بقلم : محمد حبوشة
هناك عدد لابأس به من المسلسلات المعروضة منذ فترة على شاشات القنوات المختلفة، والتي تأتي خارج إطار الموسم الرمضاني الذي يحظى بالزخم على مستوى الانتاج الضخم والمشاهدة الكثيفة، هذه المسلسلات أصبح لها قاعدة جماهيرة كبيرة، ولها متابعة ملحوظة نظرا لجرأتها تارة في الطرح لقضايا إجتماعية شائكة، وتارة أخرى لتركيزها على روح العائلة والتعرض لهموم الطبقة الوسطى، وهو الأمر الذي كتب نجاح عدد من تلك المسلسلات التي عرضت خارج السباق الرمضاني ، ومن أبرز هذه الأعمال “بين عالمين – أبو العروسة – سابع جار – الطوفان – ولاد تسعة – الأب الروحي – الكبريت الأحمر”، مايعني أنه ثبت مع الوقت أن قرارات المنتجين غير صحيحة، بل إنها تبدو”فاشلة” في واقع الأمر، لأنهم توصلوا إلى أن يختصروا العام كله لموسم واحد في رمضان من كل عام.
ومن الأعمال المهمة التي جاءت في نهاية هذا السباق الجديد، مسلسل “أنا شهيرة.. أنا الخائن”، والذي حقق نجاحًا واسعًا، وأن يحظى بقطاع عريض من الجمهور، وكذلك بنسب مشاهدة عالية عبر موقع الفيديوهات الشهير “يوتيوب”، والمسلسل من إخراج “أحمد مدحت”، والرواية مأخوذة عن أحداث حقيقية سجلتها الكاتبة السعودية “نور عبد المجيد” وبنت عليها أحداث روايتها المكونة من جزأين، ولكن كل ذلك لا يبرر أن جاءت دراما المسلسل بنوع من التقليدية المملة أحيانا، بل إنها حملت في طياتها الكثير من الأخطاء الدرامية والمبالغات في تقديم الشخصيات على نحو غير صحيح، فضلا عن عدم منطقية الكثير من الأحداث، ولكن يبقى الخط الأساسي للمسلسل هو الرومانسية، فقد تم ابتلاع كل السقطات في سبيل الحب الذي نفتقده في هذه الأيام العصيبة من حياتنا المعاصرة.
ولي ملاحظة أولية تتلخص في أنه على الرغم من أن الخط الأساسي للمسلسل ينتمي لنوعية الدراما الرومانسية، فإن الحوارات التي درارت بين كل أطراف قصص الحب في المسلسل تقترب جدًا من السطحية والركاكة، ناهيك عن تقليديتها الشديدة، فـ “رؤوف” الذي جسد شخصيته “أحمد فهمي” عندما يريد أن يبهر “شهيرة” أو “ياسمين رئيس” التي قامت بدورها بشكل يفتقد لدفء الأداء، بحيث كان يغني لها أغنية لفيروز، تقابله بفتور، وعندما يلتقطان الصور في شهر العسل يخبرها أن هذه الصور سوف تكون ذكرياتهم في زواجهم الذي سيمتد لخمسين سنة لم يهتز لها جفن، أو يظهر بريق آخاذ لعينيها الجامدتين، وهكذا فعندما تريد أي شخصية أن تعبر عن أي شيء، فإنه يمكنك أن تكتم صوت التلفزيون وتردد بنفسك من الذاكرة أي كليشيه محفوظ، وبالمناسبة لن يختلف ذلك كثيرًا عن الحوار الأصلي الذي تشاهده على الشاشة.
أما عن باقي الشخصيات فقد نالها قدر من الاستسهال هى الأخرى بشكل لا يمكن إغفاله، ومنها شخصية “الدكتور توفيق” أو خالد زكي، الذي يقوم بدور والد “رؤوف”، والذي يبدو معقدا من النساء، فإنه يردد “كليشيهات” غاية في السطحية والسذاجة والمبالغة لدرجة يمكن أن تجعل أداءه كوميديًا باهتا، فهو يتعامل بتعنت شديد، بحيث لا يسمح إطلاقا بدخول الخادمات للمنزل لأنهن نساء!، ويخبر “شهيرة” بصرامة مفتعلة أن تلد ولدًا عندما جاءت لتخبره بحملها، ويذهب في المبالغة أكثر إلى ذكر في كل مناسبة – ودون مناسبة – أن عائلة عبد الجواد لابد أن تكون كلها أولاد.
