بقلم : محمد حبوشة
لا يذكر الطرب العربي من محيطه إلى خليجه، إلا وتليه قائمة أسماء كبيرة لا تنتهي، كثيرا ما تمايل على صوتها العرب جيلاً بعد جيل، وعلى رأس هؤلاء جميعا بالطبع “أم كلثوم وسيد درويش وناظم الغزالي وصباح فخري وفيروز وعبد الحليم” وغيرهم ، والملاحظ أنه لكل حقبة زمنية نجومها المرموقين، ولقد بدأ الغناء تنغيماً بسيطاً للأشعار، وقرعت معه الطبول والدفوف، وعرف غناء “التغبير”، وفيه استذكروا أمجاد الماضي وأحداث الزمن الغابر، ويذكر ابن رشيق في كتاب “العمدة” نوعاً آخر من الغناء يسمى “الهزج”، وهو لحن بسيط يستخدم فيه الطبل والمزمار، وقد يرافقه الرقص، إضافة إلى التهليلات الدينية أثناء الطواف والرقص حول الكعبة، وأثناء تقديم الأضاحي للآلهة، إلى أن وصل الغناء إلى اللون الطربي الرصين.
ثم تطور شكل الغناء حاليا وأصبح لون الأغنية الشبابية سائدا، في ظل التكنولوجيا الحديثة، وتغير مفهوم الغناء التعبيري على مستوى الكلمات واللحن والتوزيع في إطار التسلسل التقليدي الذي اعتدنا عليه لإبداع أي عمل غنائي، لكن الملاحظ أن بعض الأغاني الحالية قلبت هذا التسلسل المنطقي رأساً علي عقب، فأصبح العمل الغنائي يبدأ باختيار الموزع لشكل وإيقاع موسيقي غربي رائج وقت إنتاج الأغنية، ليقوم بتطويعه ليلائم طبيعة المستمع العربي، تاركا مساحات ومواقع محددة للملحن ليضع في إطارها جمله اللحنية، وبعد ذلك يتسلم المؤلف نتاج عمل الاثنين ليضع كلمات تلائم اللحن والايقاع الموضوعين سلفاً.
ومن هنا فقد عزف ضيفنا في “بروفايل” هذا الأسبوع المنتج “نصر محروس” في المساهمة في لعبة التحول تلك، وهو الذي صنع نجومية كثير من المطربين المصريين الذي اشتهروا على جناح الأغنية الشبابية، وربما يكون مع “محروس” كل الحق في تحفظه على شكل الغناء الحالي، وهو الذي يمكن أن نطلق عليه الجندي المشهور، وذلك لأنه كان مسئولا عن تطوير مجموعة كبيرة من الأذواق الموسيقية والأصوات أيضا، ومن هنا لابد لي أثمن بداياته الرائعة، حيث كان منتج موسيقي غير عادي يعيش في الموسيقى ينام ويصحو فيها مستغرقا بكل تفاصيلها.
وربما كان السبب المباشر لذلك أنه كان يساعد والده، لذا لم يكن ممولا فحسب للموسيقى والغناء، ولكن كان يعمل على كل تفصيلة على مستوى اختيار “المطرب الكلمات والألحان والتوزيع والتسجيل والتصوير والمونتاج حتى مراحل ظهور الكليب وإعلاناته وبانراته في الشوارع، هو باختصار شديد Star Maker ، وهو ما خلق له نظرة ورؤية ، لكن يبقى المفتاح السحري الذي تعلمه من والده “الحب” الذي عمل به محروس عبد المسيح مع “محرم فؤاد ، محمد قنديل ، محمد رشدي، كارم محمود”، وغيرهم من أساطين الغناء.
بنظرة سريعة إلى مسيرة “نصر محروس”، سنلاحظ أنه بدأ العمل في عالم الغناء والموسيقى في سن مبكر جدا،عندما كان يساعد والده “محروس عبد المسيح”، والذي كان في الستينيات والسبعينيات من كبار صناع الموسيقى في القاهرة وفي القرى المجاورة لها، وكان ينتج أعمالاً لكبار الفنانين مثل “محمد رشدي، كارم محمود، محرم فؤاد ومحمد قنديل” وأيضا عمل مع فنانات مثل “نادية مصطفى وصابرين“، وغيرهم، ولقد رأى “نصر” الابن وهو في سن العاشرة، كيف يتعامل “محروس” الأب مع هؤلاء النجوم، ولقد كان له الحظ في أن يري الفرقة الماسية لأحمد فؤاد حسن وهم يسجلون “في يوم وليلة”، حيث احتك منذ نعومة أظفاره بمختلف الآلات، وعرف طريق الاستديوهات، غير أن كل ابن يرى أبوه مثله الأعلى، وهو ما أدخل في نفسه حب كبير للموسيقى.
