بقلم : محمد حبوشة
بداية وقبل الخوض في تفاصيل مسلسل “لما كنا صغيرين”، ظني أن المؤلف “أيمن سلامة” يدرك تماما أن السيناريو عمل أدبي فني مستقل، فهو بالنسبة له مثل الرسم المعمارى يتعامل قبل كل شيئ بالحركة، بل يتحرك حواره بإضطراد بحيث يحتوى فى داخله على جوهر ديناميكية الحركة نفسها، ومن ثم فهو يحرك شخصياته بحيث يكون هناك حدث ظاهرى كاف داخل إطار العمل ليبرر وجود هذه الشخصيات فى المسلسل، كما أنه في الوقت ذاته يكون قادرا على تطوير الحركة داخل كل لقطة على حدا داخل المشهد الواحد والتى تكون بالتالى عدة حلقات فى النهاية تكون المسلسل الذى يتدخل فيه بشكل أكبر المخرج والمونتير.
لذا فإنه “أيمن سلامة” عندما شرع في كتابة مسلسل “لما كنا صغيرين” غالبا ما قصر دوره على كتابة المشاهد الرئيسية دون أن يشير الى أحجام اللقطات أو زوايا الكاميرا، وربما ضمنه فقط مجموعة من التوجيهات للمخرج والممثلين والمصور، ومع ذلك فإنه ككاتب سيناريو محترف – كما أعرفه منذ مدة – عادة ما يكون على معرفة وثيقة بالعناصرالفنية للغة السينمائية، أى أنه على دراية بإمكانيات وحدود الكاميرا وباستخدام أنواع اللقطات المختلفة أى أبعاد الكاميرا وزواياها، وكذا وسائل الانتقال، وبالرغم من أنه لم يشر صراحة لكل تلك العناصر الفنية أثناء الكتابة فقد جاء مسلسله حاملا قدرا كبيرا من الإثارة والتشويق، والتي ساهم في صناعتها بجودة فائقة باقي فريق العمل من المخرج والمصور والمونتير، وأهم عناصر صناعة العمل بصفة عامة (الممثلين)، والذين كانوا على قدر من الكفاءة والاحترافية.
وضع أيمن سلامة الكلمات على الورق ورسم الشخصية وتطورها بوضوح، وكذلك تحديد البناء القصصي والتيمات، وجاء دور الانتاج السخي من جانب أحمد عبد العاطي، من خلال شركة “أرت ميكر للإنتاج الفني” لتوفر كافة الإمكانات الكفيلة بإنجاح المسلسل، على مستوى الديكور العصري الرائع لـ (وكالة سليم منصور) والمشاهد الخلابة من فيلل وشقق وأماكن أخرى للقاءت هامشية، لكن الأداء الاحترافي لكل من (محمود حميدة وخالد النبوي وريهام حجاج، ونسرين إمام ومحمود حجازي، ونبيل عيسي، وكريم قاسم)، ساهم إلى حد كبير في خلق صورة بصرية مبهرة في جو من الإثارة والتشويق ليؤكد صدقية الأحداث طبقا لخيال المؤلف الطامح نحو خلق عوالم مغايرة تتماس مع الواقع الذي نعيشه.
وبصفة عامة فإن المسلسل في شكله ومضمونه ينتمي إلى الأعمال الراقية النظيفة في خارطة رمضان هذا العام، نظرا لخلوه أولا من التلوث البصري بعيدا عن العشوائية والعنف رغم حدة “محمود حجازي” في بعض المواقف، وبعض التشنجات من جانب ريهام حجاج، إلا أن التعاطف مع الشخصيات يظل لا يكمن في السلوك أو التصرفات الجيدة، ولا يكمن أيضاً في تفهم تلك الشخصية وسلوكها ودوافعها، ومن بعد ذلك قدرتها على الوصول إلى المشاهدين، ولكن يحدث شيء ما للشخصية الأهم، ويدفعهم الكاتب إلى طرق وقوى وعالم لا يعرفونه، وعند ذلك نجد الشخصية الرئيسة “دنيا” شجاعاة أو خائفة وجبانة طبقا لرأي “ستانسلافسكي”: الذي يقول “إن الشخصيات تحركها الرغبات”، وبحسب الكاتب “جيكوف” أيضا، الذي يؤكد على حقيقة مهمة مؤداها: “قل لي ماذا تريد وأنا سأخبرك السلوك الذي ستتبعه”.
