رشدي أباظه و”آني بيريه” وبينهما الملك فاروق
* الملك يرسل سكرتيريه ليعزمهما على مائدته، فيرفض النجم الشاب، فيصيح الملك “طظ”
* مدير محل “الإسكاربيه” يعبر لـ “رشدي” عن إعجابه الشديد بدوره في فيلم “المليونيرة الصغيرة”.. فيشعر بالزهو وأنه استرد كرامته الجريحة أمام فتاته
* أم الدنجوان كانت تغار عليه، وتعتبره ورقتها الرابحة في مواجهة العائلة الأباظية
* “الدنجوان” الصغير يتحدى والدته ويتزوج “آني بيريه”، والأم تعتصر ألما على فراقه لها
بقلم : أحمد السماحي
لم تكن حياة النجم الكبير “رشدي أباظة” القصيرة – رحل عن عمر 53 سنة فقط – سوى رحلة يبحث خلالها عن شيئ يتخيله في كل امرأة قابلها، وعندما يفيق من الخيال يهرب إلى امرأة أخرى، وهكذا، حتى مات دون العثور على ضالته.
اليوم نحكي قصة غرامه وزواجه من زوجته الأولى المطربة الفرنسية “آني بيريه” التى لا يعلم تفاصيلها أحد، والتى حكاها بصوته في الشرائط التى قمت بتفريغها مع شقيقه الفنان الراحل “فكري أباظة”، ونشرتها ضمن قصة حياة نجمنا العظيم في حلقات مسلسله منذ 20 عاما في مجلة “الأهرام العربي”، وطرحتها في كتاب بالأسواق بعنوان “الدنجوان رشدي أباظة.. أسطورة الأبيض والأسود”، وإليكم تفاصيل قصة حبه وزواجه من “آني بيريه”..
في نهاية الأربعينات و”رشدي أباظة” يتلمس خطواته الأولى في عالم الفن قادته المصادفة للسهر في إحدى السهرات التي كانت تجمع نجوم الفن والمجتمع، كان “رشدي” يجلس في منزل “سهيل بولاد” صديقه وجاره في عمارة ميدان الأوبرا، وحين دقت الساعة الثانية عشرة دق جرس الباب، ودخلت فتاة يصعب أن تخطأها عين، تنفذ بسرعة إلى القلب.. جمالها – كما وصفها رشدي – يرسم حدود الرغبة في عيون الرجال.. مزيج نادر بين سحر وهدوء الجمال المصري وتمرد وسخونة الفتنة الأوروبية.. تسمرت عينا “رشدي أباظة” على هذا السهم الأنثوي الجميل.. وبينما حاولت تجنب التقاء نظراتهما، تمكن الفتى من تحقيق هذا الالتقاء فتراجعت عيناها إلى الوراء.. هنا تفجرت بداخله الغريزة “الأباظية” القديمة.. فخطا إليها بجرأة القناص.. واستجمع قواه ورجولته وقال بصوت “خشن”:
اسمي رشدي أباظة..ممثل سينمائي
فردت عليه بالفرنسية:
وأنا اسمي “آني برييه” مغنية
فقال بالفرنسية:
لو علمت أنني سأقابلك.. لتعلمت الغناء أولاً حتى اقترب منك.
فردت برقة الأنثى التي تفضل الاستسلام: أعتقد أن الغناء والتمثيل ليسا بعيدين عن بعضهما البعض.. فكلاهما يعتمد على الصدق في الإحساس.
وبعد حوار طويل بينهما أدرك “رشدي أباظة” أنه أمام امرأة ذات شخصية قوية وتمتلك ثقافة عميقة.. وانتهت السهرة دون أن يظفر منها بابتسامة أو موعد.. فاشتعل غيظاً، ولكن قبل أن تنصرف حدث ما لم يتوقعه.. فقد صافحته مودعة.. وقالت: أنا أغني في الأوبرج.. يا ريت تشرفني غداً..!