في مرحلة الإعدادي والثانوي كان مندوبا لبيع الكاسيت لصالح شركة والده في قرى مصر من شرق البلاد لغربها ومن شمالها لجنوبها، وهو ما سمح له بسماع ألوان موسيقية تختلف في صباعها وشكلها ما بين بحري وقبلي، من خلال تجواله في الصعيد والإسكندرية والشرقية الاسماعيلية، فضلا عن عشقه منذ البداية للموسيقى الخليجية واللبنانية وغيرها، ما جعله يتخذ شعارا لنفسه وضعه صوب عينينيه دائما، وهو “موسيقى بلا حدود”، حيث يشعر أن الموسيقى ليس لها وطن، وفي مرحلة مبكرة حفظ أغاني أم كلثوم ، عبد الوهاب ، عبد الحليم، وفيروز، في وقت لم يكن هنالك وجود للسوشيال ميديا، لكن كان هناك احترام للمشاعر وكل شيئ حتى الوقت كان له ثمن غالي.
ومع اختلاف الأزمنة التي مرت على الأغنية يرى “نصر محروس” أن هناك رتم معين لكل مرحلة من حياتنا، حتى يمكننا القول بأن “الأغنية تمثل الحياة تماما كما يمثل فيلم السينما الحياة”، وقد بدأ “نصر” حياته الانتاجية عام 1989، مع محمد منير حيث عمل معه مايسمى بإعادة تصنيع للنجم المعروف آنذاك بلونه الخاص، لكنه انتهج أسلوبا جديد معه في أغنية “ليه يا دنيا الواحد”، التي كانت غريبة على الناس و”سو يا سو”، و “في عشق البنات”، و”باعشق البحر”، و”أول لمسة”، كما نجح بأسلوب إعادة التصنيع هذا مع محمد فؤاد حيث أحدث نجاحا مدويا بـ “بودعك” ثم غير أسلوبه في قالب رومانسي جديد مع “حيران، وكمننا، والحب الحقيقي”.
وفي سلسلة نجاحة بتوليفة مختلفة كملحن ومؤلف ومخرج استطاع أن يصنع نوعا مختلفا من النجاح مع خالد عجاج في “وحشتيني، تعلالي، وحداني، أصعب حب، ولكنه ترك شركته “فري ميوزك” هو ومحمد فؤاد، فتسبب له في نوع من الوجع، لكن يبدو أن نصر محروس يعشق التحدي ويجيد العزف على أوتار متناقضة، حين يقع عليه نوع من الضغط، وفي ظل الظروف الصعبة التي مر بها على أثر ترك “عجاج وفؤاد” لشركته ذهب إلى ضفة أخرى من الأبداع الذي لا يغادره أبدا، فأنتج ألبوم “كوتوموتو” للأطفال، وضمنه أغاني لثلاثي أضواء المسرح “جورج وسمير والضيف أحمد”، وذلك بتوزيع جديد ما جعله ينتشر في كل البيوت المصرية، حتى أنه قام بغناء أغنية صعيدية في هذا الألبوم بصوت محشرج وأجش لكنها نجحت جدا.
بعد تلك المرحلة من الإبحار عكس التيار، وتحديدا في بداية عام 2002 فجر نصر محروس قنبلة أشهر صوتين على الساحة الفنية، وهما “شيرين عبد الوهاب وتامر حسني“، والذين لا يزالا يتربعان على عرش النجومية في الوطن العربي حاليا، كان ذلك من خلال ألبوم “فري ميكس 3″، وأغنيتين من أروع ما يكون “آه يا ليل، وحبيبي وإنت بعيد”، وأشهر دويتو لهما “لو كنت نسيت”، وقد أصدر لشرين ألبومين نجحا نجاحاً منقطع النظيرهما “جرح تاني، ولازم أعيش” كانا كفيليين بوضعها في منافسة مع كبريات الفنانات، أما تامر، فقد أصدر له خمسة من أروع الألبومات التي أوصلت تامر إلى لقب نجم الجيل “حب، عينية بتحبك، الجنة في بيوتنا، بنت الإيه” وأخيراً “قرب كمان”، والذي طًرح في الأسواق مصاحباً لفيلم “كابتن هيما” والذي كان أول تجربة لنصر محروس في الإنتاج والإخراج السينمائي.
