



بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة
ربما يبدو متأخرا أن أكتب عن مسلسل (لينك) لكني آثرت ألا يمر مرور الكرام كغيره من مسلسلات موسم الشتاء الحالي – في غالبها تحتوى مسلسلات لاترقى إلى مستوى الدراما الحقيقية – لكن (لينك) كما يبدو لي: دراما اجتماعية جيدة بمقاييس اللحظة، خاصة أنه بتوقيع الفنان الكبير (سيد رجب)، المعروف بنمطية أدائه الواضح، حيث يكرر طريقته في التجسيد الدرامي سيرا على ذات الدرب.
مالفت نظري في مسلسل (لينك) هو بحثه الموسع في رحلة البحث عن العدالة في العصر الرقمي، ذلك العصر الذي يموج بالتحولات الكبري في أساليب التحايل والنصب والسرقة، فحين يتحول الرابط المجهول إلى كابوس أسري، لابد لنا أن ننتبه إلى تلك الأخطار التي تحدق بنا، خاصة أن جميعنا يحمل الموبايل ويعبث به دون إدراك لما يمكن أن يقع من كارثة تمحو (شقى عمره) في غيبة من وعينا.
لم يكن مسلسل (لينك) مجرد عمل ترفيهي عابر، بل شكلت أحداثه – على قدر إثارتها وتشويقها – مرآة عاكسة لإحدى أخطر القضايا المستجدة في المجتمع المصري والعربي: قضية النصب والاحتيال الإلكتروني، وكيف تتشابك خيوطها لتمتد وتؤثر بعمق على النسيج الاجتماعي والروابط الأسرية.
في قلب الأحداث يقف (بكر) الشخصية التي يجسدها الفنان الكبير (سيد رجب) بعمق وتميز معهودين، وهو موظف بسيط بلغ سن المعاش، يمثل الجيل الذي نشأ على قواعد وأعراف تقليدية، ولا يملك أدنى دراية بعالم التكنولوجيا المعقد، لدرجة أنه يرفض امتلاك هاتف محمول في البداية.. كان حلمه الوحيد هو أن ينعم بالسلام والهدوء مستثمرا مكافأة نهاية الخدمة التي تمثل خلاصة عمره في مشروع يدر عليه دخلا معقولا يعينه على أعباء الحياة.
لكن هذا السلام سرعان ما يتبدد في جزء من الثانية، فبمجرد ضغطة خاطئة على (لينك) إلكتروني مشبوه، يسلب (بكر) كل ما يملك في حسابه البنكي.. هذه اللحظة المفصلية ليست مجرد سرقة مالية، بل هى نقطة تحول جذرية تحوله من مواطن مسالم يحلم بالتقاعد إلى بطل مضطر لخوض معركة شرسة في عالم لا يفهمه، بحثا عن العدالة في حد ذاتها لا مجرد المال المسروق من حسابه.


اختيار (سيد رجب) للدور
يبدو واضحا أن مجرد اختيار (سيد رجب) لهذا الدور هو رهان ناجح، فبقدرته على تجسيد الشخصيات البسيطة المتخبطة والمغلوبة على أمرها، والتي تحمل في طياتها حكمة وصمودا غير متوقعين، استطاع أن يخلق تعاطفا كبيرا مع (بكر)، الذي يمثل شريحة واسعة من الآباء والأمهات الذين يقعون ضحايا للاحتيال الرقمي، بعدما أصبح ظاهرة في عالم اليوم المعقد بتقنيات مرعبة.
في خلال الأحداث التي تتسم بالإثارة والتشويق، لا تكتمل رحلة (بكر) بمفرده، فسرعان ما يجد شريكته غير المتوقعة في البحث عن العدالة، وهى جارته (أسماء)، التي تلعب دورها (رانيا يوسف).
و(أسماء) هذه هى شخصية مختلفة تماماً عن (بكر)؛ فهى على قدر معقول من الدراية بعالم التكنولوجيا، ولكنها هى الأخرى تقع ضحية لعمليات الاحتيال، وتجد نفسها في خلاف مستمر مع (بكر) بسبب الطباع المتناقضة.
