ثقافة ‘الاختباس’
بقلم : كرمة سامي
طب ليه ندور في غير مكان
ده احنا اللي نوّر فينا الأدان
فؤاد حداد
الكلمة صحيحة ليست خطأ مطبعيًا، إنه الاختباس يا سادة، كلمة فرضت عليّ أن أنحتها وأخرجها إلى النور مستمدة من ظاهرتي الاختلاس والاقتباس، بل وأضيف أنها أصبحت ثقافة منتشرة بيننا حيث نشجع على النقل دون الإشارة إلى المصدر ثم نقبل أن يصدر لنا ما يُختلس تحت عنوان الاقتباس وحرية النقل بين الثقافات وكثيرًا ما شاهدت بنفسي تعاطفًا غير مبرر مع المذنب حين يصرخ أحد النقاد: “امسك ‘ح…ي'”!
الاختلاس معجميا هو فرصة الاختطاف السريع للشيء على غفلة من صاحبه، والاقتباس هو استلهام مصدر فني لعمل جديد، ووفقا للسان العرب فإن التَّخالُسُ هو التَّسالُبُ، أما القَبَسُ فهو النَّارُ،أَو شُعلةٌ من نار، ومن هنا فإن المقتبس هو طالب العلم، وتطويرًا للمعنى في لسان العرب فإن المعنى المعجمي المعاصر للاقتباس هو أخذ الفكرة من كتاب أو عمل عن صاحبه وتحويرها وتطويرها، وهو أمر مقبول ويُذكر لكبار الكتاب وعلى رأسهم ويليام شيكسبير الاقتباس عن كتاب سابقين، وربما يكون الاقتباس أفضل من الأصل في أحيان كثيرة.
..
ما المشكلة إذن؟!
..
بدأت الحكاية عندما كنت أمارس هوايتي الخاصة لاستكشاف أعمال فنية وأدبية قديمة وراعني ما اكتشفت من اقتباسات عديدة في صناعات الأدب والسينما والغناء بل والفن التشكيلي التي تتجاوز حدود المتعارف عليه لتتداخل مع حدود الاختلاسات. لَم أر في هذه النماذج ما يشير إلى براءة الفاعل بل إن الفعل متعمد والاستهتار بالمتلقي لا يعني إلا الاستخفاف بذكاء ذلك المتلقي وثقافته في حين أن الإشارة البسيطة، عبر أي لفتة، للمصدر تبتعد بالفنان أو الأديب عن موطن الشبهات احترامًا لتاريخه ولجمهوره ولثقافته.
من بين اكتشافاتي العديدة توقفت عند فيلم لم أكن شاهدته من قبل عنوانه “شيء في حياتي” 1966 ووفقا لبيانات الفيلم فإن كاتب السيناريو والحوار يوسف السباعي، ولأني باحثة فقد استيقظت حاسة التقصي عندي وكان السؤال: من كاتب/ة قصة الفيلم؟ ولماذا لم يُشر إليه/ا؟ ورغم ذلك احترمت الحرص على عدم نسب القصة إلى كاتب السيناريو والحوار. طبعًا إلى جانب كاتب الفيلم فهو انتاج شركة القاهرة للسينما وتصوير وحيد فريد وإخراج هنري بركات وبطولة فاتن حمامة وإيهاب نافع وعدلي كاسب وملك الجمل. أسماء فنية تشجع على المشاهدة وتفتح الشهية لاكتشاف كنز سينمائي مجهول.
ولكن… بعد ثوان من بدء المشاهدة ألح على ذاكرتي بقوة فيلمان أحدهما بريطاني عنوانه “لقاء وجيز” 1974 إخراج آلان بريدچز ما كان بامكاني أن أنساه لأنه ببساطة بطولة ريتشارد بيرتون وصوفيا لورين! أما الثاني فهو الفيلم الأمريكي “الوقوع فى الحب” بطولة روبرت دو نيرو وميريل ستريب إخراج أولو جروسبارد ١٩٨٤، وهذا الفيلم تحديدًا فرصة نادرة لمشاهدة جانب رومانسي قلما نراه في دو نيرو. في الفيلمين، وبالتبعية الفيلم المصري تتوقف القطارات في محطة ما يلتقي في مقهاها ركاب يفدون من جهات معاكسة ثم يتوجه كل منهم إلى جهات معاكسة أخرى ومن هنا جاء العنوان الأصلي “لقاء وجيز”.