ابتسم الأباظي الوسيم.. وأدرك أن الباب لم يغلق تماماً.. فقد تركته “موارباً” وحين عاد إلى منزله لم يمر النوم على عينيه.. فرغم مغامراته النسائية الكثيرة إلا أن “آني” الفرنسية كانت شيئاً آخر، وفي المساء فتح “دولاب” ملابسه، واختار بدلة بيضاء وقميصاً أحمر تعبيرا عن أحاسيسه الملتهبة تجاهها، وعلى باب “الأوبرج” الذي دخله للمرة الأولى.. سيطرة الرهبة من المكان عليه، فقد سمع عنه كثيراً من أصدقائه.. عرف أنه ملتقى الطبقة الراقية والشخصيات المرموقة، وزادت من رهبته الكلمات التي صدمه بها الحارس الذي يقف بالباب حيث سأله: هل يوجد حجز مائدة على “البيست” باسم رشدي أباظة؟، فبادره الرجل معتذراً.. وأبلغه بأن هناك مائدة محجوزة بهذا الاسم من طرف المطربة “آني برييه” ولكن ليست على “البيست”.. وإنما في ركن هادئ.
الملك فاروق
في الركن البعيد الهادئ.. جلس “رشدي أباظة” ينتظر خروج محبوبته إلى الصالة، وبينما أخذت عيناه تتجولان في المكان.. تسمرت نظراته على وجه رجل يجلس على مائدة مجاورة تفرسه فأيقن أنه هو.. “الملك فاروق” بشحمه ولحمه وامتزجت الرهبة بالسعادة.. فهو يجلس في نفس المكان الذي يجلس فيه ملك مصر.. فطلب “ويسكي” ليضبط إيقاع عقله!.. لحظات وأعلن المذيع الداخلي عن بدء أغنية الزهرة البرية الجميلة “آني برييه”.. وبدأت الأضواء تخفت تدريجياً وساد اللون الأحمر المكان.. وخرجت “آني” إلى المسرح مرتدية ثوبا أبيض رقيقا.. وشدت بعدة أغنيات بدت آخرها وكأنها توجهها إلى الفتى الوسيم في ركنه البعيد:
من أجله اقتحم الجبال وأعبر البحار
وأهبط إلى الوديان
وأمشي فوق الشوك وأخوض المحال
وحيث يكون أذهب إليه إذا ناداني
فأنا لا أسمعه بأذني، أسمعه بقلبي
لأن كل دقات قلبي من أجله
انتهت الأغنية.. ووصلت الرسالة إلى “رشدي أباظة”.. ولم تمض دقائق قليلة حتى حضرت “آني” لتجلس بجواره.. والتقت أعينهما بإعجاب شديد.. وبينما دار حوار رقيق بينهما.. قطع خيوط الالتقاء الحميم صوت رجل وقف أمامها بأدب جم.. وقال:
أنا “أنطوان بوللي” صديق الملك وجلالته يدعوك يا مس “آني” إلى مائدته!
فردت “آني” بسرعة: أرجو أن يتقبل جلالة الملك اعتذاري هذه الليلة لارتباطي بدعوة صديق لي هو مسيو “رشدي أباظة”.
انصرف الرجل بأدب.. وعاد بنفس الأدب.. ليخبرها بأن جلالة الملك فاروق يدعوهما معاً إلى مائدته.. فنظر إليه “رشدي” بغضب وقال وهو يمسك يد “آني” بحرارة: إذا سمحت إحنا بنعتذر لجلالته.. ولا تعد مرة أخرى!.. اعتذر الرجل بهدوء وانسحب.. وبينما ساد الصمت صالة “الأوبرج”.. تناهى إلى سمع “رشدي” صوت “الملك فاروق” الغليظ وهو يقول لصديقه “بوللي”: هوه مين ده اللي قاعد مع “آني”؟
فرد الرجل: اسمه “رشدي أباظة”.. ممثل جديد
فضحك الملك “مجلجلاً”.. ورد بكلمة واحدة في قوة طلقات النار: طظ..!
وتناهت إلى مسمع الشاب الأباظي كلمة “طظ” من لسان ملكي جداً.. فانفجر بركان الفتى وهب واقفاً، رغم أنه لم يكن يعرف ماذا سيفعل في مواجهة “ملك مصر والسودان”، ولكنها المرة الأولى التي يتجرأ أحد فيها على إهانة العائلة “الأباظية” العريقة.. وقبل أن يتحرك كانت يد “آني” أسبق إلى كتفه.. ثم امتدت أصابعها الرقيقة لترفع خصلة شعر انسابت على جبهته فأكسبته وسامة على وسامته.
