كتب: شهريار النجوم
رحل عن عالمنا أمس الشاعر الغنائي الكبير صلاح فايز، الذي أثرى الحياة والمكتبة الموسيقية بحوالي 700 أغنية، – حسب ما ذكر لي الراحل الذي كانت تجمعنا به علاقة صداقة – هذه الصداقة التى بسببها أرسل لي أغنياته موثقة حسب تاريخ إذاعتها، ولقد بلغ عدد هذه الأغنيات 600 أغنية لكبار مطربي مصر والعالم العربي حتى عام 2002، بعدها قدم حوالي مائة أغنية أخرى.
بداية مشواري الفني والوظيفي
ولن نجد أفضل من الراحل “صلاح فايز” ليحدثنا عن بداية مشواره الفني والوظيفي، حيث نشر هذه الكلمات على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “الفيس بوك”، وكنت أجمعها بعد نشرها، كتب يقول: فى رحلة الحياة طالت أو قصرت نقابل نماذج من البشر.. نتخذ من قلة منهم أصدقاء أوفياء، زملاء أعزاء تجمعنا بهم ظروف العمل والنشاط يتركون لنا ذكريات طيبة تداعب خيالنا فى لحظات الصفو الجميلة .
وفى رحلة حياتى العامرة بالصداقات والزمالات المثمرة سواء خلال خدمتى ضابطا بالقوات المسلحة، والتى امتدت إلى ثلاثين عاماً صهرتنى وصنعت منى رجلا.. أعتز بالرجال الذين كانوا قادة وزملاء ومرؤوسين لى اعتزازا هائلاً.
وفى رحلتى مع الشعر الغنائى التى بدأت أخوض غمارها وأجنى ثمارها طوال ما يقرب من نصف قرن.. سعدت بمعرفة نخبة من نجوم مصر المتلألئة فى سماء الفن والطرب، وسأحكى لكم هنا على ” الفيس بوك” بعض هذه الذكريات..
كنت الابن الوحيد لوالدي وام أكن مدللاً
كنت لم أتجاوز الرابعة عشر من عمرى أعيش مع والدى رحمه الله بحى شبرا بعد وفاة المرحومة والدتى فى عز صباها وأنا فى العاشرة من عمرى ، وكنت الابن الوحيد لهما ورغم ذلك فلم أكن مدللاً، بل كان أبى عنيفاً متشدداً فى تربيتى، ولا أنكر أننى كنت أستحق جانباً كبيراً من عقابى المادى والمعنوى والتربوى لأننى كنت كما يقول الناس (ولد شقى).
فى تلك الأيام البعيدة .. كنت أهوى مشاهدة الأفلام المصرية والأجنبية على وجه العموم والغنائية الاستعراضية على وجه الخصوص، وعندما علمت بأن سينما (شبرا بالاس) التى كانت قد افتتحت فى عام 1948 تعرض فيلماً بعنوان (العقل فى أجازة)، بطولة الفتى الرائع والفنان المبدع ذائع الصيت (محمد فوزى)، صاحب الصوت المميز والألحان الشجية و (الكاريزما) الإلهية، بادرت بالتزويغ ومعى (محمد سالم) المخرج التليفزيونى والسينمائى الكبير فيما بعد، (جلال فرج) أحد ضباط الحراسة الخاصة للزعيم الراحل (جمال عبد الناصر) فيما بعد أيضاً .. أقول بادرنا بالتزويغ من المدرسة (التوفيقية الثانوية)، وما أدراكم ما معنى أن يزوغ تلاميذ من (التوفيقية) أيام الانضباط الحقيقى والتعليم (اللى بصحيح) فى تلك الأيام .. سارعنا ثلاثتنا بشراء تذاكر صالة أمامى (حسب المصروف المتاح) فى أواخر الأربعينيات لتلاميذ فى الصف الثالث الثانوى (نظام قديم)، ودلفنا جالسين نستمتع بذلك الفيلم الذى أسعدنا كثيراً، ولكننا كنا منشغلين أيضا عن متابعته بعض الشئ والوقت خوفاً من عقابنا اللاحق إذا اكتشف الأمر فى المدرسة أو فى البيت على حد سواء.
بهرنى (محمد فوزى) وبهرتنى معه أيضا فتاة تكبرنى بسنوات قليلة مصرية السمات والحركات والسكنات خفيفة الظل تتمتع بتلقائية واضحة، وكانت تؤدى دورها لأول مرة على الشاشة الفضية.. وصدقونى إذا ما قلت أننى أحسست بأنه سوف يكون بينى وبين نجمى الفيلم علاقة ما فى وقت ما بشكل ما.
والدى ه كان من رواد كازينو (بديعة)
وهذا ما حدث فيما بعد بالفعل .. ولم تكن المرة الأولى التى أشاهد فيها (محمد فوزى)، فلقد شاهدته عن قرب أكثر من مرة بشحمه ولحمه فى صيف سنة 1947 على حمام سباحة (الليتوريا) بشارع الهرم، وهو حمام سباحة المعهد العالى للتربية البدنية حالياً، والذى كان يتجمع حوله ويسبح ويمرح فيه كثير من نجوم الفن فى ذلك الزمن الجميل، والسبب أن هذا المكان كان ملتقى لهم فى فترات الراحة بين تصوير المشاهد المختلفة فى الأفلام التى كان يجرى تصويرها باستوديوهات مصر والنحاس والأهرام.
