الألغاز الثلاثينية!
بقلم : محمد شمروخ
ترى ما هو سر الحلقات الثلاثينية غير ضرورة مسايرتها مع أيام رمضان؟!
الإجابة قد تكون واضحة ويسهل استنتاجها بأن المؤلفين وقعوا تحت سيطرة المخرجين والمخرجين وقعوا تحت سطوة المنتجين الواقعين بدورهم تحت أمر المعلنين، هذا إلا لم يكن المعلنون أنفسهم هم الذين أنتجوا من الظاهر أو من الباطن، فجذب المشاهد ليكون هو المسيطر عليه الأخير في تلك السلسلة هو الهدف طوال ثلاثين حلقة، وهو لابد من وصفه بأنه نجاح إعلاني ولا يهم أن يكون نجاحا دراميا، بعد أن صار السيد المعلن يفرض شروطه ليس على مدة وعدد العمل التمثيلي فقط ولكن على موضوعه أيضا، أما فرض طاقم الممثلين والممثلات فقد انفرد به القطاع الإعلانى منذ عرفنا ظاهرة الممثل السوبر ستار والكواكب الدائرة في أفلاكه.
والنجوم والأفلاك جميعها تقع تدور حول قوة جذب جبارة هدفها نجاح المشروعات التجارية التى يتعامل بها المعلن والمنتج والتى يمكن أن يكون لها ما يبررها حسب قوانين السوق وهيمنة الميكافيللية، لكن المذنب الحقيقي في العمل هو السيد المؤلف الذي حول قلمه إلى خدمة السادة رجال الأعمال سواء كانوا منتجين أو معلنين أو الاثنين معا.
ولكنن لن تعدم شركات الإنتاج ووكالات الإعلان نموذج المؤلف الذي يتنازل عن كرامة قلمه ليسمع الكلام ويؤلف أحداثا وأدوارا تناسب الموضوع المفروض عليه فرضا، لذلك تجد المؤلف الذي يحترم إبداعه الحقيقي قد اختفى أو أزيح من المشهد أو في بعض الحالات خضع لأغراض السادة الكبار فسخر قلمه لخدمتهم!.
انظر إلى أحداث المسلسلات، ليس في رمضان الأخير المنصرم بالأمس القريب، بل خلال العقد الماضي، تجدها مسلسلات تعمل لصالح قوى الجذب القائم على الإثارة المتصاعدة والمفاجآت المتوالية والتى يتم توليفها مع الفواصل فينتظر المشاهد مشدودا حتى ينتهى الفاصل وستجد نفسك لاهثا وأنت تطارد بجهاز الريموت وأنت تضغط في عصبية، المسلسل في كل القنوات حتى تفلت من الفواصل الإعلانية التى لا تستسلم لمطاردتك وتمسك منك الزمام وتطاردك هي.
يا سيدي لا تكن ساذجا، فهؤلاء قد نجحوا بالفعل في الإيقاع بك، فما تنقلك اللاهث بين القنوات إلا دليل على أنك تنفذ خطتهم لأنك في النهاية ستهرب من فاصل إلى فاصل آخر طوال ثلاثين يوما مع ثلاثين إعادة مرة أو مرتين فيكون الحاصل تسعين مرة تشاهد فيها مسلسلك المفضل بفواصله الإعلانية.. فهل ظننت نفسك أكثر ذكاءً منهم؟!.
وهل هذا كل شيء؟!
لا وحياتك، فأنت طوال رحلة ثلاثين حلقة لكل مسلسل تتعرض لكورسات مكثفة وإن كان الريموت كنترول في يدك لتغيير القنوات في أثناء وقوعك تحت تأثيرها، إلا أنهم في الحقيقة قد امتلكوا ريموت لعقلك ليبثوا في رأسك ما يجعلك تتقبل ولو على مضض نماذج اجتماعية شاذة ومظاهر حياة زائفة لتكوين ثقافة اجتماعية وظيفتها الحقيقية إعادة تشكيل وعيك بقواعد أخرى تماما كما يعاد تشكيل وعي المدمن بإلقائه في غيبوبة اختيارية من صنع يده!
أنت في الحلقة الثلاثين قد استسلمت رغبة منك لتعرف ماذا سيحدث وما هى النهاية، لكن ورب الكعبة، أنت من البداية تعرف ماذا سيحدث والكل يعرف ذلك منتج، معلن، ممثل، مؤلف، لذلك تجدهم في الحلقة الثلاثين يسارعون بالإحداث بعد طول رتابة ويثرونك بالمفاجآت في سذاجة متفق عليها.
لا يا صديقي.. هذه الحالات من السعادة أو السخط أو التشفي أو الارتياح، ليست هى التى يريد السادة المذكورين أعلاه بربطة المعلم، أن يوقعوك فيه، فهذه الحالات ستنساها حتما وقد تنسى الأحداث ولا تعود لمشاهدتها كما تعود لمشاهدة المال والبنون وليالي الحلمية وعمر بن عبد العزيز وليالي الحلمية ولن أعيش في جلباب أبي.
وليس النماذج البشرية فقط التى اعترفت بها في رحلتك المضنية طوال ثلاثين حلقة ولكن النماذج المعيشية والثقافية التى بدأ أولادك يتأثرون بها، حتى صار عالمك بحاضره وماضيه ومستقبله، عالما غريبا مرفوضا منهم وقد تضطر أنت نفسك لرفضه لتتقبل ما أجبرت على التعايش معه ولو كغريب.
هذا إن لم تقع في الأسر وتخرج من شعور الاغتراب إلى شعور الألفة وهو الذي تم غسل مخك وروحك للوصول إليه.. لا بل تلويثهما بنماذج شاذة مزيفة حقيرة، لكن بتكثيف لامباشر اختص بلاوعيك وهذه اللامباشرة هي عين الخطر في النص الدرامي بعد اختلاطه بالفاصل الإعلاني الذي صار جزءا أصيلا فيه، فالمباشر المقدم لوعي المتلقي لا يكاد يذكر بجانب اللامباشر الذي يرسخ في اللاوعي ليحول بعد ذلك إلى أسلوب حياة لو لم تقدر على إدراكه، حلمت بأن تصل إليه وهذا هو الهدف الأساسي الذي يتحقق مع وصولك إلى الحلقات الثلاثينية في مسلسلاتك المفضلة بفواصلها التى كنت تشكو من تكراراها وإزعاجها مع أن أولادك يحفظونها معك أكثر من المسلسلات!.