بقلم الدكتور : طارق عرابي
السينما هى إنتاج ابداعي إنسانى يعبرعن الأفكار وترجمة الأحاسيس، أو عبر مايراه من صوروأشكال يمكن أن تجسد في أعمال عظيمة، وهى فن متنوع، معني بالدرجة الأولى بمعالجة الصورة والموسيقى والديكور والمونتاج، وغيرها من عناصر يتم وضعها في شكل شريط سينمائي، وأبرز تلك العناصر بالطبع القصة والسيناريو والحوار، خاصة إذا جاءت في شكل معالجة درامية تبرز المشاعر الإنسانية والتناقضات الحاصلة في حياتنا العادية، والسينما في ذلك فن لا يقتصر على نهجٍ واحد وثابت، بل يقدم المشاهد نائية بنفسها عن كسر حوائط الروتين وإتباع أسس مغايرة وغير تقليدية لرواية تحكي بما يناسب الذوق العام للجمهور.
فهناك أفلام بديعة تبرز ملامح وتكنيك السينما في أبهي صورها، وتعتمد في ذلك على سرد قصصي يتميز بالزخمٍ الذي يعبر بشكل مدهش، بحيث يساهم في فهم الشخصيات بتفاصيلها الدقيقة أبعادها العاطفية والرمانسية والتراجيدية أحيانا، وتلك التفاصيل هى التي تلامس القلب في النهاية، ومن ثم يحيي فيه كافة المشاعر الإنسانية والجمالية التي تلعب دورا في فيلمٍ معين، وهنا تبقي الأهمية لتنصب بالكامل علي البطل الرئيسي الذي يحمل علي عاتقه مسؤولية خروج الفيلم إلي النور، عبر أداء مثالي ووعيٍ تام لكافة جوانب الشخصية وسلوكياتها حين يلعبها معتمدا على مخزون درامي يتوافر فيه طوال الوقت.
ومن هذه النوعية فيلم “جودي” للمخرج “روبرت غولد”، وبطولة “رينيه زيلويجر” والذي يحمل في طيات شريطه السينمائي شحنة ثمينة تتمثل في أفضل أداء تمثيلي في عام 2019 ، والذي يحكي عن نجمة الغناء الراحلة “جودي جارلاند” في أواخر مسيرتها المهنية، حيث يرصد حالات الضعف، الانكسار، قلة الحيلة التي مرت بحياة تلك المغنية، وكلها سماتٍ على مايبدو كان لازما على “زيلويجر” أن تداركها باهتمام لتجسد الشخصية على نحو جيد يتطابق – أو على الأقل – يتشابه نسبياً مع المادة الأصلية التي كتبها التاريخ في انتظار من يقدر فحواها ويعرفها للناس بأية وسيلة ممكنة.
يتناول الفيلم جانباً درامياً إنسانياً من العام الآخير في حياة النجمة المحبوبة “جودي جارلاند”، ويربط الخيط الدرامي لمعاناتها في عامها الآخير عن طريق مشاهد “الفلاش باك” من فترة طفولتها وشبابها، وذلك في محاولة لإيجاد رواسب قديمة من حياتها، والتي ساهمت بشكلٍ ما في الانهيار المأساوي الذي نال منها في آخر أيامها لترحل عن عالمنا وهي في سن السابعة والأربعين دون أن تحقق أبرز أهدافها في حياة مستقرة.
“زيلويجر” في هذا الفيلم الذي يلعب على أوتار المشاعر الإنسانية، حاولت اتباع شيئاً من فلسفة “الميثود أكتينج”، ولكن ذلك لم يصل معها إلى حد التقليد التام، أو إرتداء عباءة الشخصية والتعايش معها بكل تفاصيلها الدقيقة، لكن كل ما قامت به كان مجرد تعديل في أوتارها الصوتية، بحيث تتناسب تماما مع أسلوب حياة مغنية تقوم بدورها، ورأي الشخصي أنها اجتهدت كثيرا علي المستوي الحركي للشخصية ومسايرة لطريقة “جارلاند” في التعبير عن مشاعرها الدفينة ومعاناتها من خلال سيرة مباشرة نسبياً من واقع حياة المطربة الراحلة، والتي كانت بالطبع مليئة بذكرياتٍ عديدة وأسرارٍ خفية لم نعرفها من قبل ظهور هذا الفيلم ، وببراعة شديدة قدمت “زيلوجر” نظرة خاطفة تماما جديدة على فن التجسيد السينمائي كأداة فعالة لصنع عملٍ بأكمله يعتمد على جرعة كبيرة من التراجيديا الإنسانية.
