ليلة من ليالي أم كلثوم بمناسبة منولوج “الغريب”
كتبت : سدرة محمد
في “صحافة زمان” لهذا الأسبوع ننشر مقال كتبه “الفنان المجهول” بعدد مجلة “الصباح” الصارد يوم الجمعة 1 ديسمبر 1933، والذي يتحدث فيه مفتونا بمونولوج جديد لأم كلثوم بعنوان “الغريب”، حيث أبدى إعجابه بصوتها ولحنها قائلا:
من الأغاني البديعة التي غنتها الموسيقارة الفنانة الآنسة “أم كلثوم” مساء الخميس الماضي مونولوج “الغريب” الذي نشرناه في العدد الماضي، من تأليف الأستاذ أحمد رامي، وقلنا إنها لحنته بنفسها، وبعد أن ألقت الآنسة أم كلثوم هذا المونولوج ظلت الجماهير في المسرح تهلل وتصفق إعجابا به، واستحسانا أكثر من عشر دقائق، ورفعت الستار عن الآنسة أم كلثوم شكرا للمهللين، المصفقين، المعجبين .. ثم أسدلت أكثر من ثماني مرات، ومن هذا يتبين القارئ مقدار النجاح الذي نجحته الآنسة أم كلثوم، لا في إلقاء هذا المونولوج فنجاحها ليس موضع بحث، ولكن في التلحين، فقد كان هذا المونولوج في تلحينه مطابقا لمعناه، وهذه خطوة ناجحة في التلحين الوصفي، وبمناسبة هذا المونولوج الجديد تلقينا من الأديب الكبير الأستاذ (الفنان المجهول) الكلمة الآتية عن الآنسة أم كلثوم.
ما أحلى وما أجمل أن يستمتع المرء بجلسة منعمة بالسرور والطرب في ندوة تغرد فيها أم كلثوم، وما أجمل أن تبتسم لأحزانك كلها في هذه الجلسة وتخرج على أغلال الشقاء والضيق، فتصبح طليقا متحررا كهاتيك الطيور التي تباكر في الأصباح الندية المشرقة أوكارها، وتسبح في جو حالم طروب مفتنة في أغاريدها مبدعة في إنشادها آخذة باللب وهى لاندري ما تصنع!.
أم كلثوم الفتاة الوادعة الهادئة التي تفرض عليك بوقار صمتها وسكونها أن تعتقد أنها لهدوئها ساذج تجزع من الحديث وتمعن في أثقال المجانبة والحذر، وحين تسمع الآنسة أم كلثوم على المسرح في حفلة كحفلتها الماضية يخالجك العجب، ويداخلك شعور غامض مبهم في أن الآنسة أم كلثوم ليست هى تلك التي تراها وادعة ساكنة في حياتها العادية، بل إنسانة جديدة تكسب من روحها القوية الجبارة على هذه الخلائق المستمعة ما يحيلها إلى ضجة طاغية من الاستحسان والإعجاب.
كلنا كان يقول في نفسه، وقد استمع أغاريدها الفاتنة في مسرها (دار جوزي بالاس سابقا)، أهذه أم كلثوم أم مخلوقة علوية هبطت إلى عالم الأرض في مهمة فنية جليلة؟.
لقد خرج ذو الوقارعن وقاره، وتكشف الطبع الصامت الحزين عن جلبة وافتتان ودهشة، فكنت ترى جمهرة المستمعين وكلهم من ذوي المقامات العالية يتمايلون شمالا ويمينا كأنهم في بحر من السحر، وكأن نفوسهم لم تتذوق هذه الخمرة المقدسة في صوت الآنسة أم كلثوم إلا في هذا المساء.
ولست أدري كيف يقول المرء في هذا ، وماهو سبيله إلا القول في عبقرية نادرة ونبوغ مدهش، فهذه الأحلام الجميلة الغالية التي تبعثها إلينا أغاريد الآنسة أم كلسثوم هى في الحقيقة أسمى ما يمكن أن يصل إليه خيال بشري، وأنت حين تسمع إليها وتنصت سوف تعرف أن صوتها المشرق إحدى هاتيك الزهور المقدسة التي كانت تقدمها الآلهة لأصفيائها في الزمن القديم.
ولست أحاول بالطبع أن أريد الناس فيها لفن أم كلثوم فذلك مالا أنزل إليه حيث هو ضرب من السخف، ولكني استمعت إليها في الحفلة الأخيرة فكان جديدها في ألحانها وأناشيدها شيئا خاصا مجيدا يسرك ويطربك ويزيد في نشوتك الروحية الموفقة.
وكان الجمهور – كعادته – يسبل أجفان عيونه ويستمع، كأنه في مقام أولئك القديسين الأحبار الذين يستمتعون في بهرة نور الإيمان إلى لحن السماء.
وبعد فإن الآنسة أم كلثوم هبة.. هبة من الله لهذا البلد الذي روعته كآبة الأزمات وأضفته الحوادث الأليمة، فإذا كان هناك مأزوم أو مهموم فليستمع إلى صوت هذه الفتاة، وأنا على يقين من أنه سوف ينسى همومه ويطرح أحزانه ويعود على فطرته الأولى رضي النفس رخي البال سعيدا في الحياة.
الفنان المجهول
مجلة “الصباح” الجمعة 1 ديسمبر 1933 العدد (375) السنة الثانية عشرة.