بقلم : محمد حبوشة
التشويق هو شعور من الفرح والإثارة مختلط مع الخوف والتوتر والقلق، وعادة ما يأتي هذا الشعور من مصدر لا يمكن التنبؤ به (مصدر غامض) ومثير، وقد يحصل هذا الشعور عندما يكون هناك دراما معلقة متصورة، أو سلسلة من الأسباب التي تترك الشخص في شك، مع الشعور ببعض التوتر كونه العاطفة الأولية التي شعرت بهذا الوضع.
ولقد برع المخرج السينمائي “ألفريد هتشكوك” خلال حياته المهنية التي امتدت أكثر من نصف قرن في صناعة سينما تختلط فيها الإثارة مع الخوف والتوتر والقلق، حين أسس لنفسه أسلوب إخراجي معروف ومميز، لذا كان هو من الرواد في استخدم الكاميرا للتحرك بطريقة تحاكي نظرات الشخصية في الفيلم، مجبرا المشاهدين على الانخراط في شكل من أشكال التلصص، وهو من قام بتأطير اللقطة لزيادة القلق والخوف أو التعاطف، واستخدم طريقة مبتكرة في مونتاج الفيلم، بحيث يبدو لنا في النهاية شريط يلامس الأشواك.
نهايات ملوتية وحبكات مثيرة
قصص “هتشكوك” في الغالب كانت تتضمن أشخاص هاربين من العدالة برفقة شخصيات نسائية، والعديد من أفلام هتشكوك لديها نهايات ملوتية وحبكات مثيرة تتضمن تصوير للعنف والقتل والجريمة، بحيث تحتوى على العديد من الأسرار، مع ذلك تستخدم كشرك أو وسيلة تخدم موضوعات الفيلم والامتحانات النفسية التي بها الشخصية، لذا فقد استعارت أفلامه العديد من مواضيع تحليل نفسي وتضمنت إيحاءات جنسية قوية.
ولعل “هتشكوك” قد عرف هذا النوع من التشويق بأنه يتجلى إلى الجمهور عندما يتوقعون شيئاً سيئاً يحدث، أو يعتقدون أن لديهم وجهة نظر متفوقة على الأحداث في التسلسل الهرمي للسينما الدرامية للمعرفة، لكنهم عاجزون عن التدخل لمنع حدوثه، ولهذا فقد عزى الأفلام التي لديها الكثير من التشويق إلى أنها تنتمي إلى هذا النوع من الإثارة.
هذا الكلام كله وغيره من مفاهيم عن الإثارة والتشويق ظل يطارد مخيلتي وأنا اشاهد المسلسل السوري اللبناني “سر” الذي يقترب في أسلوبه من مدرسة “هيتشكوك”، وربما كان ذلك سببا في أن هذا المسلسل قد وضع لدي تعريف أوسع من التشويق،
مزيج من الترقب وعدم اليقين
خاصة أن العاطفة التي ربطت بين “تالين” التي لعبت دورها “داليدا خليل” والمحقق “جاد” الذي جسده “باسم مغنية” قد نشأت عندما يكون شخص ما على بينة من عدم معرفته حول تطوير حدث هادف؛ وبالتالي يصبح التشويق هنا هو مزيج من الترقب وعدم اليقين في التعامل مع غموض المستقبل، من حيث التوقعات السردية، ربما يتناقض مع الغموض أو الفضول والمفاجأة، ولكن كان التشويق في بعض الأحداث الصغيرة في حياة “تالين” كانت مثل طفل ينتظر الإجابة على طلب قدمه لحبيب محتمل، مثل: “هل يمكنني الحصول على حب “جاد”؟، لذلك قد تكون الإجابة مشوقة بدرجات متفاوتة.
