كتب : شهريار النجوم
تحت عنوان “المضحك، الممثل، كداب الزفة” كتب الكاتب الكبير “محمود السعدني” عن ” ثلاثي أضواء المسرح” فصل من كتابه ” المضحكون” الصادر عام 1971 عن سلسلة “الكتاب الذهبي” لمؤسسة “روزاليوسف” جاء فيه :
كان اسكتش ” دكتور .. إلحقني” هو أول عمل فني للثلاثي، ونال شهرة كبيرة رغم تفاهته، لم يلبث الثلاثي أن أصبح مادة مقررة فى التليفزيون، ثم انفصل عنه فلان ليحل محله “سمير غانم”، أو “كداب الزفة” في الثلاثي الذي شق طريقه إلى المقدمة، واستطاع أن يفرض لونه المميز، ولم ينجح الثلاثي بالهبلوني، ولكنه نجح بالعمل والدأب والإلحاح على العيون والأسماع، ولأنه توافرت فيه عناصر فنية لم يستطع “دكتور إلحقني” التافه أن يكشف عنها، ولكن الرحلة الطويلة التى قطعها الثلاثي كانت كفيلة بالكشف عن هذه العناصر وبروزتها وتدشينها أيضا كلون من ألوان الفكاهة المصرية كان له في تاريخنا القريب والبعيد تاريخ.
فهذا الثلاثي هو تطوير لفكرة “الجوق” وهو مسرح الشارع، وكانت العروض تقدم في أي مكان، والجمهور دائما حاضر، وكان كل جوق يضم عدة أفراد يدهنون وجوهم بالمساحيق ويعفرونها بالدقيق، وأحيانا يدهنونها بالزيت، وكانوا يرتدون كل الملابس، عمائم، طرابيش مغربي، بدل سهرة، فساتين حريمي، بناطيل قصيرة، مونوكلات، قفاطين، وكانوا يقومون بالتشخيص والتطبيل والعزف على الآلات، فإن تعذرت عزفوا على الحلل والزجاجات والأكواب.
وكانوا يقدمون روايات مرتجلة، وروايات محفوظة وأغاني ذاع معظمها وشاع، أشهرها “يا طير يا مروح على بلدك ليه بتنوح وأنت مروح” و”لا والنبي يا عبده”، وكان لكل جوق نجم مشهور،”حمزة” في المنوفية، و”قنزيح” في الجيزة، و”عبدالشافي” في القلعة، و… و…، ثم ظهرت الإذاعة وتراجعت فرق الشارع، ثم ظهر التليفزيون، فاختفت تماما، ومن بقى منهم تطور، وعاد فى ثوب قشيب، “السيد حلال” عليه فى الأسكندرية، و”أحمد العدل” فى المنصورة.
ولكن الثلاثي ظهر فجأة لينتقم لفرق الشارع التى سفكت الإذاعة دمها، وأخفى التليفزيون جثتها، وظهر الثلاثي مطورا ومطهرا، وعاد ليطل على الناس، ومن نفس الأجهزة التى كانت السبب في اختفاء هذا الفن، وانبهر سكان العلب بالجوق الجديد، هؤلاء الذين لم يشهدوا العصر الذهبي لفرق الشارع، لأن الشارع في عصرهم أصبح ضيقا ومزدحما، ولأن وقتهم لم يعد يسمح بالتسكع، بل أن الغالبية العظمي قطعت كل صلة لها بالشارع، فأصبحت لا تراه إلا من نافذة السيارة، أو من خلال شيش المكتب، ولعل هذا هو سر نجاح الثلاثي رغم تفاهة الفن الذي قدمه للناس فى البداية، ولكن عظمة الثلاثي أنه استطاع تطوير فنه، ومن “دكتور إلحقني” إلى “طبيخ الملايكة”، ومن التليفزيون إلى المسرح، وسبب آخر هو أن كل فرد من الثلاثي ظهر ومعه مواهبه الخاصة.
المضحك
” الضيف أحمد” يرحمه الله هو أرجواز الجوق وهو بشكله وحجمه، المضحك المختار، وكانت الطبيعة سخية معه فأعطته كل ما يجعل الرجل العادي منفرا، ويجعل الرجل المضحك محبوبا، الحجم السفروت، والوجه المغضن المقلحف المعبر، والبق المفشوخ كبوابة جهنم، والظهر المحدودب، والسيقان كأنها سيقان معزة المرحوم غاندي، أراجوز لاشك، فإذا كان الأراجوز يتمتع بعقل، ومن تجربة الحياة استطاع أن يستخلص لنفسه ثقافة معينة وفهما محدودا، إذا حدث هذا العناق بين ما أعطته الطبيعة، وما منحته التجربة، كانت النتيجة فنا عظيما تماما، كما يتعانق النيل الأزرق والنيل الأبيض عند أم درمان، ليخرج من هذا العناق العظيم النيل الأعظم، وهكذا كان الضيف في الثلاثي، الأرجواز والمضحك، خليطا بين “توتو الايطالي، وحمزة المنوفي، عصير فرناندل وحسن كامل، وشرفنطح.