تدور أحداث مسلسل (لينك) كما شاهدت، بشكل سلسل ومريح إلى حد كبير، لتبني تحالفا غير متوقع بين الجارين (بكر، أسماء)، فبعد سلسلة من الخلافات والمواقف الطريفة والمشحونة بالكوميديا اللايت، يدرك كل منهما أن مصيرهما مرتبط ببعضهما البعض.
وفي الحقيقة فإن أداء (سيد رجب)، و(رانيا يوسف) – على قدر مبالغتها في لغة الجسد التي تحمل إيحاءات ما، وكذلك الملابس غير المناسبة للشخصية – إلا أنهما شكلا ثنائي حمل في طيات الأحداث مزيجا دراميا غنياً: (بكر) يمثل الخبرة الحياتية والاجتماعية المفقودة في العصر الحالي، وأسماء تمثل الوعي المحدود بالتحديات الرقمية.
جرت الأحداث على نحو جيد، خاصة بمزج المواقف الكوميدية مع عناصر الإثارة والتشويق في رحلة البحث عن (الهاكر) الحقيقي، وبمساعدة شاب متمكن من الاختراق الإلكتروني – أداه ببراعة الممثل الموهوب بقوة (مينا أبو الدهب) – تكشف لهما وللمشاهدين أسرارا وتفاصيل معقدة حول عالم الجريمة الرقمية المنظم.
طني أن ما يميز مسلسل (لينك) هو رفضه الاقتصار على الخط الدرامي التقني، بل استخدم قضية النصب الإلكتروني كمدخل واسع لفتح أبواب العديد من المشكلات الاجتماعية التي تواجه الأسرة المصرية في إطار دفء علاقات الجيرة، كما جاء في علاقة (حسني) الجار المسيحي مع جيرانه، وجسده بنعومة (ماجد القلعي)، وكذلك مواقف المحامي (سعد محراب) المتناقضة، والذي جسده ببراعته المعهودة الفنان الكبير (أحمد صيام).


التباين في فهم التكنولوجيا
أجمل في مسلسل (لينك) هو أنه سلط الضوء على التباين الشديد في فهم التكنولوجيا بين جيل الآباء والأبناء، فنحن نرى الابن الأصغر زياد (سليم الترك) غارقا في عالم السوشيال ميديا و(التيك توك)، في حين كان يعتري والده بكر شعورا داخليا برفض هذا العالم تماما، وهو ما أكد حدسه بعد ذلك عندما اكتشف تورط (زياد) مع عصابة النصب التي ابتلعت فلوس والده.
هذا التباين خلق نوعا من الصدام الحتمي، بل إنه يظهر كيف أن الإفراط في استخدام التكنولوجيا أو رفضها بشكل مطلق يؤدي إلى فجوة كبيرة داخل البيت الواحد، وعلى جانب آخر من الشأن الاجتماعي، يبرز المسلسل تحديات الابنة سعاد (فرح الزاهد) في التوفيق بين حياتها الشخصية ومحاولة دعم والدها في أزمته.
ولم تقتصر القضايا المطروحة في مسلسل (لينك) على الخلافات التقليدية، بل امتدت لتلامس قضايا أكثر عمقا، مثل الإدمان الذي يواجه بعض الشباب في العمل، كذلك طرح المسلسل نماذج لشباب لديهم طموحات مفرطة تدفعهم إلى طرق ملتوية خاطئة، وكيف يمكن أن تتحول هذه الطموحات إلى مشكلات حقيقية.
مع توالي حلقات مسلسل (لينك)، يتضح أن القضية ليست مجرد عملية احتيال فردية، بل هى خيط في شبكة إجرامية أوسع، ونجح المؤلف والمخرج في صناعة حبكة درامية من خلال رحلة (بكر وأسماء) في كشفهم عن (الرأس الأكبر) الذي يقف وراء هذه العمليات، وهو ما يؤكد حقيقة أن الجريمة الرقمية أصبحت تجارة منظمة عابرة للحدود والأجيال، مما أضاف للعمل بعدا بوليسيا وتشويقيا قويا من جانب المخرج تحديدا.
