محمد ضياء الدين .. رائد أغاني الأطفال المنسي !
* أول من لحن وشجع الممثلين على الغناء في الأفلام السينمائية
* غنى له “ماهر العطار، وعادل مأمون ليلى مراد، شادية، صباح، سعاد محمد، شريفة فاضل، مها صبري “
* تحدى الجميع وقدم “حسين رياض” كمطرب ولحن له ” جدو يا جدو يا أجمل جد”
أحيانا ولأسباب معلومة وواضحة أو لأسباب أخرى مجهولة وغامضة، نجد فى عديد من بلداننا العربية أكثر من صوت غنائي أو ممثل مظلوم، وظلم الأصوات الغنائية ـ كما يقول الناقد الموسيقي الكبير “إلياس سحاب” – على درجات متفاوتة، فهناك الصوت الذى أخذ قسطا من الشهرة ولكن بدرجة أقل من قيمته الحقيقية، وهناك المطرب أو الممثل الذي يقبع فى زواية الإهمال التام، بينما تتمتع أصوات أو أداء أدنى منه بكثير بشهرة كاملة تغطي أحيانا أرجاء الوطن العربي بأسره، وهناك الصوت أو الممثل الذي أخذ نصيبه من الشهرة، ولكنه سرعان ما انزوى فى زوايا النسيان لأسباب كثيرة ليس بينها بالضرورة هبوط مستواه الفني، وهناك الصوت أو الممثل الذى ظلمه صاحبه فحصره فى دائرة من الألحان أو الأدوارالمحدودة التى لا تصل إلى مستوى الصوت أو الأداء الذي يؤديه، وهناك أخيرا الصوت أو الأداء الممتاز، ولا أحد يعرف سر إهمال الملحنيين أو المخرجين الممتازين له، في الوقت الذي يندب فيه هؤلاء الملحنون حظ الغناء والتمثيل العربي، ويتساءلون في الليل والنهار: أين الأصوات أو الممثلين الجيدين حتى ننتج لها؟.
فى هذه الحلقات سنتوقف كل أسبوع مع واحد من هؤلاء المظاليم، وهذا الأسبوع وقع إختيارنا على الملحن ” فؤاد حلمي” مع العلم أن كل الملحنيين المصريين والعرب شركاء فى نسبة معينة من الظلم، سببها تعلق الناس عندنا بالمطربين أكثر من تعلقهم بالشعراء والملحنيين، ومسايرة الإذاعات العربية لهذا التعلق، والموسيقيون الأكثر تعرضا للظلم هم أولئك الذين يكتبون موسيقى خالصة.
بقلم : أحمد السماحي
نتوقف اليوم عند المطرب والملحن “محمد ضياء الدين” الذي اكتشفه المذيع السوري “عبدالهاي البكار”، وغزا القلوب والبيوت بأغنية “مهلك مهلك” التى حققت نجاحا كاسحا في حينها، وحضر إلى مصر مع زوجته “ندى” أيام الوحدة بين مصر وسوريا، واستقرا في مصر فأقبلت عليه السينما، وقدم هو وزوجته فيلم “يا حبيبي” وشاركهما البطولة الفنان “رشدي أباظة”، بعدها انطلق في سماء الفن المصري وقدم تجارب غنائية ثرية جدا.
هذا الموسيقار الذي رحل عن حياتنا وهو فى عز الشباب، حيث ودع الحياة فى السابع من أكتوبر عام ” 1933، “1978، ولم لا يتجاوز الخامسة والأربعين من عمره.. هذا الفنان وقع عليه ظلما كبيرا غير مبرر حتى الآن، ولا أحد يدري سر الظلم الذي وقع على هذا الملحن سابق عصره، ومن المسئول عن هذا الظلم؟!. نقول هذا الكلام لأن الرجل كان ظاهرة فنية لم تتكرر حتى الآن، غنى ولحن وسبق عصره بفكره الموسيقي المتطور والمتجدد، واختياره لموضوعات أغنياته، كان الأول في أشياء كثيرة، فهو أول من تحمس لغناء الممثلين، وتحدى الجميع بالفنان “حسين رياض” صاحب الصوت الأجش الذي لا يصلح للغناء، عندما لحن له أغنية مع الأطفال بعنوان “جدو يا جدو يا أجمل جد” التى حققت نجاحا كبيرا، وما زالت واحدة من أنجح أغنيات الأطفال نظرا لجمال فكرتها.