الأفلام الثلاثة مستوحاة من مصدر واحد: “طبيعة صامتة” مسرحية قصيرة للكاتب الإنجليزي نويل كوارد صدرت ضمن مجموعة من المسرحيات القصيرة عنوانها “الليلة في الثامنة والنصف”، تدور أحداثها في مقهى صغير لركاب محطة القطار. قدمت في السينما والمسرح والتليفزيون والدراما الإذاعية وأعيد عرضها حتى يومنا هذا على خشبة المسرح واقتبست سينمائيا عشرات المرات بمعالجات مختلفة تلتصق بالنص أو تختلف عنه كما يحلو لها. المهم أن المسرحية دخلت تاريخ الفن وتحولت إلى أيقونة بارزة عندما أخرجها ديڤيد لين عام ١٩٤٥ بطولة سيسيليا چونسون وتريڤور هوارد، تحت عنوان “لقاء وجيز”.
ديڤيد لين من أهم مخرجي البريطانية والسينما العالمية ومعروف في الوطن العربي بأنه مخرج “لورنس العرب” 1962 و”دكتور زيفاجو” 1965 و”ممر إلى الهند” ١٩٨٥. نسج من المسرحية الثابتة فيلما كلاسيكيا رقيقا تشارك معه في كتابة السيناريو رونالد نيم وأنتوني هاڤلوك-آلان. رشح عام ١٩٤٧ لثلاث جوائز أوسكار ولم يفز بأي منها: أحسن ممثلة، وأحسن مخرج، وأحسن سيناريو، لكنه فاز عام ١٩٤٦ بالجائزة الكبرى لمهرجان كان، يعني الفيلم ليس مجهولا للسينمائيين والوسط الثقافي والفني والأدبي في مصر خاصة مع مكانة كَوارد الأدبية.
تحولت مسرحية كَوارد إلى مصدر إلهام يلجأ له صناع السينما كل فترة. لكن لين تميز بتقديمه نجمين في دورين مختلفين عن باقي أعمالهما وتجانسا على الشاشة فى نجاح لنقل رقة المشاعر ورهبة الموقف الإنساني. تسبب هذا العنصر الكيميائي بين البطلين فى مشكلة عند إعادة الفيلم عام 1974، ماذا تفعل صوفيا مع ريتشارد في هذا العالم البريطاني الريفي الصغير؟ يؤرق المشاهد التناقض بين عالم الفيلم المحدود وجاذبية نجومية لورين وبيرتون فيضيف من خياله تفاصيل تتجاوز حدود الملل الذي يتظاهر البطلان بالمعاناة منه، ويتخيل لهما مسارا بديلا يدحض ما نراه على الشاشة، بعكس بطليّ الإنتاج الأصلي وما يمثلانه من رتابة حياة عصفورين خجولين في قفصين باردين متجاورين!
بتصرف في التفاصيل واستغلالا لنجومية بيرتون ولورين يمثل الفيلم التليڤزيوني نسخة محدثة من المسرحية تتأكد مبرراتها عندما نلحظ أن كارلو پونتي -زوج لورين- أحد منتجي الفيلم! لهذا يعطي الفيلم شخصية الزوج بعدا جديدا عندما نعلم أنه جندي بريطاني عائد من الحرب العالمية الثانية بزوجة إيطالية تقنع بحياتها معه امتنانا للعريس الذي أنقذها من بلد حطمته الحرب. بعد أن كانت تعيش في قلب عاصمة أوروبا الثقافية تجد نفسها حبيسة لمدة سبع عشرة سنة في مدينة صغيرة، وينشستر، على الجزيرة البريطانية. رغم اجتهاد لورين فإن سحرها أكبر من دور زوجة إنجليزية تقليدية، ويوشك المتفرج أن يتدخل في الفيلم ليسألها صارخًا: ماذا تفعلين في إنجلترا الباردة؟ وكيف طاوعك قلبك على ترك مارشيللو ماستروياني (شريكها في كل أفلامها الإيطالية الناجحة)؟
في نفس العام 1974 قدمت لورين فيلم “الحكم” مع جون جابان و”الرحلة” مع بيرتون الذى ظهر بدوره في نفس العام في خمسة أفلام من بينها قيامه بدور وينستون تشرتشل! رغم هذا الطلب على النجمين الكبيرين حرصا على بطولة فيلم “لقاء وجيز” رغبة في المشاركة في عمل يعتمد على نص شهير كان سببًا في نجاح فيلم ووضعه في مصاف أهم أفلام السينما البريطانية. نعم.. يمكن لنجمين بلغا أقصى درجات النجومية العالمية أن يشتركا في فيلم تليفزيوني لهذا السبب. وهو نفس السبب الذي دفع أسماء أخرى كبيرة لها ثقلها مثل جرير جارسون وأوليڤيا دو هاڤيلاند وستيوارت جرينچر وديڤيد نيڤين قبلهما لتجربة حظها مع العمل وشخوصه في وسائل فنية مختلفة وكل هذا بسبب ما فعله ديڤيد لين مع النص وتوظيفه لموسيقى رحمانينوف الشاعرية وضبطه للجو النفسي العام للفيلم وجماليات إضاءة الأبيض والأسود في التصوير مما جعله حالة خاصة ممتعة لها مريدوها.