ولم يكن التركيز من جانب المؤلف على شخصية واحدة كما روج البعض قبل بدء عرض العمل، ورغم أن “ريهام حجاج” تقدم دورها بشكل جيد للغاية ،لكن يبقى من أهم عناصر الجذب فى مسلسل “لما كنا صغيرين” حالة التشويق التي بدأت منذ الحلقة الأولى ووقوع جريمة قتل لافتة إلى أن هذا النوع من الأعمال، ما جعل المشاهد يشك فى كل شخصيات الحكاية التى تكتشف من خلالها الجانى مع آخر حلقات المسلسل، فلكل شخصية مبرر للتخلص من الضحية، ولعل استعانته بـ “الفلاش باك” لربط الخطوط الدرامية للمسلسل كان ذكيا للغاية في خلق نوع من الصراع بين الشخصيات، كما يبدو في دفاع “دنيا” ريهام حجاج، عن صديقتها “نهى” وتكذيب طليقها يحيى “محمود حجازى” وثقتها طوال الوقت بأن “نهى” لا يمكن أن تتاجر فى المخدرات فهى صديقة عمرها التي تعرفها جيدا، ولا يمكن أن تشك في سلوكها رغم أن “سليم” يقوم بتشويه شخصيتها طوال الوقت في أصرار وتحد.
وعندما يحين الوقت لتقييم الأداء العذب والجذاب، فلابد لي أتوقف بقدر من التأمل في أداء القدير محمود حميدة، الذي تمتع برشاقة في الحركة والتلوين في الإيحاءات والدلات الرمزية لسلوكه كرئيس لأكبر وكالة إعلانات في مصر، وهو في ذات الوقت يحمل خلفية أكاديمية، حيث كان يدرس لفريق عمله – في الوكالة حاليا – بالجامعة الأمريكية، وهنا استطاع “حميدة” بأسلوب السهل الممتنع أن يتقمص الشخصية بشكل مبسط وخالي من التعقيدات على جناح الجرأة في التناول، وفي كل الأحوال تبقى تلك الجرأة هى المغنطيس الأهم الذي يجذب الناس إلى “سليم”، على اختلاف فئاتهم، وكل منهم يأمل رؤية نفس الجرأة التي يريدها في نفسه، والتي تراوح ما بين الجرأة التي تغوص إلى عمق الواقع وتكسر الجدران العالية للتابوهات المعتادة ومجموعة من الممارسات السلبية في المجتمع، وبين جرأة تأخذ ذلك كله شعاراً لها، ولكنها تغرق في وحل سلسلة الجرائم التي يرتكبها “سليم” بالمكر والحيلة.
حميدة، واحد من نجوم الأداء الذي يعني – خلافاً للتمثيل الحرفي الذي يخضع الدور لعدد من التعبيرات المبتذلة المعدة سلفا – حيث يتبنى دوما “منطق” الشخصية الدرامية وكيف “يعاني” أو يعبر عن مشكلتها عبر معاناة حقيقية متجددة، تاركاً لعاطفته فرصة التجسد التلقائي الحر ضمن شروط اللعبة الدرامية، وأظن أن هذه الغاية تبدو مدركة لديه، حيث ظهر منه بناء دقيقاً متأنياً لشخصية “سليم”، عن طريق إنماء الدور وتطويره من مجرد “بذرة” إلى نبتة حية، دانية القطوف، حتى غدا شخصية تمثل محور الأحداث وتتحكم في مجريات العمل ككل، رغم أنه يتحرك في مساحة محدودة من الزمن .. على أية حال هذا ليس جديد على حميدة، صاحب العلامات البارزة في الأداء الصعب في السينما والدراما على حد سواء.