الفيلم كما ذكرنا سابقا يتناول الأيام الأخيرة في حياة المطربة الأمريكية “جودي جارلاند”، وتحديدا عندما شاركت ضمن فعاليات نادي”توك أوف ذا تاون” الليلي بلندن وزادت خلال تلك الفترة اضطرابا وقهرا لا حد له، كما هو واضح تماما من خلال السيناريو، والذي كتبه “توم إيدج” مستندا على أفعال “جودي” التي كانت سببا مباشرا لوقوعها في براثن الكثير من المتاعب التي لاحقتها، وهى في الحقيقة كانت تتزامن ضمنيا مع صراعتها مع الإدمان والكحول اللذان أفقداها صوابها، وعلى مرأي ومسمعٍ من الجمهور التي كانت تهدف لإرضائهم مقابل الدعم لها ولقدراتها الغنائية التي كانت تتمتع بها.
منذ الافتتاحية الأولى للفيلم يصبح الجمهور على وعى تام و دراية كاملة بالأسباب التي دفعت “جودي” إلى حافة هاوية عدم الاتزان النفسي والمعنوي في أيامها الأخيرة، فقد بدت مكسورة الخاطر، هزيلة الجسد والمظهر، عاطلة عن العمل، وفوق كل ذلك أصبحت عاجزة تماماً عن تأمين حياة كريمة تتناسب مع طموحاتها في الحياة التي تحولت إلى كابوس مزعج جراء وصولها إلى تلك النهاية المأساوية، وظني أن كل تلك الظروف العصيبة التي مرت بها “جارلاند” أجبرتها حتما على ترك طفليها مع زوجها السابق، بينما كانت هى تحاول محاولات يائسة بناء منزل يحتمل أن يكون أكثر استقرارا، لكن وفي ظل الديون المستحقة عليها للضرائب، توافق على مضض على مغادرة البلاد إلى “إنجلترا” أملا في كسب المال اللازم كي تحصل من ناحية على حضانة طفليها والفرار من أزماتها المتلاحقة من ناحية أخرى.
لفت نظري ذلك الأسلوب الذي اتبعه مخرج الفيلم “روبرت غولد”، والذي يذكرنا نسبيا بأسلوب المخرج “بول توماس أندرسون” الذي يعتبر الشخصية جوهر العمل وجزءاً لا يتجزأ منه، ومن هنا يحرص تماما على أن يجسدها بكامل تفاصيلها الدقيقة، ويعطيها خط سير محدد من البداية للنهاية، يتحكم من خلاله في خيوط القصة كاملة، بحيث تعتمد في الأساس على معلومات واضحة تنساب على إثرها كافة القرارات عفوية كانت أو مدروسة، لذا يمكننا القول بأن الفيلم في مجمله يمكن أن ينضم للقائمة المطولة لأبرز أفلام السير الذاتية التي أرخت لمسيرات مهنية لمشاهير عبر التاريخ، بل إنه نجح في تحقيق التوازن بين سرد السيرة الذاتية الحقيقية من جهة، وكسر حاجز الملل وإمتاع المشاهد من جهةٍ أخري عبر صورة مدهشة.
ويظل ملفتا للانتباه أيضا ذلك التشابه الجسدي بين “زيلويجر” و”جودي” ويبدو ذلك واضحا أكثر فأكثر حينما تشرع الكاميرا في التقاط عدد لا بأس به من لقطات “الكلوز أب” التي تركز بالأساس على ملامح “جودي” المعبرة للغاية، وتؤكد في الوقت ذاته على وجود ملامح وصفات جسمية مشتركة بينهما، وكأن “زيلويجر” في تجسيدها الرائع ترتدي الشخصية مثل القناع الذي يحافظ على الانزلاق، كما أنها دوما تشرع في ترك بعضا من بصماتها الخاصة التي تساهم في مرور الشخصية علي شاشات السينما بسهولة ويسر، وعلي نحو بالغ الدقة والكمال.