ومن هنا يحسب للمخرج (محمد عبد الرحمن حماقي) قدرته على الحفاظ على إيقاع المسلسل متوازنا طوال الوقت، يجمع بين اللحظات الدرامية الثقيلة واللمسات الكوميدية الخفيفة التي تلطف الأجواء دون أدنى شعور بالملل، وذلك على الرغم من أن الموضوع جاد جدا ويتعلق بكارثة مفزعة، إلا أن المعالجة الفنية لم تجعله كئيبا، بل حافظت على عنصر التشويق من خلال التصاعد البطيء والمدروس للأحداث بعناية فائقة.
أعتقد أن مسلسل (لينك) حقق نجاحا ملحوظا ضمن موسم الشتاء، وهو ما يؤكد أن جودة المحتوى وقضاياه التي تلامس الشارع قادرة على جذب الجمهور بعيدا عن مواسم الذروة الرمضانية، كما أن مشاركة نخبة من النجوم المخضرمين والشباب، مثل (ميمي جمال، ومحمود ياسين جونيور، ومينا أبو الدهب)، أثرت العمل وأعطته ثقلا فنيا كبيرا.
ولابد لمشاهد مسلسل (لينك) أن يلحظ أن نهاية الموسم الأول منه في الحلقة (30)، نجاح (بكر وأسماء) في الإيقاع ببعض المتورطين (منصور ورأفت) واستعادة الأموال، في خط نهاية سعيدة نسبيا للعديد من الخطوط الدرامية (زواج إياد وسلمى، تعافي علاء من الإدمان).

(بيومي فؤاد) في المشهد الأخير
لكن المسلسل لم يختتم مسيرته عند هذا الحد، بل فجر مفاجأة درامية كبيرة بظهور النجم (بيومي فؤاد) في المشهد الأخير، ليعلن عن نفسه بأنه هو (الرأس الأكبر) لشبكة النصب، مهددا بكر بشكل مباشر، ومعلنا صراحة عن وجود جزء ثان للمسلسل.
هذه النهاية المفتوحة في (لينك) هى بمثابة (اشتباك) درامي ذكي، يضمن استمرارية الاهتمام بالعمل، ويعد الجمهور بصراع جديد ومحتدم في الموسم القادم، حيث ينتقل الصراع من مجرد البحث عن النصابين إلى مواجهة منظمة إجرامية تقف وراءها قوى خفية وأكثر خطورة.
ومن هنا يعد مسلسل (لينك) عملا دراميا ناجحا، لأنه لم يتعامل مع قضية النصب الإلكتروني كمجرد حدث إجرامي عابر، بل كعرض لخلل اجتماعي أعمق.. لذا نجح الفنان الكبير( سيد رجب) وطاقم العمل في تقديم قصة تحذيرية بامتياز، تلفت انتباه المشاهد وتجبره على التفكير في أمنه الرقمي وعلاقاته الأسرية في ظل التحديات الرقمية التي تزحف على حياتنا الحالية.
وأهم ما في مسلسل (لينك) على الإطلاق أنه عمل درامي يقدم رسالة واضحة: في عصر أصبح فيه رابط واحد (لينك) قادرا على تدمير حياة شخص بالكامل، ويؤكد في الوقت ذاته: أنه لم تعد الدراما التلفزيونية مجرد متعة، بل أصبحت وسيلة فعالة لتوعية الجمهور وتحفيزهم على الحذر والبحث عن العدالة في أي وسيلة كانت.
كما أن مسلسل (لينك) يؤكد بما لايدع مجالا للشك قدرة الدراما المصرية على مواكبة المستجدات الاجتماعية والتكنولوجية وتقديمها في قالب فني رفيع ومسؤول، لكن هذا يظل مرهونا بأن يكون الورق جيدا والمخرج على قدر من الوعي، ومن ثم يصبح أمام الممثل مسئولية أن يصيب الإبداع الحقيقي، كما جاء في هذا المسلسل.