وعلى الرغم من أن شخصية “زياد” التى لعبها بنعومة شديدة “محمد علاء” تعد من الشخصيات المحورية في الرواية المطبوعة، إلا أصبحت هى الأخرى من الشخصيات التي نالها الاستسهال الدرامي، ومن ثم جاءت الكثير من المغالطات المنطقية التي لم يكن من اللائق أن تكون بمسلسل ناجح على المستوى الجماهيري، ويحظى بشعبية لا بأس بها، والمشاهدون سعداء بما يرونه على الشاشة، ناهيك عن رواية صدرت عام 2013 وحققت نسبة كبيرة من المبيعات قبل عرضها على الشاشة، فعلى الرغم من أن الضرورات الدرامية تبيح الخيال، فإن أسلوب المعالجة الدرامية في “انا شهيرة أنا الخائن” خرجت تماما عن نطاق الخيال لتدخل بنا إلى منطقة الاستسهال من أوسع الأبواب.
ونستثني بالطبع من كل تلك الشخصيات “الأستاذ عبد الرحمن” الذي جسده ببراعة وحرفية عالية للغاية الفنان القدير” أحمد فؤاد سليم” والذي ارتبط بشخصية الأب الحنون، ومدير المدرسة القدوة، وصاحب الرسالة، والذي خلق حالة من الانبهار لدى الآباء والأبناء، لتقديمه مزيج الأب المعاصر، المتمسك بالقيم، الحنون الذي استطاع تربية ابنته بدون عصى، بل بالتفاهم والحب والثقة حتى صار مفتاح تكوين ملامح قصة بطلة العمل، وربما ساعده في أداء الشخصية على نحو الاحترافي إجادته لفن الإلقاء الذي اكتسبه من خبرته الطويلة على خشبة المسارح، والإلقاء – كما نعرف – هو جزء لا يتجزأ من فن التمثيل، بل هو أحد أدواته الفنية المهمة, فالهدف الرئيسي الذي يصبوا إليه الممثل من خلال وسائله الفنية وخاصةً الإلقاء هو أن يوّلد القناعة لدى الجمهور بأبعاد الشخصية التي يجسدها، سواء بالأقوال والمشاعر التي تقدمها تلك الشخصية فـ”ليست مهمة الفنان أن يعرض مجرد الحياة الخارجية للشخصية التي يؤديها، بل لابد أن يتلائم بين سجاياه الإنسانية وبين حياة هذا الشخص الآخر, وأن يصب فيها كلها من روحه هو نفسه.
هذا تماما ما فعله “أحمد فؤاد سليم” طوال الحلقات في تماهى غير مخل مع شخصية ناظر مدرسة الطبرى، بحيث أكد دوما على الحياة الداخلية للروح الإنسانية لرجل التعليم, ومن ثم استطاع التعبير عنها بصورة فنية مبهرة وصادقة، وقد أثبت”سليم” أنه لابد للممثل من الإيمان بالكلام الذي سيلقيه على مسامع المتفرجين، والذي يتضمن جملة من الأفكار والمشاعر الخاصة بالأستاذ عبد الرحمن، وهو هنا لم يكن يؤمن بذلك إيمانا مجرداً فحسب، بل إيمانا صادقاً فيما يلقيه من حوار يؤكد معرفته الصادقة لأبعاد الشخصية الطبيعية والنفسية والاجتماعية وصفاتها بالسلوك والتصرفات وطريقة الكلام كما جاء بحركات وايماءات تؤكد صدقية الأداء وتفرده في ذات الوقت.
أحمد فؤاد سليم، في هذا المسلسل قدم لنا درسا عمليا مهما وضروريا بأنه على الممثل أن يتعرف على العناصر التي تجذب السامع وتثيره من أجل إبراز القيم الدرامية المختلفة، كلنا يستطيع أن ينقل أفكاره وأفكار غيره إلى السامعين أو المشاهدين بوسائل متعددة, إما عن طريق الخطابة أو الإنشاد والغناء أو الإشارة, ولكن ليس باستطاعة كل منا أن يتقن فن الإلقاء كما أتقنه” سليم” صاحب الخبرة الطويلة في المسرح, بحيث استطاع الوصول إلى هدفه من نقل أفكاره أو أفكار غيره بشكل واضح ومحدد, ومن ثم التأثير على السامعين أو المشاهدين بحيث يتفاعلون مع هذه الأفكار, فالإلقاء يعتبر الوسيلة الوحيدة والفعالة في مخاطبة الجماهير كونه يجسد الأفكار والأحاسيس والأهداف بشكل معين، كما فعل القدير “أحمد فؤاد سليم” برخامة صوته ونبرته المميزة التي كانت تهتز لها مشاعر الجمهور وأحاسيسة في متعة المشاهدة.