أرسل رشدي نظرة اعتراض إلى الملك.. لم يعرف هل وصلته أم لا.. ولكن “أنوثة” آني أنقذت الموقف.. فقد عرفت ما يدور في ذهنه.. وطلبت منه الذهاب إلى مكان آخر.. وقبل أن يرد بادرته قائلة “لا تنس أنك أمام “الملك فاروق”،
وأنت هنا في بلدك وبين أهلك، وأنا غريبة ويستطيع الملك بكلمة واحدة أن يرحلني إلى بلدي بعد ساعة واحدة”، كانت كلماتها أذكى من دهاء المرأة، فقد أرضت رجولة “رشدي” ، وأحالت الموقف إلى ضعفها هي، فابتسم الحبيب واستجاب لها، وغادرا المكان وهو يلف خصرها بذراعه، وكأنه يعلن للجميع أن “آني برييه” هي فتاته.
ذهب الاثنان إلى “الإسكاربيه” والذي كان أحد أشهر الملاهي الليلية، وكان “رشدي أباظة” يتردد عليه بصفة مستمرة، وهناك رحب بهما مديرالمحل وعبر لـ “رشدي” عن إعجابه الشديد بدوره في فيلم “المليونيرة الصغيرة” فشعر بالزهو وأنه استرد كرامته الجريحة أمام فتاته.. ففي “الإسكاربيه” كان هو الملك بعكس ما حدث له في “الأوبرج” الذي دخله للمرة الأولى.. بعدها تعددت اللقاءات بينه وبين “آني” حتى تأكد أن حبها استولى على قلبه.. ولم يكن الحبيبان بحاجة إلى وقت طويل كي يتفقا على الزواج.. وذهب رشدي إلى والدته ليخبرها بالنبأ السعيد.. ولكن “الأم” كان لديها ما لا يعرفه الابن.. فقد كانت تغار عليه، وتعتبره ورقتها الرابحة في مواجهة العائلة الأباظية، فهي لم تنس بعد ما حدث لها من هذه العائلة.. لذا كانت “تحتفظ” بهذه الورقة إلى الوقت المناسب، وهو ما دفعها إلى رفض فكرة الزواج، وبررت ذلك بأنه مازال صغيراً، ولابد أن يتريث في اختيار شريكة حياته، والحقيقة أن الأم الإيطالية كانت ترحب دائماً بمغامرات ابنها، بينما ترفض أن تمتلكه امرأة، وتأخذه منها بعد أن حاربت “الأباظية” من أجله.
هزيمة الأم
غادر “رشدي” منزل والدته وفي يده رفض مطلق للزواج وفي قلبه حب يرفض التنازل أو التراجع.. لذا كان طبيعياً أن يعود إليها بعد أيام قليلة ومعه “آني”.. فتحت أمه الباب فوجدتها أمامها.. ولم تصلها الرسالة، حيث استقبلتهما بحفاوة شديدة.. وقالت بشيئ من المجاملة “كان نفسي أتعرف على آني من زمان”.. فرد الابن بقوة مفتعلة: وهيه كمان يا ماما.. كان نفسها تتعرف عليك.. لكنني فضلت أن يكون التعارف وهي زوجتي!!
سقطت الكلمات على رأس “الأم” فتيبست الأرض من تحت قدميها.. وكادت تفقد وعيها لولا مساحات التحدي داخل المرأة حين تواجه امرأة أخرى.. تماسكت “الأم” ولاذت إلى أقرب مقعد قبل أن تتلقاها الأرض..وارتفع صدرها وهبط وهي تقول بصوت متهدج بالحسرة والألم: متى حدث هذا؟.. فقال قبل ساعة واحدة!.. فاختزلت والدته حزن الكلمات وغيرة العبارات في كلمة واحدة “مبروك”.. ثم ثارت ثورة عارمة تتفاعل بداخلها وأضافت: لازم نحتفل بالمناسبة السعيدة في مكان “شيك”.. فخرج الجميع، وظل رشدي يلف خصر زوجته “آني” طوال السهرة ويمطرها بكلمات الغزل والعشق، بينما لا يعلم أن حزناً دفيناً وغيرة قاتلة تعتصران قلب الأم، وبعد انتهاء السهرة، ترك “رشدي” والدته أسفل المنزل وقال لها”.. من الآن سوف أقيم في شقة آني”.. وانطلق مع زوجته، تاركاً الأم وسط إحساس مرير بالكراهية للفتاة التي خطفت منها ابنها الذي فشلت جدته الحديدية “زينب أباظة” في خطفه رغم نفوذها وسطوتها.