المسلسل في مجمله مثير للجدل، فأحداثه مشوقة، حيث يركز على تصوير العنف والقتل والجريمة، ويستخدم الكثير من الغموض كخدع بصرية، أو ما يسمى بـ”MacGuffins” لكي تخدم موضوع المسلسل والحالة النفسية للشخصيات، ويبدو أن المخرج “مروان بركات” اقتبس كثيرا من أفلام هيتشكوك، وذلك من خلال محاور التحليل النفسي، وضمن الأحداث كذلك بعض الإيحاءات الجنسية القوية التي جسدتها داليدا خليل بلغة جسد طيع للغاية في روعته وإثارته وتشويقه، بحيث كانت الكاميرا تتحرك بنعومة تحت مسام جلد إمرأة لعوب عبر الوجه وحركة الشفاه في ولهها نحو اقتناص لحظات استجداء كامل للعاطفة التي فرضت على “جاد”، وأدخلته رغما عنه في أتون ذلك الحصار من الحب المرفوض.
للحقيقة ترك المسلسل بصمته الخاصة على هذا اللون من المسلسلات البوليسية من حيث العناصر التي جندت له، حتى وصلتنا الستون حلقة التي يتألف منها مقنعة وجاذبة، خاصة وأن أسماء كبيرة على رأسه ومنها الممثل السوري القدير “بسام كوسا” صاحب المكانة التمثيلية المميزة، والذي يشهد تاريخه الحرص على عدم التساهل بالمعايير الفنية، فبسّام كوسا – بلا أدنى شك – رقم صعب في الدراما التلفزيونية السورية والعربية، ولقد أثبت في سنوات عمله التزامه الشرط الفني والمستوى العالي في مختلف أعماله، ما يؤكد تلك المصداقية التي يضفيها في المسلسلات التي يشترك فيها.
ومن ثم شكلت شخصيته محور الأحداث البوليسية والرومانسية التي جرى تصويرها في بيروت في خط تصاعدي، وفي قالب تتشابك عبره الشخصيات في مسار من الألغاز والتشويق والغموض الذي يلف جريمة غامضة يتهم فيها عدد كبير من المحيطين فيها، ليبدأ البحث عن الفاعل الحقيقي وسط تشويق و إثارة كبيرين للوصول إلى الحقيقة المؤلمة.
مفهوم الانتباه لدى الممثل
ولقد جاء أداء “بسام كوسة” في دوره “المافياوي” لرجل الأعمال “عامر بدران” مبطنا بنوع من الذكاء الإبداعي المسئول عن تلك “الإمكانات الخاصة” لدي ممثل يعرف جيدا مفهوم الانتباه لدى الممثل، وتأثير ذلك في تحديد شخصيته وعلاقته بالجمهور، ومن هنا كان ثراء شخصية “عامر بدران” من الناحية الفنية، والذي يتكامل بالضرورة إذا أضيف إليه واحدا من أخطر العناصر في تحقيق أداء فني وتقمص عالي القيمة في تشكيل العناصر الأساسية في المسلسل، وهي: “النص، الممثل، الجمهور، الفضاء الدرامي”، ألا وهو فن استخدام الخيال.
علينا أن نعرف أن نشاط خيال “بسام كوسة” ارتبط إلى حد كبير طوال الحلقات الـ 60 مع انتباهه، وينسب الممثل هنا إلى كل ما يراه داخل إطار النص من أشياء حقيقية وإلى كل ما يسمع ويشم ويتحسس صفات مختلفة، ويقيم علاقات متباينة مع هذه المواضيع القابلة للإدراك بصورة واقعية، إن نشاط خيال “كوسة” الإبداعي يكمن في ذلك، لذا فقد بدا لنا مثل حبل “مرمي” على الأرض، لكنه ينسب إليه ذهنياً صفات من صنع خياله، لا يمتلكها الحبل في حد ذاته، وعندما يضفي على الحبل صفات الحيّة كما ظهر في بعض مشاهد المواجهة مع زوجته “تالين”، فإنه يجد في داخله علاقة نفسية مناسبة لها، تجد لنفسها مباشرة تعبيرا ظاهرا في سلوكه، وهو ما ظهر جيدا في عينين توشيان بالشر، وفي أفعاله، وفي تصرفاته، وفي تعامله مع الحبل كما لو كان حيّة تتحرك وتؤذي وتقتل.
