كتب : أحمد السماحي
لغة الكلام ليست هى الوحيدة التي يمكن للإنسان أن يوصل رسالته السامية من خلالها إلى العالم، أو ليعبر عن همومه وآماله وطموحاته، لكن الفن أو الفنان له لغة أخرى يتواصل بها مع العالم، وهى لغة عالمية يفهمها الجميع بدون واسطة أو ترجمان.
والأعمال الفنية التي تحمل رسالة أو هدف في مصر وعالمنا العربي قليلة، والهابط والمتردي والأعلى صوتا هو المنتشر، خاصة في السنوات الأخيرة، لهذا اصطدم مؤخرا الفن بالدين من قبل بعض تجار الدين وغلاظ وقساة القلوب الذين اعتبروا الفن وجميع أنواعه من تصوير ورسم ونحت وتمثيل وغناء إنما هو رجس وعمل من أعمال الشيطان، وبالتالي فهو حرام ولا ينبغي على المسلم الاشتغال به أو التعاطي معه أو ممارسته، مع أن الفن والدين كلاهما يتنافسان على الخير وتهذيب القلوب وتزكيتها، وكلاهما يحاولان تقديم رسالة جميلة لهذا العالم، وكلاهما يخدم الآخر، فالفن خادم للدين يرسم له المحاريب، ويزين له سقوف المساجد والمعابد والكنائس، كما يزين له أغلفة المصاحف والكتب المقدسة والرسائل الدينية والدعوية.
ولهذا كانت دائما مسيرة الفن والدين واحدة، وخاصة في العصور المتنورة، فلم يرفض القرآن، الشعر ولا الفن بإطلاقه، وكلنا نعلم من السيرة النبوية الشريفة أن النبى عليه الصلاة والسلام استمع إلى شعر “الخنساء” واستزاده واستحسنه، كما أن القرآن فرق بين الفن الهابط الساقط، والفن الجميل الراقي، وهو ميزان ينطبق على كل فروع الفن، وجعل من الفنانين فريقين، فريقاً من أهل الكذب والنفاق والسمسرة والهوى، وفريقا من أهل الصدق والإيمان والحق، يهدف من فنه تبليغ رسالة هادفة إنسانية جميلة.
ومن الأعمال الدرامية التى تتبع الفريق الثاني وتقدم رسالة إنسانية هادفة وراقية في شهر رمضان الجاري مسلسل “حارس القدس” تأليف المبدع ” حسن .م. يوسف”، إخراج المتميز ” باسل الخطيب”، وبطولة عميد الدراما السورية ” رشيد عساف” ومعه كوكبة من النجوم المتميزين، ولقد حاولت أن أنتظر لنهاية الشهر الكريم لأكتب عنه، حتى تكون رسالته قد أكتملت، لكني لم أطق الصبر لنهاية الحلقات ــ التى يجلس الإنسان أمامها ليتطهر يوميا من ذنوبه وأخطائه ــ رغبة مني أن يشاهده أكبر عدد ممكن من المصريين والعرب، لأن هذا العمل هو أبلغ رسالة لكارهي الفن، أن الفن حلال وجميل جدا، وأن الوعي بالفن وأهميته له دوره الفعال في تهذيب مشاعر الإنسان وأحاسيسه.
يتناول ” حارس القدس” سيرة حياة “المطران ايلاريون كابوتشي” أو”كبوجي”، الذي عرف بمواقفه الوطنية المعارضة للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، وعمل سراً على دعم المقاومة، واعتقلته سلطات الاحتلال عام 1974 أثناء محاولته تهريب أسلحة للمقاومة، وحكمت عليه محكمة عسكرية بالسجن 12 عاما، أفرج عنه بعد 4 سنوات بوساطة من الفاتيكان، وأبعد عن فلسطين عام 1978، وأمضى حياته بعد ذلك في المنفى في روما حتى وفاته.
رغم أن المسلسل يحمل اسم “المطران ايلاريون كبوجي” بما يوحي بأنه سيرة ذاتية لشخصية ” المطران” إلا أنه يتجاوز ذلك تماما ويجعل من “كبوجي” رمزا للنضال، ويجعل من هذا المطران فى ذات الوقت نموذجا للبساطة والبسالة والحكمة والقدرة، نراه في حياته العادية يتعامل مع كل من يدق بابه بحب وحنو ويشرح لهم في سلاسة ما استغلق على عقولهم من كلمات، يربي فيهم جيلا يؤمن بالله وبعدالة قضيته.
