ارتكبه هؤلاء الذين خرجوا لعبروا عن موقفهم من النظام؟ أي جريمة فعلوها ليمطرهم بالبراميل المتفجرة، ويقصف بيوتهم. هل نسيت كيف شحططوك ومرمروك بتعبيرك الذي سمعته منك حتى تم تعديل شهادتك على الرغم من أن أقدمهم واكبرهم لا يمكنه ان يكتب خمس صفحات من صفحاتها؟ ، والكلمات تطول بتبريرها وهي هنا يقدم نضال الصالح وجهة النظر الأخرى بتجرد الأديب والروائي من مواقفه . وهي بالتأكيد نقطة تحسب له . فالأدب والفن “فعل ورد فعل” كما الحياة.
الصديقين الأول يكتب عملاً عن الأسدي “علامة حلب”، والآخر يكتب رواية عن صبري مدلل “شيخ الطرب” لن أسرد كثيراً حتى ما يحترق الفيلم “ع قولة أهالي حلب”
- الواقعية السحرية
في مستوىً واسع، رغم محدودية المكان “المقبرة”، والبنية الدلالية يوصلنا الكاتب إلى لب أو قمة هرمه المعماري لنصه ، عبر واقعية سحرية باستحضار وقيام “الأسدي والدكتور فهد” من قبريهما. بينما التربي أبا محمود يرقب ويستمتع إليها ، إلى أن يصبح شريكاً في الحوار مما يجعل الكاتب يمزج الواقع بالواقع السحري المتخيل لشخوصه ، أو بطله المفروض ألا وهو “خير الدين الأسدي” علامة حلب.
لن أطيل عليكم بل أدعوكم لقراءتها، ربما البعض يحب السرد الروائي المتواصل وهو جنس أدبي ، هنا أحيانا تحتاج الى التركيز عبر التنقل بين وحداتها المعمارية الثلاث وهو جنس أدبي اخر . نحن نتظر المزيد من المبدعين خاصة في حلب والتي خف بريق نشاطها، الفكري والفني والادبي. والتي لم يساهم رأس المال الحلبي في دعمها منذ ما يقرب الخمسين سنة الماضية من القرن الماضي، فحلب ليست عمارة ولا صناعة ولا مطبخ فقط ، حلب حاضرة سيف الدولة الحمداني، حلب المتنبي، وأبو فراس والبحتري، وليلى الأسطرلابية، حلب أم الحضارات، وملتقى الحضارات. احبس نفسك. ودع دمك يسيل بهدوء في شراينيك، فحبس الدم نوستولوجيا مؤلمة.