امرأة حادة الذكاء والأنوثة
أما “داليدا خليل” التي أطلت بشعر قصير، وبشخصية امرأة حادة الذكاء والأنوثة في أناقة عالية، إلا أنها في الوقت نفسه بدت لنا سيدة خطيرة جدا في مخططاتها وطرق تنفيذها لها، وربما هذا ما جعلها تلخص دورها بأنه الأجمل في مسيرتها الفنية حتى الآن، وتعول عليه الكثير، خاصة إنه يشكل بوابة عبور واسعة إلى البطولات العربية لاحقا، هو ما سياتي حتما في ظل ما أحدثه المسلسل من صدمة إيجابية لدى متابعيه في دور يعد منعطفا حقيقيا في حياتها الفنية التي تمتد لأكثر من 12 عاما.
نعم لعبت “داليدا” شخصية “تالين” زوجة عامر بدران، بحرفية عالية، فهى كما يقول الممثل “جوني ديب “: “إن كل دور يلعبه الممثل، يجب أن يضع جزء من روحه به، وإلا أصبح الدور كذبة، ولا شك أن جمال الممثل/ الممثلة لا يلعب الدور الرئيسي بأداء الشخصيات وتأثر الناس بها، فقوة الممثل تظهر بالأدوار الصعبة التي يجسدها، وكم سيتفاعل الناس معها”، وهو ماحدث تماما مع “داليدا”، فقد اتسم أداءها بالعفوية والتلقائية الخالية من أي مبالغة، فقط كانت الكاميرا تضخم أي تعبير في الوجه مهما بدا صغيرا مثل جفنها حين يرمش أو فمها عندما كان يرتجف انفعالا أو عيونها في لحظات الحزن تدمع بكاءا صادق أو مزيفا، وتبدو الكاميرا وكأنها المجهر الذي يقوم بتكبير العينات الموضوعة أمامه عشرات المرات، ونفس الشيء ينطبق على آلة الميكروفون الذي كان يتحسس أدنى الدرجات الصوتية (التونات)، ويعمل على تضخيمها، فلا يبدو أقل ارتفاع في الصوت عن حده الطبيعي كي لا يصبح نشازا كما هو الحال مع الصورة، ومن ثم فلم يشعر المتلقي العادي أي نوع من المبالغة والافتعال والتصنع في الأداء التمثيلي الذي ظهرت عليه “داليدا” بشكل عفوي وتلقائي.
السيطرة على شعور المتفرج
ولعل شيئا من هذا القبيل قد بدا أيضا في أداء”وسام حنا”، الذي قام بدور “مهند” بمزيج يجمع بين الكوميديا السوداء مخلوطا بقدر من التراجيديا، والتي تظهر حالة الازدواجية والمعاناة التي يعيشها، لنتذكر معه أن المعاناة للممثل ما هي إلا إحياء لآثار التأثيرات التي مرّ بها كثيرا في الحياة الحقيقية، وأنه يحيي في داخله آثار هذه التأثيرات، ويربط ما ينتج عن ذلك مع موضوع درامي لا يستطيع في حد ذاته أن يستدعي هذه المعاناة، لكن يجب على الممثل أن يبدأ باستقبال الموضوع في شكله المعطى كما هو إذا أراد أن يصل إلى جوهر المعاناة كاملة.
يقول قسطنطين ستانسلافسكي في هذا السياق “الانتباه دليل المشاعر”،وبفعل انتباه “وسام حنا” منذ لحظة التركيز الإيجابي (الإرادي) بدأت عنده كممثل عملية الإبداع أثناء التمثيل، فعيونه وأذناه وحركة جسده في الفراغ، وكل أعضاء حواسه كانت تبدو كما يعيشها في الحياة الحقيقية، وهو مالاحظناه ورأيناه وكنا نحسّه ونلمس تأثيراته على الحالة الدرامية، وفي كل الأحوال كنا نستقبل حلاته الانفعالية كأنها حقيقة، وهذا ما يعرف اصطلاحا بتحقيق عملية الإيهام التي تجعل الجمهور يصدق تماما أن كل ما يراه من خلال المشاهد التمثيلية هو حقيقة بالفعل، ما يعني إصطلاحا عملية السيطرة على شعور المتفرج عن طريق المجاهدة في جعله يحس أثناء وجوده بأنه حقيقي وواقعي وصادق إلى درجة تدفعه إلى الاندماج في الأحداث والشخصيات.
