بقلم الدكتور: طارق عرابي
ما هو الشيء الذي يجلب للممثل ثقة واحترام الجمهور؟، سؤالي واضح تماماً أنه عن الثقة والاحترام، وليس عن حب الجمهور أو إعجابه بالممثل، فالحب والإعجاب قد يساهم في جلب أيٍ منهما “الشكل” متمثلاً في وسامة الممثل أو جمال الممثلة، أو خفة الظل لدى الممثل أوالممثلة، سواء كان ذلك من خلال بعض أدوارهم بالأعمال الفنية أو من خلال حواراتهم في بعض اللقاءات المقروءة أو المسموعة أو المرئية.
أما ما يجلب للممثل ثقة واحترام الجمهور لا يمكن أن يختصر في سبب أو عامل واحد، فالموهبة الحقيقية والمخزون المعرفي لدى الممثل لهما نصيب، وحسن اختيار الممثل لأدواره ولنوعية العمل الجيد الذي يشارك فيه لهما نصيب أكبر، واهتمام الممثل بالتفاصيل الدقيقة للشخصية التي يؤديها، إلى جانب حرصه على تحقيق التنوع في أدواره ونوعية الأعمال التي يقدمها الممثل ، ذلك أيضاً له نصيب كبير في كسبه لثقة واحترام الجمهور.
ثم أضف إلى ذلك العناصر الأساسية في العمل السينمائي والمتمثلة في وعي وثقافة ورؤية وتكنيك المخرج في تحويل الكلمة إلى صورة تحقق رسالة الدراما المستهدفة من العمل الفني ، وكذلك مهارة وكفاءة مديري الإنتاج والتصوير والمكياج والملابس وحرفية المونتير وإبداع الموسيقى التصويرية ومدى تعبيرها عن الحالات الدرامية داخل العمل، وكلها تشكل أدوات ضرورية تسهل مهمة الممثل في كسب ثقة واحترام الجمهور له ولإسمه الفني، لدرجة تصل إلى أنه بمجرد ظهور اسم هذا الفنان في عمل ما دونما معرفة تفاصيل العمل فإن أعداداً كبيرة من الجماهير تكون لديها الرغبة لمشاهدة هذا العمل، وذلك ثقةً منهم في أن هذا الممثل لن يخذلهم لأنه ببساطة لم يخذلهم يوماً في نوعية أيٍ من الأعمال التي قدمها لهم من قبل أو بأيٍ من أدواره التي لعبها بتلك الأعمال.
روبرت دي نيرو هو واحدٌ من هؤلاء الممثلين العظماء الذين يستمتع المشاهد بآدائهم وأفلامهم وينتظر أيضاً أعمالهم الجديدة بشغف كبير، لأنه دائماً (دي نيرو) ينتقي أعماله حرصاً منه على ألا يقدم إلا كل ما هو على قدر الثقة والاحترامِ اللذين نالهما من الجمهور المحلي والعالمي على مدى سنوات عديدة.
روبرت دي نيرو .. الخلفية والموهبة:
وُلد روبرت دي نيرو، في أغسطس عام 1943 بمدينة نيويورك، والدته “فيرجينيا” رسامة موهوبة، ووالده رساماً ونحاتاً وشاعراً، وقد عُرف الثنائي (والد ووالدة دي نيرو) باسم “الثنائي الذهبي” في مجال الفنون بمدينة نيويورك ، ولكنهما انفصلا عام 1945، أي عندما كان الطفل دي نيرو يبلغ من العمر عامين فقط، وبينما تابع والده طريقه في مجال الرسم والنحت، تفانت الأم “فرجينيا” وأنكرت ذاتها وموهبتها من أجل دعم إبنها الصغير “دي نيرو”، ولهذا الغرض قبلت أن تعمل ككاتبة على طابعة بإحدى الشركات.
جاءت أول تجربة أداء تمثيلي للطفل دي نيرو عام 1953 وهو في سن العاشرة عندما قام بدور “الأسد الجبان” في مسرحية مدرسية بعنوان “ساحر أوز” The Wizard of Oz، والتي قد تم إنتاجها من قبل كفيلم سينمائي بهوليوود عام 1939 وقامت ببطولته النجمة الشابة آنذاك جودي جارلاند، وقد كانت تلك المسرحية نافذة دي نيرو الأولى للتخلص من الرهبة والخجل واكتساب الثقة بالنفس للوقوف والآداء أمام جمهور.
في عام 1960 ، ترك دي نيرو المدرسة الثانوية كي يتعلم فن التمثيل ، والتحق بكونسرفتوار “ستيلا أدلر” الذي أعيدت تسميته لاحقًا بـ “ستوديو ستيلا أدلر للتمثيل”.