هرب الفيلم الأمريكى 1985 كلية من أسر الأصل فلم يتبق من صلة بينهما سوى لقاءات القطار العابرة واقتراب البطلين من حدود الخيانة بسبب الملل والروتين، وحافظ الفيلم الإنجليزي 1974 على الهيكل الدرامي للعمل الأصلي لكنه ظل محتفظا بشخصيته ومضيفا تفاصيل كثيرة نفسية ورؤية إثنية خاصة به، بينما وقع الفيلم المصري أسيرا للأصل ويا له من ‘موضوع حيوي’ ليتناوله فيلم مصري في ذلك الوقت عام 1966 ليحكي لنا علاقة الحب بين مدام عايدة (فاتن حمامة) والدكتور أحمد مختار (إيهاب نافع) بكل ما تمثله من ترف فني وإهدار للفيلم الخام وقتئذ، وطبعا إهدار فرص الإبداع بسبب الاستسهال أو انعدام الثقة بالنفس وغياب الهمة والعزيمة.
أعدت مشاهدة فيلمي لين وبركات وتأكدت من ملامح التطابق بينهما التي زادت فداحة مع إنكار الفيلم المصري وإصراره على عدم رد الفضل لأصحابه! الغريب أن الفيلم المصري يرتدي قبعة الإنجليزي ويقلده متجاهلا المبدأ الأرسطي الذي ينص على قاعدة احتمال الحدث الدرامي وضرورته، ومن ثم فالعلاقة بين لورا والدكتور هارڤي لا يمكن أن تنقل كالترجمة الآلية إلى علاقة بين عايدة والدكتور أحمد مختار. وبينما يقدم الأصل حوارا إنسانيا يناقش القضية الاجتماعية، وصعوبة التآلف بين الخيانة والاحترام، وطبيعة الزلة التي تحاصر بطليه، فقد تمرغ الفيلم ‘التقليد’ في منطق طفولي غير مبرر تسوقه البطلة ‘على بلاطة’ للبطل: “جيت بس عشان خفت أسيبك متضايق”، ثم ينطلق الفيلم المصري مستمتعا بسلسلة من المشاهد الساذجة ثقيلة الظل للبطلين فى حالة من الرومانسية المراهقة مثل اللعب بالكرة، والتنافس على ركل حجر بالطريق، وطبعا التنزه في حدائق المنتزه (الملاذ المصري الوحيد للعشاق في السينما). وبعد كل هذا الانطلاق والتقارب والحميمية غير المبررة -التي تركها الفيلم الإنجليزي غير محسومة- وغسل جوربي الحبيب (!!) تتظاهر البطلة بالوقار عندما يصرح لها بحبه وهي المحترفة في الكذب بمنتهى الرقة العذبة التي تبرر لها التستر على جريمة السعادة التي استسلمت لها!!
الخطير أن فيلم بركات يعتمد على نقل هيكل الأصل ومفاصله بالكربون، بداية من اللفتات الصغيرة مثل وضع البطل يده على كتف البطلة عند وداعه لها للمرة الأخيرة، والثرثرات الفارغة، وطبيعة الشخصيات، وملامحها الخارجية والداخلية، والعلاقات التي تربط بينها، وبنية الحوار تارة وتفاصيله تارة أخرى، حتى الكادرات وزوايا الكاميرا ودرجة الإضاءة، وتطور المشاهد الرئيسة إلى أن يقرر البطل الرحيل مع زوجته وأطفاله متمثلا فى الهجرة إلى جنوب أفريقيا ليعمل فى مستشفى بچوهانسبرج فى الفيلم الأصلي التي أصبحت الانضمام إلى بعثة إلى الجزائر فى الفيلم التقليد.
