تعرف على سر بكاء وانهيار (صلاح السعدني) بسبب (أيام الرعب)!
كتب : أحمد السماحي
كان النجم المبدع (صلاح السعدني) الذي رحل عن عالمنا أمس يمتلك وجها نراه كثيرا في الحواري المصرية، وفى الأحياء الشعبية المكتظة بالسكان، وجهه يذكرك بأنه لعب الكرة الشراب معك في الشوارع، وجرى معك وراء عربات الرش.
وتعارك مع (طوب الأرض) حتى اكتسب شقاوة وشيطنة، فوجه (صلاح السعدني) وجه مصري وديع، ولديه ابتسامة تشع من القلب، وصاحبنا صاحب هذا الوجه على مدى 60 عام في أحلامنا وأمانينا وإحباطنا.
عداء بسبب شقيقه (محمود السعدني)
لم يكن طريق (صلاح السعدني) الفني مفروشا بالورود، ولكنه حفر فى الصخر، وورث عداء كثير من المسئولين عن الفن في سبعينات القرن الماضي بسبب المواقف السياسية لشقيقه الكاتب الكبير (محمود السعدني).
وأسدلوا عليه ستارا من الأهمال والنسيان انتقاما من شقيقه، لكنه رغم الإهمال، والنسيان، والإرهاق الشديد، نجح بقوة حيث كان صادقا مع نفسه وقدم أعمالا تشبهه، ففى أعماله لا تشعر بالغربة تحس بالواقع.
وتلمس مشاكلك، وتصدق ما تراه، فأعماله تجيد العزف على المشاعر، وتتطرق لأدق التفاصيل الإنسانية، ومن خلالها نسج لنا أعمالا تحولت مع الأيام إلى علامات بارزة فى تاريخ الفن المصري.
(صلاح السعدني).. والأرض
من ينسى له بدايات المشوار من خلال مسلسلات (هارب من الأيام، لا تطفئ الشمس، خماسية الساقية، القاهرة والناس، عادات وتقاليد).
ومسرحيات (لوكاندة الفردوس، زهرة الصبار، معروف الإسكافي، السكرتير الفني)، وأفلام (زوجة بلا رجل، والحب والثمن، والأرض، وشياطين الليل، أغنية على الممر، شقة في وسط البلد).
وفي هذه الأعمال التى كان دوره فيها أقرب إلى الكومبارس لم يبتعد (صلاح السعدني) عن الطبقة الاجتماعية المتوسطة والبسطاء والمهمشين، ومن خلالها لفتت الأنظار إلى موهبته.
بعدها قدم أدوار كبيرة إلى حد ما ومهمة في مسلسلات (الليلة الموعودة، الشوارع الخلفية، غريب في المدينة، أبنائي الأعزاء شكرا، صيام .. صيام، الشاهد الوحيد، ولسه بحلم بيوم، وقال البحر، أبواب المدينة، أديب، عصر الحب).
ثم في مرحلة أخرى قدم (فوزية البرجوازية، قضية عم أحمد، الزمار، الموظفون في الأرض، الزوجة أول من يعلم، ملحمة الحب والرحيل، ثلاثية نجيب محفوظ، سنوات الغضب) وغيرها.
ولم تتوقف موهبة (صلاح السعدني) الفياضة عند هذه المرحلة التى كان يمكن أن ترضي غرور أي فنان آخر، لكنه واصل مشواره حتى كان موعده مع النجومية الكاملة من خلال العمدة (سليمان غانم) في رائعة (ليالي الحلمية).
فى هذا الدور صال وجال بين التراجيديا والكوميديا، وكان أدائه جامحا كالسيل الهادر الذي لا يوقفه حاجز.
وتوالت أدوار النضج مثل (أرابيسك، حلم الجنوبي، جسر الخطر، نقطة نظام، وجع البعاد، الأصدقاء، أرض الرجال، حارة الزعفراني، الناس في كفر عسكر، رجل في زمن العولمة، للثروة حسابات أخرى، أوراق مصرية، القاصرات) .
وفي السينما (شحاذون ونبلاء، كونشرتو درب سعادة، درب الرهبة، ملف في الآداب، ليه يا دنيا، تحت الصفر، المراكبي)، وفي المسرح (الملك هو الملك، اتنين في قفه، الدخان، باللو) وغيرها.
وفى كل هذه الأعمال وغيرها سواء في المسرح أو السينما أو التليفزيون منح (صلاح السعدني) ملايين المشاهدين العرب فرصة المتعة البصرية وهم يتابعون أعماله المشغولة على نبض أحلامهم وأمالهم وانكساراتهم .
سر بكاء وانهيار (صلاح السعدني)
من أول أعماله الفنية التى قدمها عام 1967 السهرة التليفزيونية (أيام الرعب) قصة الأديب جمال الغيطاني، إخراج يحيي العلمي، وفي هذه السهرة بكى( صلاح السعدني) بقوة وانهار من البكاء.