أما عن سبب تواجدى بينهم هناك وأنا فى هذا السن المبكر أن والدى رحمه الله كان من رواد كازينو (بديعة) شتاءاً وصيفاً بميدان الأوبرا وميدان (بديعة) – (الجلاء فيما بعد) الذى يحتل الآن فندق (شيراتون) محله التليد فى الماضى القريب البعيد.
وكان والدى محباً للفن وأهله وصديق لكثير منهم ولأشهرهم فى ذلك الوقت، وكان يصحبنى معه فى بعض أيام الإجازة الصيفية للترفيه والترويح، وشاهدت ورأيت وأعجبت وبهرت باسماء كثيرة لامعة ونجوم أنارت سماء الوطن العربى كله تمثيلاً وغناءاً، وكان إعجابى الأكثر وانبهارى الأكبر بذلك الفتى الوسيم الرائع محمد فوزى.
مرت سنوات التحقت فى أولاها بالمدرسة الثانوية العسكرية الملكية سنة 1949، وحصلت منها على شهادة إتمام الدراسة الثانوية (التوجيهية) سنة 1951، ثم التحقت لمدة عامين بالكلية الحربية وتخرجت سنة1953 برتبة الملازم ثان، وانضممت لأسرة سلاح المدرعات (الفرسان) سابقاً .. وخدمت تحت قيادة (القائممقام العقيد يوسف السباعى) الأديب الكبير والشهيد العظيم، والذى تنبأ لى من خلال الحوارات والتراسل بأنه سوف يكون لى شأن فى يوم ما بالأدب أو الشعر .. ولكن هذه حكاية أخرى.
فى صيف سنة 1960 كنت رئيساً لعمليات كتيبة دبابات وكنت برتبة يوزباشى (نقيب) ، وكانت الكتيبة تعسكر مؤقتاً بحى ( جاردن سيتى ) بالقاهرة.
نجمي المفضل محمد فوزي في مواجهتي
(انتبهوا أيها السادة)، فالمشهد قادم ليس فى أحداث فيلم روائى مثير ولا غنائى كبير، لقد كنت أجلس على سور الكورنيش المواجه لأعلى عمارة (بجاردن سيتى) والمميزة والمسماة بعمارة أحد ماركات السجائر المحلية التى كانت شائعة فى ذلك الوقت .. الوقت كان نهاراً قرب الظهيرة.
فى مواجهتى ألمح نجمى المفضل (محمد فوزى)، ومعه عازف الكمان الأول والمتميز بهى الطلعة وزوج (الصبوحة) الفنان (أنور منسى) .. يقفان أمام العمارة .. أفاجأ .. أعبر طريق الكورنيش الذى كان يمكن عبوره بلا تردد ولا خوف فالسيارات قليلة وبطيئة .. أقف أمامهما ألقى التحية عليهما.
أبادر فوزى قائلاً:- أنا اسمى (صلاح فايز)، باكتب أغانى ويا ريت تسمعنى، وفى لحظة مصيرية احتوانى واحتضن جرأتى ولهفتى ورجائى، وكان رده بمنتهى التلقائية والبساطة: أنا رايح أعمل (مونتاج) لأغنية جديدة .. (عارف يعنى إيه مونتاج يعنى أوصل الأغنية بشكلها النهائى اللى حيسمعها بيه الجمهور .. ولما أرجع نتغدى سوا يا أبو صلاح وتسمعنى كاتب إيه !!).
ما هذا النجم الساطع والاسم اللامع يخاطب مجهولاً لا يعرفه بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب المتواضع والواعد .. ما هذا ؟!، أين هذا من مدعى النجومية وأنصاف وأرباع الموهوبين الآن؟!.
فى شقة الفنان ” محمد فوزى “
طرت فرحاً ورحت أعد الدقائق حتى عاد (محمد فوزى) واصطحبنى إلى شقته الكائنة بالدور “26”، استمهلنى للحظات وأنا جالس (بالريسيبشن) عاد بعدها مرتدياً جلباباً بلدياً أو ما أشبه وينتعل فى قدميه (بلغة) شرقاوى وليست مغربى ..أين إذاً (الروب دى شامبر)؟، وأين ذلك (الفولار) التقليدى فى معظم أفلام النجوم وهو واحد منهم ؟!.. ما الذى كان يريد فوزى أن أفهمه؟، لقد قصد أن يكسر حاجز الكلفة والرهبة بينه وبينى دون تعمد أو ادعاء .. أنهى مخاوفى .. أحيا كل أمل جميل أحلم به وأصبو إليه.
تناولنا طعام الغذاء المكون من الملوخية والأرز والسلطة البلدى والبصل المنقوع فى الخل والدجاج المحمر الذى ناولنى منه بيده نصف دجاجة استحييت أن آكل أكثر من ربع، فأصر فأجهزت على الربع الآخر بشهية مفتوحة .. انتهينا من الغذاء واحتسينا فنجان قهوة (بن تقيل – سكر قليل) ودخنا سيجارتين (أقلعت عنها فيما بعد بسبب انسداد شرايين القلب وقاكم الله وحفظكم من شر التدخين).