وقد بدأت الحلقات في وقتنا الحالي وبالتحديد في روما يوم 22 / 12 / 2016، حيث يقدم السيناريو “المطران” كعجوز ونلمح في وجهه الصافي ابتسامة مفعمة بالحب والرضا، ابتسامة عطوف حانية، خاصة مع تلقيه مكالمة تعلن تحرير حلب، ليعود بنا السيناريو بعد مشاهد قليلة فى العصر الحالي، إلى طفولة ” جورج كبوجي”.
وحتى الآن تفوق كاتب السيناريو “حسن م. يوسف” في تقديم عمل ممتع، فرغم أن حياة ” المطران” تعطيه مادة خصبة وثرية للتعامل معه كبطل فرد، إلا أن “حسن” نجا بحذق من أسر شخصية المطران، وحافظ عليه كنموذج إنساني يعبر عن روح شعب لا عن بطولة أسطورية خارقة.
وقد اتسم السيناريو برحابة الأفق، وعمق الفهم، ولم يسقط فى هوة شوفينية عنصرية عقيمة، بل قدم نماذج شديدة الإنسانية والصدق، على جانبي الحلقات، مثل شخصية ” أم عطا” الست الفلسطينة البسيطة التى احتضنت المطران عند قدومه للتعليم فى القدس، وساندته، والتى أبكتنا جميعا برحيلها، وأيضا شخصية ” مريم” المسيحية، التى أحبت شابا مسلما وأرادت الزواج منه، وتراجعت في اللحظات الأخيرة وندرت نفسها للرب وخدمة الدير، وأيضا علاقته برفيق الطفولة ” برو” العاطل عن العمل.
وقد حفل المسلسل بمباراة رائعة في الأداء، خاصة العملاق “رشيد عساف” الذي جسد شخصية “المطران كبوجي” فوعاها ودرس خصائصها وعبر عنها فى إيجاز واقتصاد وبلاغة وحنكة، بحركة يد أونظرة عين، بمشية دقيقة، محسوبة ونبرات صوت مترعة بالثقة والحكمة والصبر والجلد، لدرجة أنك تشعر أن “المطران كبوجي” عاد إلى الحياة ليقوم بنفسه ببطولة هذا المسلسل الذي يحكي قصة حياته، وأصبح “المطران كبوجي” هو “رشيد عساف”، و” رشيد عساف ” هو ” كبوجي”.
وأتقن الفنان “إيهاب شعبان” الذي قدم دور المطران في شبابه، دوره وقدمه بشكل مبهر، واستطاع أن يعبر عن أدق التفاصيل بشكل دقيق جدا، وعبر بوجه وجسده بشكل رائع في المشاهد التى يتعرض فيها ” كبوجي” للخطر، على أن المطران بشرا يتسلل الخوف على قلبه، للحظة وينتابه الهلع برهة، لكنه سرعان ما يتماسك.
وقدم كلا من ” سليم صبري، صباح جزائري، وأمل عرفه، نادين قدور” أدوارهم بشكل جيد، وكما كتب السيناريو وإن كانوا حتى الآن لم يقدموا أدائا مبهرا.
وأبهرنا المؤلف الموسيقى “سمير كويفاتي” بالموسيقى التصويرية للعمل، وتألقت الصوت الراقي مثقف ” ميادة بسيليس” وهى تشدو بقصيدة الشاعر الفلسطيني الراحل ” يوسف الخطيب” المفعمة بالإنسانية.
وفى هذا العمل يستعيد ” باسل الخطيب” لياقته الإخراجية، ويقدم عملا ممتعا، مليئ بالمشاهد الرائعة، من حيث التصوير والإخراج، فعادة تقع أعمال كثيرة من التى تتناول الشخصيات التاريخية فى مأزق الحيز الجغرافي لموقع البطل، وتعكس عادة هموما إقليمية، إلا أن “الخطيب” تمكن من تعريب القضية المطروحة وحولها من قضية تتعلق بسيرة حياة شخص إلى هم عربي حقيقي وإلى ممارسة فعلية للنضال العربي.
وهنا لابد أن نتوقف ونشيد بالأزياء التى نفذتها بصدق وجمال ورقي كلا من “ناهد العلي، وديمة فياض”، كما تفوق مهندس الديكور “إبراهيم أبولبدة”، بشكل مذهل في الديكورات التى نقلتنا بكل صدق وأمانة لأجواء سوريا وفلسطين وروما، وكان مكياج “جواد كريمي” متقنا وشديد الحرفية، وشكرا للمونتيرة الرائعة “عتاب إميل داود” على النقلات السلسلة البسيطة الممتعة في المسلسل.
ومازالنا نستمتع بهذا العمل الفنى الرائد الذي لا يعتبر مسلسل درامي، ولكنه وثيقة تاريخية فنية لأجيال قادمة لتظل ذكرى “المطران كبوجي” موجودة في ذاكراتنا ووجداننا، وللحديث بقية..