عن سر بكاء وانهيار (صلاح السعدني) يحدثنا المخرج (يحيي العلمي) فى كتابه (أيام تليفزيونية) فيقول: في نهاية الستينات كنت مبهورا بظهور الموجات الجديدة في السينما العالمية، حيث التلقائية في التعبير عن الأحداث والمشاعر، وحيث التداخل بين الزمن والخاطر والحدث.
والمزج بين الواقع والحلم، والتنقيب وبعمق للبحث عن لحظة (التلبس) الإنساني فكرة أو شعورا.
وحينما قرأت قصة (أيام الرعب) للأديب الشاب (جمال الغيطاني) أحسست أنني أضع يدي على تجربة مصرية تواكب هذه الموجات الجديدة دون أن تقلدها أو حتى تتأثر بها.
فقررت تحويلها إلى سهرة تليفزيونية في نهاية الستينات، وتحديدا بعد نكسة يونيو 1967 بأيام، وقام ببطولة السهرة الفنان الشاب اللامع في هذا الوقت (صلاح السعدني) الذي كان يخطو خطواته الأولى.
ولا زلت أذكر بعض المشاهد من قصة (أيام الرعب) بعد أن حولتها إلى تمثيلية تليفزيونية.
ويقف في نهايتها (صلاح السعدني)، وسط ميدان الحسين، وهو يحمل بطاقته في يده يصرخ وسط ضجة المولد برقمها دون أن يذكر اسمه، ينبه تلك الجماهير التى استغرقتها ضجة المولد وأحداثه بأن (عويضة) لا يزال يتربص ببندقيته.
والخوف كل الخوف أن يطلق الرصاص في ظهورهم غدرا وغيلة، كان ذلك في أعقاب نكسة عام 1967 ولم نكن قد أخذنا بثأرنا القومي.
ارتجاف جسد (صلاح السعدني)
ولا زلت أيضا أذكر ذلك المشهد قبل الأخير من التمثيلية حينما أحس بطل القصة (صلاح السعدني) كأنه محاط بالآلف من الوجوه كلها تحمل الملامح البشعة لـ (عويضة) الذي يرمز ليد البطش والغدر.
وآلاف من فوهات البنادق تحاصره كأنها قضبان زنزانة من الجحيم، فلم يجد له من ملاذ يهرب إليه سوى ضريح الحسين سيد شباب شهداء الجنة يذرف أمامه الدموع يطلب منه أن يتشفع له.
وأن يحميه من (عويضة) وكأنما يستدعي لذاكرته وذاكرتنا ما حدث له حين تكاثرت عليه حراب الغدر وسيوف الضلالة.
لا زلت أذكر دموع (صلاح السعدني) التى انفجرت من عينيه، وارتجافة جسده الشديدة، وكأنما اصابته الحمى، ثم ذلك الانهيار الذي وصل الى حد الإغماء فور انتهائه من المشهد.
وسط دموع التأثر فى عيون جميع الحاضرين بالاستديو، كانت الهموم واحدة، والأحزان مشتركة، ولم يكن (صلاح السعدني) يؤدي كلمات حوار بل كانت الكلمات تخرج منه كما كتبها (جمال الغيطاني) ممزوجة بأشجان اللحظة في نفوسنا جميعا في ذلك الزمان.
وحتى نخرج (صلاح السعدني) من حالة الاكتئاب والانهيار التى مر بها اصطحبته أنا و(جمال الغيطاني) وخرجنا نبحث عن نسمات ترطب النفس فى ليل القاهرة المظلم.
وأحزان يونيو لم يمر عليها أكثر من أسابيع، والأضواء زرقاء كابية، ومياه النيل ساخنة حارقة كأنها بالفعل دموع (إيزيس) الباحثة عن أشلاء حبيبها (أوزوريس).
ويختم العلمي قصته فيقول: كنا قد وصلنا بخطواتنا المتثاقلة إلى قرب مبنى الجامعة العربية، وكان هناك عمل نشط لإنشاء نفق وكوبري كمال صلاح الدين.
همس أحدنا في حزن قاهر: ما فائدة هذا الإنجاز؟ وهل نكف عن ممارسة الحياة؟ صاح ثلاثتنا بإصرار وكأنما تباشير أكتوبر تولد داخل العروق: هذا الإنجاز لمصر المستقبل.
ولأبناء الرجال الذين يقفون هذه اللحظات خلف الخنادق على ضفاف القناة وعيونهم تبرق في الظلام تعرف الهدف، وتصوب إليه المدفع والبندقية، ولن تطول بهم (أيام الغضب) فأيام الانتصار قادمة لا محالة مع شروق الشمس.