حكايتى مع ديزنى (6) .. عصر الديجيتال
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
ذهب شريط الاختبار إلى ديزنى ومكث طويلا دون أن يأتى رد، و بعد أن كنت أنتوى الاعتذار أصبحت أسأل يوميا: هل وصل شيئ جديد من ديزنى؟ فلم اتعود أن أفشل فى أى عمل يوكل إلى، ومع مرور الوقت أصابنى اليأس، تخيلت أنهم تراجعوا عن الدوبلاج باللغة العربية، أو لم ترق لهم نتائج الاختبارات التى أرسلناها، أو ربما انتقل المشروع إلى بيروت كما كان سمير حبيب يقول.
أخيرا اتصل بى سمير ليهنأنى بوصول الرد، لقد وافقوا على جميع ترشيحاتى التى أرسلتها فى التقرير المصاحب للاختبار: الفنان القدير عبد الرحمن أبو زهرة فى دور “سكار”، الدكتور سامى صلاح أستاذ التمثيل والاخراج بالمعهد العالى للفنون المسرحية فى دور بومبا، المغنى المعروف هشام نور فى دور سيمبا (الشاب)، الفنانة الكبيرة صفاء الطوخى فى دور سرابى (والدة سيمبا)، الفنان مؤمن البرديسى فى دور رافيكى ، أما الضباع فكانوا من نصيب الدكتور سامى عبد الحليم، الأستاذ بمعهد الفنون المسرحية والفنانة الكبيرة سلوى محمد على، وفى دور زازو الفنان الكبير عادل خلف وهو الوحيد من محترفى الدوبلاج الذى اتبع تعليماتى بكل دقة.
ورفض مسئولى الدوبلاج بشركة ديزنى جميع من تم إرسال أصواتهم فى دور موفاسا (الملك الأب) لكبر سنهم (عرفوا ازاى؟)، فقد كنت اتخيل موفاسا أبا كبيرا فى السن ولكنهم طالبوا بصوت شاب، يمتلئ بالقوة وأيضا بالحنان، كما رفضوا كل من أرسلناهم فى دور تيمون، و لم نكن قد عثرنا على من تصلح لدور نالا.
والحقيقة أن التقرير الذى أرسلوه أصابنى بالذهول، كانت الملاحظات فى منتهى الدقة وكأن من كتب التعليق على الأصوات كان يقف معنا فى الاستوديو، كل هذا برغم عدم فهمهم للغة العربية.
وقرر سمير أن نبدأ العمل فى تسجيل الدوبلاج، وأثناء ذلك نبحث عن ممثل لدور تيمون، وممثل آخر لدور موفاسا، و عندما قمت بزيارة الاستوديو قبل بداية التسجيل فوجئت بكمية من التغييرات الجذرية، فبرغم أن استوديو (اكو ساوند) الذى يملكه سمير حبيب، كان من أوائل استوديوهات الموسيقى الخاصة فى مصر، وبه قاعتين للتسجيلات، الكبرى فيهما تحتل مساحة ضخمة تسمح لاوركسترا كامل (حوالى 40 عازف) بالتواجد معا، والمعدات المتوفرة في الاستوديو كانت بأحدث الأجهزة فى ذلك الوقت، استغنى سمير عن كل هذه المساحة ومضى يبنى غرفة خشبية صغيرة لا تزيد عن متر فى متر داخل الاستوديو، ويقوم بعزلها بطريقة غريبة: فتحت هذه الغرفة وضع (كاوتش عربيات) وفرش جدران الغرفة بالسجاد أو لو شئنا الدقة فرشها بأكلمة (جمع كليم و هى سجاجيد تصنع من بواقى الاقمشة) ثم يستغنى عن أحدث وسيلة فى تسجيل الموسيقى يتميز بها الاستوديو (24 تراك) ويحضر ماكينة تسجيل مختلفة (8 تراك)، يحتل أحد التراكات فيها الفيلم نفسه وباقى التراكات لتسجيل الأصوات، إلى جانب عدة أجهزة تليفزيونية لاستخدامها كشاشات، و عندما سألته عن هذه التغييرات قال إنها مؤقتة !، فلقد أرسل فى شراء جهاز تسجيل كالذى تستخدمه ديزنى فى استديوهاتها يزيد ثمنه عن نصف مليون جنيه !