في “أنا شهيرة .. أنا الخائن” رسمت الحلقات الأولى ملامح شخصية الأستاذ مدحت شكلًا ومضمونًا، وأبرزت فيه صفات المحبة والعطف والتواضع، برغم من كونه مدير مدرسة، لكن ذلك لم يجعله “متكبرًا” أو “صارمًا” مع أسرته الصغيرة، بل كان “حنونًا”، يطعمهما بيده، ويستيقظ قبلهما لصناعة “طبق الفول بالتحبيشة” المفضل لهما بيديه، وكذلك هو الأب المتحمل لعبء أحلام ابنته، الذي يسعى لتحقيقه بعيدًا من ميراث زوجته، الذي منعه عنها شقيقها، وإن دلت في المشاهد الأولى أنه “متهاون” في حق زوجته، كاره لشقيقها، لكن سرعان ما ينكشف عن عقل واعٍ وكرامة تأبى مد اليد لطلب حقٍ منعه صاحبه، حفاظًا على صورة زوجته التي توفيت في الحلقة الثانية، والتي اختارته بالرغم من ضيق حاله، بعكس ما تعيش فيه من نعيم مع أسرتها الثرية.
نزاهة الأب وسمعته الحسنة، ومحبته في قلوب الجميع، شكلت حائط صد بشري طوال حلقات المسلسل لـ”شهيرة” خلال كافة مراحل حياتها، وزاد عليها حسن التصرف، والحكمة التي ظهرت في تعامله مع “توفيق” حمى “شهيرة” القاسي الصارم، حيث استطاع أن يحول صرامته لمحبة، وصداقة قوية، ترجموها في لعب “الطاولة” بشكلٍ يومي، حتى وصل الأمر لأن يوصيه على ابنته قبل ساعات من وفاته، ليعده “توفيق” بأنها ابنته، ويستطيع الأخير الذي تحولت علاقته من الكره الشديد، والعقدة النفسية من النساء، لمحبة زوجة ابنه، بأن يخرجها من حالة الحزن الطويلة والقاسية بسبب وفاة والدها.
“لا يختبر الإنسان في قيمه إلا في زمن المفارقة”، درس عملي آخر استطاع الأب “الأستاذ عبد الرحمن”، ناظر المدرسة، المعلم الفاضل، بتجسيد حى من “أحمد فؤاد سليم” أن يوصله للجمهور عن طريق موقفه في حبس زوج ابنته رؤوف”، لقد كان أبًا ديمقراطيًا ولعل ذلك الأمر الذي جذب طائفة كبيرة من الفتيات، وتمنين أن يكون والدهن مثله، فلم يفرض “الأستاذ مدحت” يومًا على ابنته رأيًا، أو يحرمها من رغبة، بل وساعدها على كسب محبة “رؤوف”، الرجل الذي كانت تشتكي منه بعد الزواج، لكنه نصحها بأن تكسبه لأنه “طيب”، وأيضًا لم يتدخل في قرارها برفض حب “زياد”، أو حتى عاقبها على عصيانها لطلبه بألا تطالب بميراث والدتها من خالها، بل شرح لها الأسباب فقط، وأيضًا عندما طلب منها أن تعزمه على زفافها احترم عدم رغبتها في ذلك، وتقبل نقد الأخير ونظراته.
انتقادات وأخطاء كثيرة وقعت فيها الكاتبة الروائية “نور عبد المجيد”، اكتشفها جمهور مسلسلها “أنا شهيرة.. أنا الخائن”، وهو إقحام شخصيتها الحقيقية داخل أحداث المُسلسل عن طريق تعلق بطلة المُسلسل “شهيرة” في أحد الأوقات التي كانت تمر فيها بظروف صعبة بكتابتها، وظهرت أكثر من مرة وهي تقرأ روايتها “الحرمان الكبير”، الأمر الذي ربطه الجمهور بأنه ثمة مُحاولة لتمجيد اسم “نور عبد المجيد” سواء من جانبها أو من جانب مُخرج العمل – وقد عللت بأن تلك كانت رؤية المخرج التي أراد من خلالها إضفاء المصداقية – خاصة بعد لصق صفة “الأديبة” قبل اسمها على تتر المسلسل، الأمر الذي لم يعتد عليه الجمهور سوى في أعمال الكبار من الأدباء، خاصة أن لقب الأديب اعتدنا عليه أنه مرحلة متقدمة ينالها الكاتب بعدما يقدم مزيجا ثمينا ومشوارا أدبيا طويلا مليء بالخبرة.
