بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
كان وقع خبر وفاة جورج سيدهم بالنسبة لى ليس محزنا فحسب بل صادما ، فبرغم أجواء الموت المخيمة على العالم الآن و أخبار الوفيات التى تملأ الصحف، هناك دائما حالة إنكار داخلى و رفض لتوقع موت من تحبهم، و ربما ما أزادنى حزنا أن يمضى الرجل فى هذه الأيام ، وتجبرنا الظروف ألا نودعه الوداع الأخير، فيمضى وحده – كما عاش من بعد أن أقعده المرض وحده – و هو الذى كان محاطا دائما بالناس يحيا معهم و يحيا لهم.
و بسبب الصدمة – أو ربما هروبا منها – كانت الذكريات والصور تتوالى على عقلى فى سرعة رهيبة، فعندما يذكر اسم شخص أمامك فعلى الفور ستأتى إلى ذهنك صورة ذلك الشخص بما تعنيه من معنى وبما تحتويه من صفات وبما يمثله من خصائص و بما تكنه له من مشاعر.
وعندما تذكر اسم “جورج سيدهم ” فإنك لا تعنى فقط هذا الممثل الجميل، خفيف الظل الذى كان يجيد التراجيديا كما يجيد الكوميديا، ولكنك تعنى أيضا مجموعة من المعانى و المشاعر، ليس بالنسبة لى ولكن لمعظم الزملاء فى الوسط الفنى .
“جورج” لم يكن مجرد الممثل الكوميدى التخين، إنه الصعيدى بكل ما تحويه الكلمة من معانى طيبة، إنه الشخص الطيب إلى أبعد حدود الطيبة وكأن “تخنه” كتلة من الطيبة المتحركة، إنه الجدع إلى أبعد حدود “الجدعنة”، حتى ولو تسببت هذه “الجدعنه ” فى أذى له شخصيا، إنه “صاحب صاحبه” الذى لا يقبل كلمة نميمة ولا اغتياب، وعندما تتخطى حدودك أمامه فإنه يذكرك بمقولة السيد المسيح عليه السلام: لا تدينوا لكى لا تدانوا، غنه صورة مجسدة من الكرم أو هو الكرم شخصيا، كل من تعاملوا معه يعرفون عنه هذا و أكثر.
إذا كنت تعرف جورج سيدهم فلن تحمل هما، فى الصعاب ستجده بجوارك، فى المشاكل ستجده “سداد”، فى الأحزان ستجده “الصدر الحنين” فى الوحدة ستجده “الونيس “.. إنه كان ببساطة الصديق كما يجب أن يكون.
والحقيقة إن جورج إلى جانب كل هذه الفضائل كان أيضا مكتشفا للمواهب: يعطيها الفرصة ويساعدها ويرعاها ويقف إلى جوارها بلا مطمع أوهدف فلولا “جورج سيدهم” لما كان للكثيرين ذكر الآن، فكم من نجمة و نجم كان السبب فى ظهورهم، إنه قادر على المغامرة بوجوه جديدة ليس فى التمثيل فحسب، بل فى التأليف وفى الإخراج أيضا، وهذا فى رأيى نابع من قدرته على تقييم المواهب بدقة، و سجل فرقة “ثلاثى أضواء المسرح” ذاخر بأسماء عديدة أخشى أن أذكرها فأنسى أحدا – و إن ذكرتها كلها ربما أطيل عليكم – و يكفينى أن أضرب مثلا بنفسى فقد عملت مساعدا لأستاذي – حسن عبد السلام – في مسرحية أهلا يا دكتور عام 1980، وفى نفس العام أعطاني جورج الفرصة لكى أخرج أول عمل احترافى لى فى مسرحية تليفزيونية من إنتاجه كانت تسمى (درويش يتألق فرحا)، كان فيها من نجوم تلك الفترة “محمد رضا و نبيلة السيد و ناديه فهمى و سامح الصريطى”، و لولا اهتمامه بى ووقوفه بجوارى ما ظهر هذا العمل إلى النور، و ربما لم أظهر أنا كمخرج، و لم أصبح في ما أنا عليه الآن.
كان التزام جورج و احترامه لتعليماتى كمخرج – برغم أنها تجربتى الأولى – دافعا للجميع كى يتصرفوا مثله، فهو اكبر النجوم اسما، وهو أيضا المنتج، و لم يكن يناقشنى فيما أصدر من تعليمات بل ينفذها بدقة وباقتناع، ولولا هذا لطغت رغبات النجوم على العمل كما يحدث غالبا فى التجارب الأولى للمخرجين.