قلت له: “وما أدراك أنك ستستمر فى موضوع الدوبلاج؟، هل أنت واثق من نجاحنا لهذه الدرجة حتى تضع مثل هذا المبلغ فى جهاز و تدمر الاستوديو؟”
قال فى هدوء: “أنا اول واحد عمل استوديو تسجيل 24 تراك فى مصر، لكن الاستوديوهات خلاص هتخلص، قريبا كل واحد هيقدر يسجل الموسيقى فى بيته و يمنتج ويمكسج على الكومبيوتر (الذى كان فى بداية انتشاره فى مصر) من غير ما يحتاج عازفين ولا استوديو، وفيه برامج طالعة هتخلى الملحن الضعيف بيتهوفن العصر وتخلى الأعمى ساعاتى، أنا شخصيا دلوقت بابيع البرامج دى زى ماكنت زمان بابيع معدات الاستوديوهات، خلاص .. احنا داخلين عصر جديد اسمه عصر الديجيتال، و لازم استثمر فى حاجة جديدة، والجديد هو الدوبلاج”.
كان هذا الحديث فى وقتها بمثابة النبوءة التى تحققت بعدها بسنوات قليلة.
استلمت النسخة المترجمة من حوار الفيلم فوجدت أن سمير قد طبعها بطريقة ساعدتنى كثيرا أثناء العمل، فتحت كل سطر من الحوار باللغة العربية نفس السطر باللغة الإنجليزية حتى إذا اضطررت لتعديل الحوار لأى سبب كان الأصل مرشدى، ثم طبع أسطر كل دور على حدة حتى لا يضطر الممثل إلى حمل نسخة كاملة، وكان ذلك فى منتهى الدقة، هكذا سمير دائما: كل شيئ مرتب ومنظم بلا تعقيدات أو صراخ.
وقبل البدء جاءت تعليمات التسجيل من ديزنى: أن يقوم كل ممثل بتسجيل دوره منفردا، ووجدت أن هذا يضيف صعوبة وتحدى للممثل، فعدم وجود الشريك فى المشهد يجعل الأداء باردا، ولكن الأسهل هو طريقة (هات و خد) بين الشخصيات، و لم يكن أمامنا إلا قبول شروط الشركة واعتبرت هذا تحديا جديدا.
ولم يكن هذا هو التحدى الوحيد، فلقد أصرت الشركة على ألا يقوم أى ممثل بالعمل أكثر من ثلاث ساعات يوميا حتى لا يبدو صوته مجهدا، و كان ذلك أمرا طيبا، ولكن التحدى كان فى أنها قررت أن يقف الممثل على مسافة محددة من الميكروفون، وعليه فى اليوم التالى أن يقف على نفس المسافة، وأن يتأكد مهندس التسجيل من مطابقة الصوت فى جميع أيام عمل الممثل الواحد، وأنه لا فروق بين الأيام المختلفة للتسجيل فى المسافة بين الممثل والميكروفون، وإلا فإن تغيير المسافة هذه يستتبعه تغيير فى طبيعة الصوت ، وألا يوضع على الصوت أى مؤثر (إيفكت أو فلتر)، بل صوتا طبيعيا فقط.
كانت كل هذه التحديات تعتبر تحديات تقنية ولست مسئولا عنها بشكل مباشر وإنما تقع مسئوليتها أولا على مهندس التسجيل، ولكنى لم أكن أقبل أن ينهار مجهودى لو أخطأ المهندس فى المسافة بين الممثل والميكروفون فى أى يوم.
وزادت التحديات بأن طالبت ديزنى بأن نسجل دور كل ممثل على تراك منفصل، بحيث لا يتداخل حواره مع أى حوار آخر، فكيف نفعل ذلك وليس لدينا سوى 7 تراك فقط والشخصيات تفوق هذا العدد بكثير؟