أما الرائع “خالد النبوي” في إبهاره وسطوة أدائه العالمي الجذاب، فيبدو هنا بشكل مغاير تماما لكل أعماله السابقة، فقد أثبت “النبوي أن الموهبة الفطرية ليست هي كل ما يحتاج إليه الممثل ليتألق في دور ما، وأن مهنة التمثيل لا تتطلب سوى جملة من القوالب التعبيرية الجاهزة التي يفرغ فيها الممثل دوره، وأن يجيد اصطناع الخوف أو الغضب، وأن يعرف كيف يضحك أو ينتحب، لكنه أكد على أن فن التمثيل أعمق وأبعد منالاً من ذلك بكثير، فليس التمثيل مجرد محاكاة سطحية للسلوك البشري، وليس رصيدا جاهزا من الحركات والتشنجات، بل هو “عملية خلق فني” تستهدف ترجمة أفكار المؤلف إلى حياة وحركة وفعل كما فعل تماما مع شخصية المحامي المخضرم “ياسين”، ما جعله يبعث الحياة في الشخصية التي رسمها المؤلف، ويكشف بالمعطيات الحسية عن عالمها الداخلي المعقد، ويبرزها بكل أبعادها السيكولوجية والاجتماعية.
ولا يخلو أداء النبوى هنا من لمسات كوميدية خفيفة كسرت من حدة الجدية التي يتمتع بها “ياسين” في تعامله مع الحق والقانون اللذين يعليهما فوق كل اعتبار، ولقد أعجبني جدا فيه نكران الذات والانضباط الدقيق واحترام الزملاء وكبح شهوة الظهور على حساب الغير، أو على حساب العمل الدرامي نفسه، وكأنه يلمح هنا إلى وصايا “ستانسلافسكي” الكثيرة في هذا الصدد، ومنها عبارته المأثورة “لا تحبوا أنفسكم في الفن، بل أحبوا الفن في أنفسكم”، وكان إذا احتج أحد الممثلين على دور صغير أسند له “ستانسلافسكي” كان يرد عليه كمخرج مسرحي بقوله: “لا توجد أدوار صغيرة، بل يوجد ممثلون صغار”، ومن هنا ظهر “خالد النبوي” من الممثلين الكبار الذين يمكن أن يتركوا بصمات في أدوارهم على نحو يسجله التاريخ كعلامات بارزة في سجل الأداء الدرامي.
ونأتي لدور الفنانة “ريهام حجاج” التي كانت فاكهة طازجة في هذا المسلسل بطول الحلقات وعرضها، على مستوى الأداء البسيط من ناحية ومن ناحية أخرى على مستوى الملابس التي توفرت فيها عناصر الشياكة والرقي، وعلى قدر الجدل الذي أثير بشأن بطولتها للعمل ككل، إلا أنني أراها جيدة جدا وطورت أدواتها بشكل أكبر عن تجربتها في بطولتها الأولى لمسلسل “كارمن” والذي نجحت من خلاله إلى حد كبير في أداء دور مذيعة الراديو، لكنها هنا في “لما كنا صغيرين” تدخل المعترك الدرامي على ظهر شخصية قلقة رومانسية جادة جدا وعملية، مرحة ومحبة للحياة ولكل أصدقائها، ويبدو أنها نجحت أولا في تحليل الدور بما يعني استجلاء مختلف المقومات الخلقية والعقلية والاجتماعية التي تتكون منها شخصية “دنيا”، وسلكت في ذلك أفضل سبيل إلى الإحاطة بمقومات هذه الشخصية عن طريق استقراء النص وبالتالي فهم أبعاد الشخصية.