الممثل
الموهبة الثانية في الثلاثي هذا الولد السمين المتختخ “جورج” إنه الممثل، وهو موهبة في هذا المجال وله باع طويل، وهو نوع نادر بين الممثلين، عينة لطراز عظيم، نموذج لصنف جيد للغاية، جزء من “شارلز لوتون وعبدالغني قمر وصلاح منصور”، وهو يستطيع الآن أن يغير مساره – بعد موت الضيف – وأن يتجه بموهبته وبمفرده نحو هذا الميدان، ولو صادفه مخرج فاهم، وسيناريو جيد، ورواية حقيقية، وحظ حسن، لشق طريقة إلى القمة بسهولة، إنه صاحب الموهبة النادرة التى تؤدي أي دور وبسهولة، ولكنه السهل الممتنع، وفي “فوازير رمضان” قام بأداء أكثر من شخصية، ولكن لجوءه إلى الهزء وترقيص الحواجب وهز البطن، كان يوقف هذه الآلة التى تتقن كل الأدوار، كأنه نهر لا يجد مجرى، كأنه قطار فقد القضبان، كأنه مركب انكسر شراعها فجأة، ويا خسارة “جورج” لو ضل هذا الطريق، سيلمع سنوات أخرى قليلة ثم ينطفئ، لأن المضحك تركه وذهب، ولأن السادة “الأجاهل” على وزن “الأفاضل” بتوع السينما سيصرون على اعتصاره هكذا كما ظهر، وحرام أن تضيع موهبة عظيمة مثل موهبة “جورج”، وحرام أكثر أن يبدد هو موهبته في فن الجوق لأنه وحده يستطيع أن يصبح جوقة كاملة.
كداب الزفة
ثم يأتي دور “سمير غانم” وهو في الثلاثي “مجرد كداب زفة”، فلا هو مضحك ولا هو ممثل، ولكنه ضرورة للجوق، وفي كل جوق كان يوجد “كداب زفة”، وكان “كداب الزفة” يقوم وحده بتمثيل رواية كاملة قبل بدء التمثيل، وكان الهدف منها هو جمع المتفرجين من عرض الطريق، وكان يستخدم كل شيئ الرقص، والزمر، والقفز، والصراخ، والعويل، والعزف، والتطبيل، وهو يستطيع أن يصنع كل هذه الأشياء، لكنه ليس علما على أي منها، وكان “كداب الزفة” ينجح دائما في لم شمل الناس، فإذا بدأ الشغل اتخذ لنفسه ركنا ليس مع الجمهور، وليس مع الأراجوزات، فهو لا يتفرج ولا يلعب، ولكنه بين الحين والحين يتدخل في الشغل بهبالة، ويضيف إلى الرواية المعروضة أحداثا يؤلفها ويقوم بتمثيلها في الحال، وهو يتدخل أكثر من مرة، ولكن المرة لا تستغرق أكثر من دقيقة، وينتهي تدخله بصفعة على قفاه!
وبهذا المشهد الصغير كان “كداب الزفة” يعتصر الضحكات من قلوب المتفرجين، فإذا انتهى الشغل حمل “كداب الزفة” على كتفه متاعا أكبر، وعند القبض كان يتناول أجرا أقل، ولو لم يعمل “سمير غانم” مع الثلاثي لكان هو التطوير الأمثل لأسماعيل ياسين كمنلوجست، فهو بهيئته العبيطة وصوته المثلون، بين الأجش والمسرسع، كان يستطيع أن يكون ملك المنولوج في مصر، ولكنه أصبح “كداب الزفة” الذي كان يجمع شمل السامر، ويجمع النقطة من الحاضرين، ويحمل متاعا أكثر، ويقبض أجرا أقل، ولكن مصيبة “سمير” أنه ليس “جورج” وليس “الضيف”، ولكنه معهم، وهو لكي يستمر لابد أن يكون مع أحد.
“جورج” مثلا يستطيع أن يجرب حظه وحده ويستطيع أن يحقق في الفن أمجادا شخصية، و”الضيف” الله يرحمه كان يستطيع أن يصنع الشيئ نفسه، ولكن “سمير” لا يستطيع أن يكون إلا “كداب الزفة”، وهو لكي يكون كذلك لابد له من جوق تضم مضحكا وممثلا.