لكن يحسب لها أن الرواية تغوص في خفايا النفس البشرية راصدة لحظات انتصارها وانكسارها، فرحها بالحب وفزعها من الخيانة، حيث تشكل تيمة الخيانة بطلا رئيسيا في هذه الحكاية بجزئيها، وهي تيمة فنية ملحوظة عند “نور عبد المجيد”، فهي دائماً ما ترمي من خلال تناولها إلى الوقوف على دوافع النفس البشرية واحساسها الوجودي الضاغط، ومن خلالها تستخرج المناطق المظلمة في الروح وتعرضها للضوء حتى تتطهر، بحيث تجعل نور عبدالمجيد من تيمة “الخيانة الزوجية” مدخلاً نفسياً دائماً، واستعارة تعبر من خلالها عن قوة إرادة المرأة، ونضالها من أجل الوجود المستقل، فلا تستجيب للعادات والتقاليد، ولا تقبل بالذل والمهانة، أو بدور التابع غير الفاعل في العلاقة الإنسانية، وهى هنا في “أنا شهيرة” تصل بها إلى ذروة الانتقام بأن تقرر شهيرة خيانة من خانها، فنياً نور عبدالمجيد لديها قدرة هائلة على تكثيف الفكرة واكتشاف الجديد دائماً، فضلاً عن غرامها بالغوص الملح في النفس البشرية محاولة لاكتشافه، ورصد خلجات الذات في مواجهة العالم وفي مواجهة النفس، والاعتراف بلحظات الضعف والوقوع في الخطأ بوعي للانتقام أو للضعف البشرى الذي هو جزء من التكوين النفسي للأبطال لدى نور عبدالمجيد، التي حاولت أن تنسج خيوط شخصياتها ببراعة وصبر، لكنها وقعت في براثن الحوارات التقليدية المملة والسطحية في كثير من الأحيان، كما جاء على لسان الممثلين.
على أية حال يبقى لنا على الرغم من كل ما مضى أن نشيد بأداء “أحمد فهمي”، حيث جاء ناعما سلسلا في كلا الجزئين، على الرغم من بعض الهنات التي تخرج عن إرادته جراء ارتباك السيناريو وسطحية الحوار، ما حال دون إطلاق قدراته كممثل نحو العزف بإجادة أكثر على أوتار الشخصية، أيضا كان لافتا للنظر أداء “أسماء أبو اليزيد في دور “عزة”، حيث سيطرت مشاعر الشخصية عليها طوال الوقت، بخاصة طريقتها في محايلة زوجها كى يحبها بقدر ما تحبه، ومحاولتها المستميتة لأن تكون رقم 1 فى حياته، إلى جانب مشاعرها تجاه عمتها التي قامت بدورها “حنان يوسف”، وحبها لها ووقوفها بجوارها، وتحملها لتسلط زوجة عمها”.
وتبقى الإشادة واجبة بأداء “محمد علاء” في دور زياد حيث كان يبدو أن التركيز شيئًا مهما له كممثل أصبح ناضجا، ولهذا كان قادرًا على زج نفسه في مواقف خيالية لحجب جميع المؤثرات الخارجية عنه، موهمًا نفسه بأنه لا يمثل بل يقوم بدور حقيقي، وهو ما ظهر جليا في حركاته وإشاراته، وطريقة مشي الشخصية، وحتى قامتها النحيلة وإشاراتها ومميزاتها الجسمانية الخاصة بها، فضلا عن قدرته على فهم هدف كل دافع عاطفي وراء كل حركة تقوم بها الشخصية، ويبدو أنه من أولئك الممثلين المحترفين الذين يعنون بالتدرب الدائم على تحسين قدراتهم الصوتية، ومرونة أجسادهم طوال مدة ممارستهم لموهبة التمثيل.