تنطلق بداية الفيلم الفعلية – مقتفيا خطى الأصل- بـ”فلاشباك” مونولوج طويل يمتد عبر الفيلم حتى نهايته تتخيل فيه الزوجة أنها تحكي/تعترف لزوجها بعلاقتها الغرامية. ويتبع الفيلم التقليد خطوات الفيلم الأصلي تقليدا أعمى يبدو في ما حوله ديڤيد لين من إشارات في حوار المسرحية داخل بوفيه المحطة إلى مشاهد خارجية فعلية لها ديناميتها الخاصة وسحرها: ها هي الصديقة الثرثارة تشتري الشيكولاته لابنها، والبطلة تناجي نفسها في القطار وتشكو من الصديقة، وتتفنن في نسج أكاذيب حتى تبقى مع عشيقها، حتى نزهتها في البحيرة وابتلال جوربي البطل وتأجيره سيارة لنزهتهما، ثم ركوبها القطار وقرارها في آخر لحظة أن تلحق بعشيقها في شقة صديقه! كأنك تشاهد نفس الفيلم ولكن عبر “دبلجة بصرية” خاصة عندما تحتدم الدراما وتتابع الكاميرا خطوات البطلة من مدخل العمارة وعلى درجات السلم والقضبان التي تبدو من خلفها والألواح الزجاجية التى تحجبها، ثم موقف الصديق صاحب الشقة في الفيلمين من البطل، واختباء البطلة في المطبخ ثم خروجها من الباب الخلفي لتهيم على وجهها في الفيلمين، ثم مكالمتها للزوج لتبرر تأخيرها ونقل جملة البطلة كلمة بكلمة: “الكذب سهل عنما يكون الانسان موضع ثقة”، ثم مشهد جلوسها في الحديقة ولقائها برجل الشرطة الذى تفضل الفيلم المصري بإضافة لمسة شرقية مباشرة له عندما تعرضت البطلة للإهانة من شباب عابث اعتقدوها فتاة ليل!!
كل فيلم من الأفلام السابقة وجدت فيه البطلة شريكًا يتحمل جزءا من الدراما معها إلا فاتن حملت وحدها العبء الدرامي بينما حافظ نافع على هدوئه البارد كأنه ضيف خارج الحدث! وتعمد السيناريو –شأنه شأن الأصل- تهميش دوري الزوج عزمى (عدلي كاسب)، والصديقة زينات (ملك الجمل) رغم محاولتهما الحفاظ على مصرية العمل، ولكن عبثًا، فقد أهدر السيناريو مسبقا جهودهما وحكم عليهما بالانزواء في ركن صغير معطيا المساحة لفاتن وإيهاب كي لا نكره دوريهما ونشجب علاقتهما أمام ما نلمسه من الدفء الرقيق الذي أضافه كاسب لمشاهده القليلة بلين ملامحه ورفق صوته في اهتمامه بصحة زوجته وحديثه عن العصافير والكنافة ولعب الطاولة.
المحزن أن فيلم بركات بدا خجلا من بوادر استقلاله عندما حاول على استحياء وتردد أن يشيد بناء مصريا موازيا للإنجليزي فى “المعدية” حيث يعمل زوج البطلة في مصنع الورق بدمنهور، لذا مر سريعا بين مشاهد من شكوى الجرسون والبائع السريح من الزبائن وشكوى ملمع الأحذية لزبونه من زوجته، رغم أنها البديل الذى قدمه للعلاقة بين صاحبة المقهى ورئيس المحطة في الأصل، وبالتالي انطفأت لمعة الأدوار الصغيرة التي لم تستثمر في أداء محمد نبيه وعبدالغني النجدي وغيرهما، وكذلك تاه في تقليد الأصل محاولات جميلة بذلها مدير التصوير وحيد فريد لنقل أجواء محطة سيدي جابر بنورها الطبيعي وطريق عودة البطلة إلى منزلها في “المعدية” وفي خلفيتها الشاطئ الهاديء يغمرها نور الأجواء المصرية.
كيف صُنع هذا الفيلم في أجواء من التبعية والتقديس للآخر واستباحة عمله الفني رغم أن العام السابق لانتاجه شهد تألق فاتن حمامة في “الحرام” إخراج هنري بركات؟ّ هل جلس كاتب-عفوا- ناقل الفيلم مع المخرج ومدير التصوير وربما المونتير والبطلة لدراسة الفيلم الأصلي؟ ولماذا أهدر الكاتب والمخرج فرصة صناعة فيلم عن حياتنا وقضايانا، وتعمدا عدم الإشارة إلى مسرحية نول كوارد “طبيعة صامتة”، ونقلهما التام من “لقاء وجيز” إخراج ديڤيد لين؟! هل من حقنا أن نشعر بخيبتنا في مبدعينا؟ أم هي كبوة الجواد؟ أم أن علينا أن نعيد حساباتنا في كل شيء؟
الخلاصة: السرقة من ديڤيد لين لا تفيد!!