ولم يكن “حسين رياض” وحده الذي لحن له “محمد ضياء”، فقد لحن أيضا أغنية للفنانة “ماجدة” للأطفال أيضا بعنوان ” قطر بلادنا”، كلمات الشاعر الغنائي صلاح فايز، ولحن أيضا للفنانة “سميرة أحمد” أغنيتين من كلمات ” صلاح فايز” هما “سهاني” و” دوقني حنانك”.
واللون الثاني الذي نجح فيه بقوة ويعتبر رائدا فيه، وهو ريادته لأغنية الطفل، والغريب أن أحد لا يذكر هذا الدور الهام، صحيح أن الموسيقار الكبير “محمد فوزي” سبقه وقدم أغنيتين للأطفال، لكن “ضياء” وهب حياته وفكره وفنه للطفل، وقدم مجموعة كبيرة جدا من أغنيات الأطفال نذكر منها “ألف باء، ست البيت، قطر العروبة، قطتي لولو، اللعبة الشاطرة، واحد+ واحد، عيد الأسرة، ترت ترن، كل عام وأنتم بخير، اضحك، اضحك، عقبال 100 سنة، اتفرج يا سلام، عيد الأم، عش العصفورة، ليلى والذئب، الصياد والسمكة، أبو ماجد وأصحابه، أحمد ضعفان، البلونة الحمراء” وكل هذه الأغنيات كلمات جمال الهاشمي.
كما سجل لتليفزيون الأردن عدة برامج غنائية للأطفال منها ” حكاية كل يوم”، و”محكمة الأطفال”.
اللون الثالث الذي نجح فيه بقوة هو تلحينه لمجموعة كبيرة من المطربين مجموعة من أنجح أغنياتهم نذكر منهم المطربة الكبيرة “ليلى مراد” التى لحن لها “راجع م السفر” كلمات محمود عفيفي، و”مشتقالك” كلمات صلاح فايز، كما لحن للمطربة شادية أكثر من أغنية وكلهم من كلمات صلاح فايز ومنها “أنا أترجاه، كلك حنية”، وغنت له صباح “بدوب في هواه” كلمات “بخيت بيومي”، ولحن لمحمد عبد المطلب “ياهوى قاسي” كلمات “مجدي نجيب”، ولسعاد محمد لحن أغنية “قبل ماتقول”، ولشريفة فاضل لحن عدة أغنيات منها “يا مه الأسمراني” كلمات جمال الهاشمي، ” في عيني دموع” كلمات فتحي قوره، “يا واد أنت، حبني، يا أبو العجايب، سنية”، ولمها صبري “ح يحصل، وضحكت عليك”، ولنجوى الموجي “مسا التماسي”، ولزوجته ندى ” تلاتة بس، تاتا يا نونس، الشكك ممنوع، تتصور يا حبيبي، يا اللي الدلال طبعكم”، وغنى له “ماهر العطار “رحلة غرام”، وغنت له “طروب” أغنيتها الجميلة “دوري مي”، هذا فضلا عن الثنائيات الكثيرة التى قدمها مع زوجته المطربة ” ندى”.
شهادة الناقد الموسيقي زياد عساف
أرجع الناقد الموسيقي الأردني “زياد عساف” في كتابه “المنسي في الغناء العربي” نجاح تجربة “محمد ضياء الدين” بالنسبة لأغنية الطفل أنه أعتمد على الحوار مع الأطفال ضمن الأغنية، والطفل هنا يبدي رأيه فى الموضوع، بل وأكثر من ذلك إنه يحاور كما حدث في أغنية “البالونة”، والتى هى عبارة عن حوار بين أب وطفلته، هو يحاول أن يقنعها بشراء بالونة لها بدل تلك التى “اتفرقعت” والطفلة تصر على أن تشتريها من مصروفها الذي تدخره “بالحصالة” لكي توفر عليه المصاريف وتنجح فى إقناعه أخيرا.
وفي أغنية ” اضحك اضحك” التى تعد نقلة مهمة فى أغنية الطفل أيضا، الأب هنا هو من يستشير ابنته ويأخذ برأيها: ماذا يفعل لو أن صديقه “نرفزه” وضايقه، فتعطيه ابنته الحل قائلة “اضحك .. اضحك”، وهذه نماذج تفسر سبب نجاح هذا النوع من الأغاني أيضا، فالطفل شعر بأهميته ودوره فى المشاركة مما يسهم فى بناء شخصية مستقلة تعتمد على نفسها.