“ستيلا أدلر” من مواليد 1901، وهى ممثلة مسرح شهيرة ولكنها فشلت في السينما ولم تعمل بها إلا في 3 أفلام فقط .. وكانت تقوم بعمل ورش للتمثيل على نهج مدرسة ستانيسلافسكي في الأداء التمثيلي، ومن بين الذين تعلموا فن التمثيل على يديها نجم سلسلة أفلام الأب الروحي The Godfather “مارلون براندو” Marlon Brando .. وقد توفيت ستيلا أدلر في نهاية عام 1992 عن عمر 91 سنة.
بموافقة والدته ، أخذ دي نيرو، الأموال التي وفرتها له من أجل تعليمه الجامعي لينفقها على تطوير موهبته في التمثيل، فالتحق بورشة التمثيل التابعة للممثل “لي ستراسبرج” Lee Strasberg في استوديو الممثل بمدينة نيويورك، “لي ستراسبرج” هو ممثل أمريكي من أصل بولندي وقد ترشح لجائزة الأوسكار عن دور رجل المافيا “هايمن روث” في الجزء الثاني من سلسلة “الأب الروحي”، وهو نفس الجزء الذي مثل فيه روبرت دي نيرو شخصية “فيتو كورليوني” Vito Corleone وفاز عن هذا الدور بأول جائزة أوسكار له كأفضل ممثل في دور مساعد، أي أن التلميذ فاز بالجائزة التي تنافس معه عليها أستاذه الذي علمه التمثيل، ورغم أنها أول وأرقى جائزة في بدايات دي نيرو، إلا أنه لم يحضر حفل الأوسكار عام 1975 وقد تسلم الجائزة نيابة عنه مخرج سلسلة الأب الروحي البارع “فرانسيس فورد كوبولا” Francis Ford Coppola.
دي نيرو في مقدمة أعظم 100 ممثل في التاريخ:
في عديد من التقييمات الفنية المبنية على قوة الموهبة والمهارات العالية في الأداء التمثيلي وعدد الترشيحات والجوائز العالمية والأفلام كماً ونوعاً ومدى أثر الممثل على الجمهور، يأتي دائماً روبرت دي نيرو في مقدمة قائمة أعظم 100 ممثل في تاريخ السينما على مر العصور، وقد احتل المركز الثالث بعد جاك نيكلسون ومارلون براندو في آخر قائمة تقييم لأعظم 100 ممثل في التاريخ.
في عام 1976، بعد بزوغ نجمه الصاعد عام 1974 في الجزء الثاني من سلسلة أفلام “الأب الروحي”، عزز وأكد روبرت دي نيرو نجوميته العالمية من خلال فيلم Taxi Driver الذي لعب فيه دور سائق التاكسي “ترافيس بيكل” الغير مستقر عقلياً ، والذي يؤدي الانحطاط والفساد المحيطان به إلى تنشيط وتشجيع رغبته في استعمال العنف، ويقوم بمحاولة تحرير عاهرة قاصرة كانت تعمل في الحملة الانتخابية الرئاسية وتدعى “آيرس”، وقد كان هذا الدور هو الانطلاقة الحقيقية لنجومية الفتاة الصغيرة جودي فوستر Jodie Foster التي كان عمرها 14 سنة آنذاك، وهو الدور الذي ترشحت عنه لجائزة أوسكار كأفضل ممثلة في دور مساعد، وقد ترشح دي نيرو عن نفس الفيلم لجائزة الأوسكار كأفضل ممثل في دور رئيسي.
كان فيلم Taxi Driver هو ثاني تعاون بين أسطورة الإخراج السينمائي “مارتن سكورسيزي”Martin Scorsese والنجم الصاعد “روبرت دي نيرو”، حيث سبق وأن قدمه بطلاً من قبل في فيلم Mean Streets عام 1973، ثم قدمه عام 1980 بطلاً لفيلم Raging Bull الذي نال عنه دي نيرو جائزة الأوسكار كأفضل ممثل في دور رئيسي.