شهادة أعظم من أى تكريم
ثم قال لى سمعنى يا ابو الصلح (بعد أن خاطبنى بساعتين أو أكثر بصلاح وأبو صلاح)، كنت ارتجف متردداً وأنا أرتجل ما أسمعته.. كنت آمل أن تجد كلماتى صدى لديه، وهو الملحن العظيم والمغنى الفريد.. وهو الذى استمع إلى مئات من الأغانى التى لحنها وغناها وتلك التى استمع إليها ولم يلحنها من أساسه .. لم يقاطعنى .. كان مبتسماً تظهر على وجهه علامات الإعجاب المتزن .. طلب منى أن أعيد مقطعاً مرتين فشجعنى أن أسمعه أربعة أغانى.. كان تعليقه.. أنت موهبة جديرة بالاهتمام والاحترام.. تكتب بسلاسة وسهولة ووضوح.. صاحب فكر جديد.. سوف تكون نجماً فى عالم تأليف الأغانى إذا أردت وثابرت، دوختنى الكلمات ولعبت خمر تعليقه برأسى لبعض اللحظات لكنها لم تلعب بى غروراً ومرحاً أبداً.
هذه الشهادة أعتبرها الآن بعد خبرتى الطويلة وباعى الأطول أعظم تكريم حصلت عليه طوال حياتى رغم أنه كان قبل أن أخطو أولى خطواتى فى طريق الشهرة والنجومية.
أول أغنية يلحنها ويغنيها محمد فوزى
وكانت أول أغنية يلحنها لى ويغنيها محمد فوزى هى أغنية (بعد بيتنا ببيت كمان)، وبعدها “ابتدا المشوار”، كتبت لفوزى منذ يوليو سنة 1960 وحتى رحيله فى أكتوبر سنة 1966 ثمانية أغانى، فبعد اغنية (بعد بيتنا ببيت كمان) كتبت له أغنية الأفراح المشهورة (يا ولاد بلدنا يوم الخميس)، والتى ذاع صيتها فيما بعد عندما بدأ النجم الشامل “سمير صبرى” فى الاستعانة بها باستمرار عندما شرع فى إحياء أفراح أهل مصر منذ الثمانينات، والتى أصبحت من أغانى الأفراح ذات البصمة والشهرة الكبيرة، ثم لحن لى “فوزي” أغنية للمطربة المتألقة المتأنقة دوماً صاحبة الاسم والشهرة فى عالم الغناء والتمثيل، وأعنى بها الصبوحة (صباح)، وكانت الأغنية بعنوان (بينى وبينك تار)، وكنت قد أنهيت المذهب بشطرة تقول (مافيش حلاوة من غير نار)، ولكن فوزى الجميل الأصيل نصحنى قائلاً: شيل الشطرة دى واعمل منها أغنية أخرى … ولقد كان، فلقد كتبت أغنية بنفس العنوان فيما بعد لحنها الملحن الرائع العظيم الراحل عبد العظيم محمد، وغناها صاحب الصوت الذهبى والحنجرة الماسية المطرب (محمد قنديل) رحمه الله، وسجلت على اسطوانة بشركة صوت القاهرة، وهذه الشركة بالمناسبة هى نفس الشركة التى كان إسمها (مصر فون)، والتى أنشأها ووضع فيها كل مدخراته وخبراته (محمد فوزى)، ولكن للأسف الشديد تم تأميمها فى أوائل الستينات، مما كان له أثراً بالغاً فى تدهور صحة (حبيبى وعنيه) محمد فوزى، والتى أنهت حياته فيما بعد فى أكتوبر سنة 1966 رحمه الله رحمة واسعة.
بعد ذلك قام بتلحين أغنية أخرى من كلماتى للمطرب الذى مات شاباً فى حادث اختناق بشقته مع زوجته وأولاده وأعنى به المطرب اللامع وقتئذ (عبد اللطيف التلبانى)، أما الأغنية فلقد كانت من أشهر أغانيه وهى بعنوان ( خفة دمك)، ثم لحن لى” فوزى” أغنيتين للتليفزيون هما (قلبى اللى انت ناسيه، وقد القول ) والأخيرة عن رحلة بناء السد العالى، وكان قد سبق للشاعر الراحل الكبير (أحمد شفيق كامل) أن كتب أغنية (حكاية شعب)، والتى قال فى جزء منها (قلنا حنبنى وادى احنا بنينا السد العالى) فلما انتهينا من بناء السد العالى فعلاً كان أول شطرتين من أغنية (قد القول / قد القول وكلامنا عمره ما نزل الأرض / قلنا حنبنى وادى احنا حقيقى بنينا السد)، ثم أخيراً لحن لى أيضا للإذاعة من غناء المجموعة أغنية باسم “شد الحزام” وبذلك يكون قد غنى لى خمسة أغانى ولحن الثلاثة الباقيين لآخرين.