كانت بيننا صداقة طويلة، حتى أصبحنا لا نفترق، من خلالها توالت اكتشافاتى لجورج: إنه الشخص المتدين إلى أبعد الحدود، ولكن بلا تعصب، فلم يكن يقبل أى استخفاف بالدين سواء المسيحى أو الإسلامي، و كثيرا ما صام رمضان، و كانت له عادة سنوية بان يذبح الأضاحي لتوزيعها على الفقراء فى الأعياد والمواسم المسيحية، وأيضا الإسلامية، وكان كل هذا يتم فى صمت وسرية دون أن يظهر، فهو يفعل هذا تقربا لربه و ليس رياء للناس، و كان دائم الزيارة للأماكن المقدسة، وكثيرا ما حضرنا سويا مولد مار جرجس و مولد السيدة، وكثيرا ما زرنا أديرة بعيدة وجوامع نائية.
أيضا كان جورج بارا بأهله إلى أبعد الحدود ، لا ينقطع عن زيارة والدته – رحمها الله – و لا يرفض لها طلبا و لا يعصى لها أمرا، وحول جورج كان لابد أن ترى اخوته و أقاربه دائما، والحقيقة انه لم يكن بارا بأهله فقط، بل كان بارا بأهلنا نحن أيضا أصدقائه، يعرف جميع أفراد الأسرة وفى زيارة واحدة يصبح فردا منها، و كان يمتاز بأنه الابن المفضل لكل أمهات أصدقائه، فهو صديق كل الأمهات يسأل عليهن ويطمئن على الصحة والأحوال ، ويعاقب الابن المتمرد ويردع المتطاول، و يحل المشاكل ويشيع الحب والبهجة بين الجميع.
و سوف تصاب بالدهشة لو جلست فى حجرته بالمسرح فتجد أم صديقه (فلان) ترسل له طبق بصارة لأنها تعلم أنه يحبها من يدها، وأم صديقه (علان) ترسل له نوعا معينا من السمك المقلى بطريقة خاصة لأنه يعشقه، وأم ( ترتان ) تدعوه ليأكل ممبار وكرشه من صنع يديها، أما هو فكانت زياراته لا تنقطع و مجاملاته فى الأعياد و المناسبات لا تنتهى.
و كان هو طباخ ماهر يجيد الكثير من الأكلات، وله أسماء غريبة يسميها لأكلاته المشهورة، فهذه سلطة “ودع أهلك ” لأنها مليئة بكل أنواع الشطة التى يعشقها جورج ويتفنن فى إحضارها من جميع أنحاء العالم، وعموما فلا بد أن تودع أهلك وأن تكتب وصيتك قبل أن تأكل من طبيخ جورج، فلقد اشتهرت أكلاته بأنها لا تستطيع التوقف عن تناولها لحلاوتها وجودة صنعها، ولن تستطيع التنفس بعدها من كميات البهارات والتوابل والشطة، ببساطة: إنه لا يطبخ ولكن يصنع “ديناميت”، كما كان يقول، حتى أنه فى فترة ما افتتح مطعما يمارس فيه هوايته.
ونادرا ما كان جورج يأكل وحده، دائما هناك مدعوون – ودائما هناك غير مدعوين أتوا فجأة – فبيت جورج الذى كان فى ميدان التحرير – يشبه الميدان من عدة وجوه ، فهذا البيت يعتبر بيت الأمة الفنية، وهو موئل الزائرين ومحط رحال الجميع، ليس على الطعام فقط، فسهرات جورج مدعو لها الجميع، سواء وجهت لهم الدعوة فعليا أم لا، وكثيرا ما كان البعض يصطحب معه أصدقائه الذين لا يعرفهم جورج للسهر عنده، حتى أننا فى أحد أعياد رأس السنة خشينا على العمارة من الانهيار بسبب العدد المهول من الموجودين، و كان من الممكن أن تقابل صديقا لك فتقول له: رايح فين؟ فيرد ببساطة رايح عند جورج فتترك كل شئ وراءك وترد فى بساطة أكبر : أنا جاى معاك !!!
ولم يكن كرمه يتوقف عند حدود منزله فقط فغالبا ما كان يجمع أفراد فرقته – الذين كان يعاملهم كأخوته و أولاده – لينطلق بهم بعد العرض للسهر حتى “وش الصبح” و تصبح منضدة جورج مباحة للجميع، حتى إنني أظن – وبعض الظن إثم – أن هناك من كان يستغل هذا الكرم و يسأل: أين يسهر جورج؟ ليحل ضيفا عليه!!، أما هو فيرحب بالجميع ولا يشعر بأى غضاضة فى استضافة الجميع، ونادرا ما رأيته معزوما بل دائما هو صاحب العزومة.