وتتوالى نجاحات روبرت دي نيرو، عبر السنين من خلال ما يقرب من 120 عمل سينمائي، وبعدما اشتهر روبرت دي نيرو بأدواره الشريرة في عديد من الأفلام التي تتناول حياة وإجرام رجال المافيا، يصدمنا دي نيرو بأداء رومانسي أكثر من رائع مع النجمة “جين فوندا” Jane Fonda عام 1990 في الفيلم الرومانسي “ستانلي و آيرس” Stanley & Iris، ثم يصدمنا مرة أخرى بنوعٍ خاص من القدرات الكوميدية غير العادية من خلال فيلم Analyze This عام 1999 مع النجم الكوميدي بيللي كريستال، ثم الجزء الثاني منه Analyze That في نفس السنة (2002) التي قدم فيها دوراً كوميدياً رائعاً آخر وهو المخبر “ميتش بريستون” مع النجم الكوميدي الأسمر إدي ميرفي في فيلم Showtime.
ثم تتوالى سلسلة أفلام العمل الكوميدي الذي شاركه في أجزائه المتسلسلة كل من النجوم بين ستيلر وداستن هوفمان وباربرا سترايسند ، وهي سلسلة الأفلام التي بدأت بفيلم Meet The Parents عام 2000 والتي لعب فيها دور “جاك بيرنز” أبو العروسة (المتقاعد) الذي يضع العريس المتقدم لابنته تحت الفحص والاختبار باستعمال خبرة حياته المهنية في جهاز المخابرات المركزية CIA.
“المُتدرب” يكشف عن وجه جديد لروبرت دي نيرو:
رغم عظمة الأداء وتنوع الأدوار والأعمال التي قام بها روبرت دي نيرو، على مدى أكثر من 50 عاما ، إلا أنني أعتبر دور “بن” Ben في فيلم “المُتدرب” The Intern عام 2015 مع النجمة آن هيثواي Anne Hathaway هو واحدٌ من أعظم الأعمال التي قدمها دي نيرو على مدى مشواره الفني الناجح، فهو الفيلم الذي كشف عن وجه جديد لروبرت دي نيرو، وعندما أقول “وجه جديد” هنا، فإن ذلك لا يقتصر فقط على عبقرية أدائه لشخصية جديدة لم يقم بأدائها من قبل، بل يشمل أيضاً عبقرية الاختيار للدور والعمل وأهدافه، وكذلك كيفية استخدام الخبرة المهنية المتراكمة مع المخزون المعرفي والوعي الكبيرين لصياغة ملامح وتعبيرات وسلوكيات وحركات هذه الشخصية “بن” في أفضل صورة تعبر عن عجوز متقاعد يعيش وحيداً بعدما رحلت رفيقة العمر بعد 42 عام من الشراكة الزوجية.
هذا العجوز الذي لم يتحمل وحدته فتقدم لوظيفة “متدرب” بإحدى أنجح الشركات في عالم التجارة الإلكترونية على شبكة الإنترنت، وهو العالم البعيد عن جيله وفكره وعصره وطبعه الورقي والروتيني، ويا لروعة التحول بالأداء التمثيلي الفريد لروبرت دي نيرو من موقف “بن” المتدرب “الدقة القديمة” المنبوذ وغير المرغوب فيه من رئيسته في العمل الجديد (النجمة آن هيثواي) إلى موقف الأستاذ والخبير الذي تتعلم منه، بل وتلجأ إليه في كل أزماتها سواء المهنية منها أو سواء كانت أزمات تتعلق بحياتها العاطفية والعائلية الخاصة جداً.
“المتدرب” كتبته وأخرجته للسينما “نانسي مايرز” Nancy Meyers التي ترشحت لجائزة الأوسكار عام 1981 كأحسن سيناريو عن فيلم Private Benjamin
روبرت دي نيرو ترشح للأوسكار 8 مرات حصل على جائزتين منهم، أوسكار 1975 أفضل ممثل في دور مساعد عن الجزء الثاني من فيلم The Godfather ، وأوسكار 1981 أفضل ممثل في دور رئيسي عن فيلم “الثور الهائج” Raging Bull من إخراج “مارتن سكورسيزي” وهو فيلم مأخوذ عن القصة الحقيقية لبطل الملاكمة الأمريكي “جيك لاموتا” Jake LaMotta، والذي شاركه بطولته النجمة “كاثي موريارتي” Cathy Moriarty والنجم “جو بيتشي” Joe Pesci، وقد ترشحا كلاهما لجائزة الأوسكار عن دورهما في نفس الفيلم كأفضل ممثلة وكأفضل ممثل في دور مساعد.
لا يعرف الكثيرون أن روبرت دي نيرو قد أخرج فيلمين للسينما من بينهما الفيلم الشهير “الراعي الصالح” The Good Shepherd عام 2006، والذي شارك دي نيرو بطولته مع النجم “مات ديمون” Matt Damon والنجمة “أنجلينا جولي” Angelina Jolie والنجم ويليام هيرت William Hurt .