على المستوى الشخصي أنا راضي جدا عن أداء “ريهام” في ثاني تجاربها في البطولة الدرامية، وأرى أنها وجه مشرق جدا وملفت وجذاب للغاية، بما تتمتع به من جمال على مستوى الشكل والروح، فضلا عن امتلاكها موهبة جيدة جدا استطاعت أن تثقلها في بوتقة الدراما التي لحقت بها قبل عشر سنوات تقريبا، وظني أن المستقبل يحمل لها مفاتيح كثيرة من بوابات التألق لتكون واحدة من نجمات الشباب الذين يتقدمن الصفوف الأولى اعتمادا على ذواتهن وقدراتهن التمثيلية، وليس بدافع مباشر أو غير مباشر كما يدعي أو يتصور البعض .. إنها ببساطة وجه جميل يحمل كثيرا من التفاصيل المعبرة التي تملك القدرة على التعبير ببراعة وواقعية في الأعمال الاجتماعية والرومانسية والأكشن، وغيرها من أعمال تتطلب ملامح مصرية بلمسة أوربية.
نسرين إمام، ممثلة تملك قماشة عريضة على مستوى الأداء الميلودرامي، سواء كان ذلك في اقلب لمجتمع المخملي أو في الحارة الشعبية، وهى هنا في “لما كنا صغيرين” كانت طيفا جميلا في الحلقات الأولى عبر شخصية “نهى” التي لعبتها باحترافية عالية، واستطاعت أن تعبر عن تناقضات الشخصية الهاربة من مجتمع فيه أب لاهي وأخ متعنت لتندمج بطريقة ناعمة جدا مع طبقة من “إيليت” المجتمع، ورغم سقوطها الأخلاقي، فإنها كانت تحمل في أعماقها بعض القيم الخيرة، على العكس تماما من خاتمتها المأساوية التي تلخصت في الصراع بين الضمير ومقتضيات المصلحة الشخصية الذي يشكل جزءاً من أزمتها الداخلية، ولقد عبرت “نسرين” باحترافية عالية عن تلك الشخصية المركبة في كل مراحل تطورها الدرامي.
كريم قاسم، هو مفاجأة العمل بالنسبة لي، فقد اتسم أداءه بالتوازن في هدوئه وحتى عصبيته الوحيدة في الاعتداء على شقيق “نهى” الذي اعتدى عليه من قبل في أثناء دفنها في المقابر، ولقد استخدم “قاسم” لغة الجسد والصوت بطريقة مناسبة لشخصية “وائل” ورسم ملامح الطيبة في عذوبة غاية في الروعة، بحيث احتفظ بهدوئه طول الوقت مع التصرف بعقلانية تكشف جوهره الطيب، وأجمل مافيه أنه لم يذهب إلى فكرة ذوبان الممثل كلياً في دوره، بل كان حريصا على الامتزاج والتكامل بين الممثل والدور، ليصبح في النهاية ذلك الممثل الذي يتكيف ليلائم دوره بأسلوبه الخاص، دون أن يخرج عن الصورة التي رسمها المؤلف في خياله عن شخصية “وائل” البسيط هادئ الطبع الذي يكره المشاحنات والمبالغة في مشاعر الصداقة أو حتى في لحظات التعبير الرومانسي من جانب طرف لطرف آخر.
محمود حجازي، لا أخفي انحيازي له منذ فترة، وأعلم أنه ممثل جيد للغاية، لكنه في لعبه شخصية “يحيى” وقع في خطأ النمطية التي اعتاد عليه في أعماله السابقة، مثل مسلسلي “طاقة حب، الأخ الكبير” اللين انتهيا منذ فترة قريبة، فهو لم يظهر جديدا يذكر في “لما كنا صغيرين”ـ يمكن أن يميزه في أداء مختلف على غرار دوره الرمانسي الرائع في “أبو العروسة”، وعلى غراره يأتي نبيل عيسى ، في أداء انفعالي ضاعت معه ملامح شخصية “حسن” الذي يفترض أن يكون انطوائيا هادئا نتيجة تربيته الحياتية البسيطة في ظل أسرة قوامها أم وأخ بارع في مهنة المحاماة.