الطاقة المعنوية للممثل القادرة
وكذلك الحال مع “باسم مغنية” في شخصية المحقق النقيب “جاد حرب” على مستوى الحضور القوي للممثل، والحضور كما عرفه اصطلاحا الدكتور “إبراهيم حمادة” في كتابه “معجم المصطلحات الدرامية”، هو تلك الطاقة المعنوية الشخصية للممثل القادرة على اجتذاب الجمهور، لقد وضح هذا على “باسم” من خلال أداء غلب عليه أنه ممثل يستطيع أن يحول الموضوع إبداعيا وهو يركز عليه في أثناء التحقيقيات، ويحوله بوساطة خياله إلى ما تتطلبه حياة الشخصية التي يتقمصها، إذن فكل موضوع بالنسبة للممثل هو ما هو عليه في الحقيقة، ومن ثم يبدو لنا ذلك التفاعل والتداخل بين الممثل المبدع وبين الممثل الذي جسد شخصة ضابط الشرطة المهموم بقضية شائكة تكشف الأحداث في النهاية أنها كانت في إطار عملية انتقام أتقن إحكامها.
ممثل يتمتع بحيوية وإقناع
ويأتي في ترتيب الإجادة بعد كل ما ذكرناهم الممثل الشاب”جاد أبو على” الذي جسد شخصية “هاكر” يدعى”سامر محجوب” أو “ساموري” – كما يحب أن يطلق على نفسه – وقد أعجبني جدا أداءه الذي غالبا ما يتكدر لأن انتباهه نحو الموضوع سطحي جداً وشكلي، وفي أحيان كثيرة ينظر وهو داخل الكادر كأنه لا يرى، يتسمع لكنه لا يسمع، وبتعبير آخر إنه يتصنع الرؤية والسمع ويتظاهر بالتركيز، يحاكي الانتباه ويكرر علاماته الخارجية، في حين أنه لا يركز على المواضيع المطلوبة، لكنه في ذات الوقت يتمتع بحيوية وإقناع، وبتعبير آخر كان يملك طوال الوقت تكنيك خاص به في الأداء، حيث تقمص أفكار الشخصية وعاش تطلعاتها على نحو يضعه في مصاف النجوم من أصحاب الخبرة الطويلة على صغر سنه وتجربته.
القدرة الكبيرة على المراوغة
لفت نظري أيضا في هذا المسلسل الأداء الاحترافي للممثل المخضرم “حسان مراد” بدور “برهان” – محامي عامر بدران – والذي تمتع بحضور قوي في كافة مشاهده – على قصر مساحتها الزمنية – لكنه كان ذلك الممثل الذي يستطيع دوما أن يضع في نفسه مطلبا خاصا هو (تعلّم كيفية استثارة انتباهه هو)، فهو يعرف جيدا كيف يحول أي موضوع إلى موضوع ممتع ومشوق لنفسه، وكيف يحول موضوعا يعرفه جيدا إلى موضوع يجهله تماما، وهنا برع كثيرا في كيف يحول المعلوم إلى مجهول. إذا استطاع أن يربي في نفسه هذه القدرة الكبيرة على المرواغة بحركات الجسد والعينين، إنه في الواقع يعرف ما يسمى بـ”الخيال الخلاّق الدائم”.
ويأتي “فادي إبراهيم” في تجسيده لشخصية رجل الأعمال “بهاء نادر” بالمرتبة الأخيرة من الأداء الجيد، نظرا طريقة أدائه الانفعالي في كافة المشاهد بلا ضرورة، غير غلبة أدائه المسرحي على أدائه التليفزيوني أمام الكاميرا، وهو ما ذهب به بعيدا عن الأداء المنضبط – كما عهدناه – في مسلسلات سابقة، حيث كان يتسم بالهدوء النفسي الذي يمنحها الفرصة على استخراج قواه التمثيلية من فرط تعبير عيناه ولغة جسده التي حادت هذه المرة عن الطريق الصحيح.