وفى نفس الوقت إذا كنت صديقه أو تعمل معه فإياك أن تخطئ فهو لا يقبل الخطأ فى العمل أو التهاون أو الاستهتار ولا يقبل فى الصداقة النميمة، أوعدم اتخاذ أعذار للناس أو التطاول أو الخروج عن قواعد الذوق و الأخلاق.
إنه أكثر الناس التزاما فى عمله، وهو شخص منضبط فى مواعيده ولا يثير المشاكل بلا داعى – كما يفعل البعض – من منطلق حب الظهور، كما أنه لا يحب الخروج عن النص ولا يسمح بمسخ عمل المخرج، فهو ملتزم بتعليماته إلى ليلة العرض الأخيرة، وبرغم سرعة بديهته الخرافية وحسن تصرفه على المسرح فى المواقف المفاجأة وبحس كوميدى طبيعى غير مفتعل، إلا أنه كان يكره الخروج عن الشخصية التى يؤديها، وأعتقد أن شدة التزامه أضرته فى بعض الأوقات، فهو لا يسعى الى الإضحاك – كغيره من أهل الكوميديا – بل كان كل همه و شغله الشاغل أن يكون الموقف مضحكا، سواء كانت بطولة المشهد له أو لغيره، وأن تستمر فرقة الثلاثى حتى ولو أدى الأمر لتنازلات من جانبه، والحقيقة أن كثيرا من “إفيهات ” جورج صارت مشهورة يستعملها غيره و ينسبها لنفسه !!!
وآه لو سافرت مع جورج إلى الخارج، لن تستمتع أكثر من تلك المرة، فجورج كان يحب الحياة إلى أبعد الحدود، إنه عاشق للحياة وعاشق للسهر وسوف تستمتع بهذه الرحلة متعة لا تنتهى، فلم يكن يقبل فى السفر أن يقيم فى مكان وفرقته فى مكان آخر، فالكل عنده سواسية كبشر، أما النجومية و أمراضها فلم تصبه و الحمد لله، إلى جانب أنك ستضمن فى هذه الرحلة ألا تخدع فى المشتروات: انه خبير فى الذهب والفضة ومشغولاتها و صاحب ذوق رائع فى الملابس، ويعرف كيف يفرق بين الأصلى و التقليد فى الماركات العالمية – و كنا أيامها نسمع عليها ولا نراها فى مصر- كما أنك معه سترى البلد الذى أنت فيه بكل ما فيها، لكثرة ما سافر ولحبه فى التجوال ومشاهدة كل ما هو جديد، كما انه لا يعدم الأصدقاء فى معظم بلدان العالم، و نوادر جورج فى السفر يفرد لها مجلدات، ولكن السمة الأساسية إن السفر مع جورج ممتع وجميل وسوف تشعر بأن هناك من يهتم بك ويرعاك ويسأل عنك ويحل لك مشاكلك، سواء كنت نجما أو فى بداية حياتك.
و لم يكن “جورج” يتخلى عن إنسانيته إطلاقا، مما جعل أحبائه كثيرون، حتى أنه فى إحدى السفريات لم تنجح الحفلات الأربعة التى كانت متفق عليها مع المتعهد – لكثرة حوادث النصب من آخرين – فتنازل عن أجر حفل بالكامل ولم يتقاضاها من المتعهد، ومع ذلك صرف أجر جميع العاملين معه بالكامل عن الحفلات الأربعة متحملا الفرق، وقال: المتعهد مالوش ذنب والناس مالهاش ذنب، ولمن يعلمون الوسط الفنى لابد أنهم يعلمون أيضا، إن هذا من رابع المستحيلات، فكثيرا ما يتخذ المنتج أي سبب غير حقيقى لنقض اتفاقه مع العاملين معه طمعا فى ربح أكبر أو ذبح المتعهد حتى لو خسر!!
لقد تعلمت من جورج سيدهم الكثير فى الفن و فى الحياة، و قديما قالوا أن المستحيلات ثلاثة: “الغول و العنقاء و الخل الوفى”، ولكن جورج كان يثبت أن “الخل الوفى” ليس مستحيلا.
وداعا للطفل الذى تخفى وراء “ماكياج” رجل كبير السن، وعاش للناس ومات وحيدا.