ورغم أن الفيلم قد واجه مديحاً كبيراً في أوساط النقد الفني والسينمائي إلا أن بعض النقاد قد كتبوا سلباً عن أداء الممثلة “رينيه زيلويجر”، وأنها لم تجسد شخصية “جودي جارلاند” الحقيقية كما ينبغي أن تكون، ومع ذلك فقد واجه هؤلاء النقاد الذين علقوا بالسلب على آداء “زلويجر” هجوما كبيرا من جمهور كبير ممن استحسنوا أداء الممثلة في هذا الفيلم، والغلبة والفوز يذهبان للجمهور الذي وصف أداء البطلة بأنه ساحر ومذهل، وأنهم لم يشعروا إلا أنهم يشاهدون “جودي جارلاند” الحقيقية، وتأتي الجوائز العالمية لتنتصر لرأي المشاهد بما حصده الفيلم من جوائز وبما ينتظره من جوائز بمهرجانات سينمائية عالمية.
فيلم “جودي” JUDY والذي بدأ عرضه بدور السينما في أمريكا وبريطانيا في سبتمبر من العام الماضي 2019 بعد حصاده العديد من الجوائز العالمية ومن بينها جائزة “جولدن جلوب” في 5 يناير 2020 عن الآداء الساحر للممثلة “رينيه زلويجر – Renee Zellweger” مرشح أيضاً لجائزتي أوسكار بحفل الأوسكار في 9 فبراير 2020، وربما يكون أول ترشيح هو جائزة الأوسكار لأحسن أداء في دور رئيسي للممثلة “رينيه زيلويجر” التي لعبت دور شخصية الفيلم المحورية نجمة الغناء والتمثيل الشهيرة “جودي جارلاند”، أما ترشيح الأوسكار الثاني لهذا الفيلم فسوف يكون من نصيب “فن المكياج” البارع، والذي جعلنا إلى جانب الأداء الرائع للممثلة “زلويجر” لا نرى “رينيه” في “جودي” بل رأينا “جودي جارلاند” في “رينيه زلويجر”، وكذلك نال الفيلم ترشيحاً لثلاث جوائز من أكاديمية الفيلم البريطاني BAFTA في الثاني من فبراير 2020 عن الأداء التمثيلي ، والملابس ، والمكياج.
جدير بالذكر أن الممثلة “رينيه زلويجر” فازت بجائزة الأوسكار عام 2004 كأحسن ممثلة في دور مساعد عن دورها في فيلم الجبل البارد Cold Mountain مع النجمة “نيكول كيدمان” والنجم “جود لو” ، كما تم ترشيحها لجائزة الأوسكار مرتين من قبل كأفضل ممثلة في دور رئيسي في عام 2002 عن فيلم مذكرات بريدجيت جونز مع النجمين “هيو جرانت” و “كولن فيرث”، وفي عام 2003 عن فيلم شيكاغو Chicago مع النجم “ريتشارد جير” والنجمة “كاترين زيتا جونز”، وتلك هي المرة الثالثة لترشيح الممثلة “زلويجر” في حفل جوائز الأوسكار في 9 فبراير 2020 كأفضل ممثلة في دور رئيسي عن آدائها لشخصية جودي جارلاند في فيلم جودي JUDY.
كما يجدر بالذكر أيضا أن “جودي جارلاند” نفسها رشحت لجائزة الأوسكار مرتين في عامي 1955 و 1962 ، ونالت جائزة الأوسكار عام 1940 كحصاد عن أدائها بوجه عام عن مجمل الأعمال التي شاركت بها في عام 1939، كما لا يعلم الكثيرون أن الممثلة الشهيرة “ليزا مينيللي – Liza Minnelli” الحاصلة على جائزة الأوسكار عام 1973 عن دورها في فيلم “كباريه” هي الإبنة الكبرى للنجمة “جودي جارلاند” من زوجها المخرج “فينسنت مينيللي” الحاصد كذلك جائزة الأوسكار عام 1959 عن إخراجه لفيلم “جيجي Gigi “.