هذا ينطبق على باقي الأغنيات مثل “أ. ب . ت .ث”، وهى على شكل حوار بين الأستاذ والتلاميذ، وهو يعلمهم الحروف الأبجدية، وتشكيل الكلمات، أما فى أغنية “التعلب فات” فهى تمثل حالة مشاركة من قبل الأب والأم فى اللعب مع أطفالهم، وفي أغنية “ليلى والذئب” يقلد “ضياء الدين” صوت الذئب فى الحوار الغنائي، والتقليد بشكل عام هو من طبيعة الأطفال ويسهم في تنمية الخيال لديهم.
شهادة صلاح فايز
يتذكر الشاعر الغنائي الكبير “صلاح فايز” علاقته بالموسيقار “محمد ضياء الدين” فيقول: كانت بداية تعاوننا معا فى عام 1964، من خلال أغنية ” تاتا يا نونس” لزوجته المطربة “ندى”، وفى هذه الفترة كنت أحلم بالتعاون مع “شادية” التى ستظل و دوماً فتاة أحلامى إنسانياً وفنياً ما بقيت حياً، والتى عرفني عليها الأستاذ “سعيد أبو السعد”، الذى كان يشغل لبعض الوقت وظيفة ومسئولية الأغانى بالإذاعة المصرية، كان من المقرر أن أتعاون معها لأول مرة في أغنية يقول مطلعها “معلش غصبن عنى .. مش قصدى تزعل منى .. أرجوك يا سيدى سامحنى .. على قد فكرى وسنى”، لكن الموسيقار منير مراد صديقها المقرب أقنعها إنها تشبه أغنيتها “معلش النوبة دي”، فأعتذرت عن غناء أغنيتي
وعام 1964 تحقق هذا الحلم على يد الملحن الموهوب النشيط خفيف الظل “محمد ضياء الدين”، الذى كان يسعى بدوره إلى أن تغنى له “شادية” بعد أن غنت له كلا من “شريفة فاضل، ، ومها صبرى”، ووقع اختياره على أغنية من تأليفى مرسومة رسماً على “شادية ” وكانت الأغنية يقول مطلعها “أنا أترجاه .. أنا أجرى وراه .. وده شئ معقول .. ودى برضه أصول .. يا أخى بعده لا”، طار “ضياء” بالأغنية وطرنا بعد تلحينها لحناً جميلاً إلى شقة “شادية” بالعمارة الكائنة أمام حديقة الحيوان لنسمعها إياها، وعندما رأتنى بادرتنى قائلة “مش انت اللى قابلتك عند سعيد أبو السعد”، فلما أجبتها بالإيجاب، اعتذرت عن عدم غناء الأغنية إياها للأسباب التى ذكرتها سابقاً ، وقالت لى الأغنية الجديدة” دى حلوة” وبإذن الله نعمل أغانى جميلة سوياً، وكانت مجاملة رقيقة منها فى حينه، ولكن يبدو أنها كانت تعنى ذلك بالفعل، فإن الأحداث التى تلت تسجيل أغنية “أنا أترجاه” بصوت القاهرة دلت على أنها أرادت أن تعوض لى ما حدث سابقاً، بعد أغنية “أنا أترجاه”، فقد غنت لى “شادية” مع نفس الملحن “ضياء” أغنية من المختارات الإذاعية الناجحة جداً بعنوان “كلك حنية”.
هذه بعض مقتطفات من حياة رائد أغاني الأطفال الراحل العظيم محمد ضياء الدين، والذي شاءت الأقدار أن ينسى الناس ذكره كواحد من أساطين التلحين والغناء في مصر والعالم العربي، مع كل صباح جديد على صوت أغانيه المفرحة للأطفال، لكنه يبقى أثره خالدا بعد ما خلف لنا من ورائه ابنه الموسيقارالذي يحمل نفس الاسم “محمد ضياء الدين” ليشق طريق اللحن الشرقي، ويضفي عليه رونقا وجمالا على جناح الحداثة، ويقدم لنا روائع مختلفة ساهمت في انتشار الأغنية الخفيفة والطربية في قوالب تتسم بالعذوبة التي غناها كل من “هاني شاكر، راغب علامة، صابر الرباعي” وغيرهم، مرورا بـ ” ذكرى، سميرة سعيد، أصالة، إليسا” وغيرهن، ووصولا إلى “آمال ماهر وجنات ووعد البحري” وغيرهم من الأجيال الشابة من اكتشافاته اليومية التي لاتتوقف.. رحم الله الراحل العظيم الأب “محمد ضياء الدين”، وأطال الله في عمر ابنه”محمد ضياء الدين” ليبقى أثرهما كنجوم ساطعة في عالم الموسيقى والغناء.