وأنتج بعد ذلك ألبوم بهاء سلطان “يالي ماشي”، والذي كان عبارة عن شريط كاسيت ظل 6 شهور تقريبا لم حبيس أدراج الشركات الموزعة، رغم أنه أتي لبهاء بالملحن الكبير حسن أبو السعود، والكلمات من جانب كل من “بهاء الدين محمد، ومجدي النجار”، وهى أسماء كبيرة في عالم الغناء آنذاك، كان طابع هذا الألبوم شعبي من منظور آخر، بحيث يستطيع سماعه من يسكن في حارة أو في قصر، – على حد تعبير نصر محروس نفسه – لكن كان عنده يقين بأن هذا الألبوم سينتشر في كل بيت، وبالفعل قام بتصوير أغنية “ياترى” التي قلبت الموازين في سوق الكاسيت من ناحية والغناء بصفة عامة من ناحية أخرى، وبعدها بفترة ليست بعيدة أعاد نصر محروس “محمد محيي” إلى عالم النجوم من خلال ألبوم “صورة ودمعه، وقادر وتعملها” وقد قام هو بإخراج فيديو كلبين له.
أما “سوما” فقد قدمها نصر محروس ضمن ألبوم “فري ميكس 4” في دويتو مع بهاء سلطان وأغنية “اللي في عيني” وقد لاقت نجاحا منقطع النظير، وأصدر لها في 2006 ألبوم “عيب عليك“، و ضمن ألبوم “فري ميكس 4” قدم مجموعة أصوات ومن أهمهم دنيا سمير غانم من خلال أغنيتين “مش قادرة أصدق عينية” و”خلاص ارتحت”، أما دياب ذو الصوت الرجولي الرائع، فقد كانت له أغنية “غمازات” ومن بعدها “العو” التي كانت سببا مباشرا لسشهرته قبيل أن يتجه للتمثيل حاليا.
حين تأملت مسيرة حياة “نصر محروس” الذي يتمتع بذكاء شديد في صناعة وإنتاج الأغنية، فوجدت أن هنالك دائما خلاف بينه ومن يصنعهم في عالم الغناء: ولفت نظري أنه هو بنفسه من يعترف بهذا الخلاف ويقول أولا: العامل المادي والذي يلعب دور مهم في نشوب هذا الخلاف، حيث يأتي للنجم عروض أقوي وأكبر مني، رغم أن هناك اتفاق بيننا، ونتيجة التمرد في سبيل الحصول على فلوس أكثر ومع ذلك أقول له انصرف دون أي أسف، فأنا بطبعي لا أحب المشاكل، وعندما لاتحس أني أعمل معك بقلبي وبكياني، ولم تشعر بقيمة ما أعطيه لك فنيا، أقول له اذهب ومعك ربنا.
أما النقطة الثانية في هذا الخلاف من وجهة نظر “نصر محروس” فهى: عندما يكون الفنان في مرحلة البداية، ولا يعرفه أحد غير أمه – على حد تعبيره – سرعان ما يتحول مع صعوده أولى درجات سلم الشهرة، فبعد فترة يجد 100 ألف شخص يجري وراءه ويريدون التصوير معه، وهنا تبدأ عملية انتشاره وشهرته وزيادة جماهيريته، عندئذ تحدث الصدمة، والواقع أن هناك من يستوعب تلك الصدمة، وهناك آخر تكبر الصدمة بداخله ويتضخم أكثر فيضطر للابتعاد عن مجالي الخاص وطريقتي في الإنتاج.
أجمل ما لاحظته في “نصر محروس” أنه يفهم جيدا ليس في مجال صناعة الغناء فقط ، بل إنه يملك ذائقة سليمة وعقل جبار يجديد التعبير بتلقائية شديدة والتفريق بين مختلف أنوع الغناء، فهو مثلا يستطيع أن يفرق جيدا من منطلق هذا الفهم بين “الشعبي والبلدي” في الغناء ، فالشعبي – من وجهة نظره – تسمعه كل الفئات داخل المجتمع، سواء من كان يسكن الشانزليزيه أو في أي حارة شعبية بسيطة، أما البلدي فيقترص على فئة بعينها، لذا يفرق جيد بين “سوما” و”شيرين” على سبيل المثال فيقول: إن “سومة” تغني أوبرالي، بينما شيرين فالشعبية طاغية عندها، وفي قضية اتهامه بأنه يكرر تجاربه الغنائية مع النجوم فور مغادرة أي منهم لشركته، قال : لا ألجأ إلى أن يقلد مطرب آخر، لأن هناك دائما فرق بين النسخة الأصلية والنسخة المزيفة هذا ينطبق على الملابس، ما بالك بالفن، دائما ألجأ إلى إعادة التصنيع، وهى مهمة أصعب من التصنيع نفسه، لأن هؤلاء نجوم كبار ويحتاجون إلى شكل مختلف، وهذا يحتاج لمجهود أكبر ومضاعف دائما.. تحية تقدير واحترام لعقل وذائقة وذكاء وتلقائية “نصر محروس” صانع نجوم الأغنية الشبابية بجدارة.