الحب يحتضر
تزوج الحبيبان رغما عن إرادة “الأم” وعاشا أسابيع وشهورا في بحر العسل، ولكن هل يحيا الحب في أحضان الاعتياد؟!.. سؤال لم يلح على أي منهما في غمرة العشق.. فقد كانت السعادة تطغى على كل التساؤلات والمخاوف والأحزان.. حتى “بطالة” الزوج الذي جلس في البيت فترة طويلة بلا عمل، إذ كانت “آني” تخرج يومياً للغناء في الأوبرج، بينما يعتصر “رشدي” ألماً بعد أن أخطأت عنوانه عقود الأفلام.. ورغم أن “آني” كانت تشعر بما يعتمل في قلبه إلا أنها ظلت تتجاهل الأمر حتى لا تزداد أزمته، وحين فقد الحبيب صبره، كان عليها أن تخفف عنه.
ولم يخرجه من الوحدة سوى بدء تصوير فيلم “ذو الوجهين” إخراج “ولي الدين سامح”، ورغم اعتراض “رشدي” على قصر دوره في الفيلم، إلا أنه وجده فرصة جيدة للخروج من الملل الذي يحاصره، ودخل رشدي البلاتوه، ولم يتجاوز عمله أكثر من عشرة أيام، وسرعان ما عادت الأزمة مرة أخرى.. وانعكست حالته النفسية والعصبية على الحياة الزوجية، وكثرت المشاجرات والخلافات بينهما، وفي إحدى الليالي عاد “رشدي” من سهرته مع البلياردو والسباحة، فوجد “آني” حزينة باكية فجلس بجوارها، احتكم كل منهما إلى صوت العقل، وانتهى النقاش الهادئ بالاتفاق على الطلاق الذي تم في هدوء تام.. وكانت هذه الكلمات هي آخر ما كتبت “آني” لحبيبها رشدي أباظة:
“الله هو الذي قاد أقادرنا وجعلنا نتقابل هل سيجمعنا سوياً مرة أخرى، لنترك له أن يفعل لنا كل ما هو أفضل.. أرجو ألا تؤلمك عباراتي هذه المرة.. طالما أنني مازلت أحبك”..
“آني” تشدو بأغاني الحزن
وفي ليلة الطلاق.. ذهب “رشدي” إلى الأوبرج، وجلس بعيداً وحيداً ليرى “آني” للمرة الأخيرة، وظهرت “محبوبته” وهي ترتدي ثوباً من “الدانتيل” الأسود، وأظلمت القاعة وبدأت تشدو بأغاني الحزن والوجد.. ثم طلب منها الجمهور أغنيتها الشهيرة “من أجله اقتحم الجبال وأعبر البحار” ، فغنتها وسط تصفيق الحضور، ودموع “رشدي” التي فشل في إخفائها .. وأضاءت القاعة لتتلقى “آني” تحية الجمهور، ثم أظلمت ليخرج “رشدي” عائداً إلى منزل والدته في ميدان “الأوبرا” وكان طبيعياً أن تخفي الأم سعادتها الغامرة وراء كلمات فاترة “ولا يهمك يا حبيبي”، ولكن الابن الجريح ظل حبيس البيت 4 أيام متواصلة، وحين سيطر الخوف على قلبها، أسرعت “والدته” بالاتصال بأصدقائه وطلبت منهم الحضور لإعادته إلى سهراته وانطلاقه، كان “رشدي” يشرب ويرقص ويضحك بقلب جريح.. فصورة “آني” تأبى أن تغادر عينه وقلبه، حتى دق الحب باب قلبه مرة أخرى.