بقلم الكاتب السوري: عامر فؤاد عامر
تحلّ في الرابع والعشرين من ديسمبر/ كانون الأوّل الذكرى الثامنة والعشرون لرحيل الفنّان العربي السوري الكبير (فهد بلان)، أحد الأصوات الاستثنائيّة التي عرفها الغناء العربي في القرن العشرين، وصاحب التجربة الفنّيّة التي ما تزال حتّى اليوم حاضرة بقوّة في الذاكرة السمعيّة للجمهور العربي من المحيط إلى الخليج.
لم يكن (فهد بلان) مطرباً عابراً في مسيرة الغناء العربي، بل كان ظاهرة صوتيّة متكاملة، اجتمعت فيها القوّة والاتساع والتميّز اللوني، إلى جانب حضور إنساني واجتماعي جعله قريباً من الناس، ومعبراً صادقاً عن وجدانهم الشعبي والوطني في آنٍ واحدٍ معاً.
صوت نادر بشهادة الكبار
أجمع موسيقيون ونقاد عرب وأجانب على فرادة صوت (فهد بلان).. فقد صرّح أحد المستشرقين الغربيين المتخصصين في دراسة الأصوات الغنائيّة أن صوت (فهد بلان) يُعدّ من بين أقوى خمسة أصوات غنائيّة في العالم خلال القرن العشرين، من حيث الجهوريّة، والمساحة الصوتيّة، والقدرة على الانتقال السلس بين القرار العميق والجواب العالي.
أمّا الموسيقار المصري الراحل (سيد مكاوي) فقد لخّص عبقريّة هذا الصوت بقوله: (أنت تعطي فهد بلان اللحن شجرة عارية، فيعيده إليك مزهواً بأجمل الأزهار).
فيما رأت كوكب الشرق (أم كلثوم) أن (فهد بلان) يمثّل (لوناً جديداً وأداءً جديداً ومغنىً جديداً في الغناء العربي)، وهو توصيف نادر حين يصدر عنها.
كما اعتبر موسيقيون أكاديميون أن (فهد بلان) أحدث انقلاباً في الذائقة الغنائيّة، حين كسر نمط الشكوى والأنين الذي سيطر طويلاً على الأغنية العربيّة، وطرح بديلاً قائماً على القوّة والرجولة والاعتزاز، وهو ما استساغه الجمهور العربي وارتاح له.
المساحة الصوتيّة والمعجزة التقنيّة
من الناحية الموسيقيّة البحتة، امتلك (فهد بلان) مساحة صوتيّة واسعة تصل إلى أوكتافين كاملين يؤديهما براحة وانسيابيّة، مع قدرة استثنائيّة على النزول إلى طبقات منخفضة جدّاً (الباص) والصعود إلى أعلى الجواب من دون فقدان السيطرة أو الجماليّة الصوتيّة.
وفي بعض أعماله، ولا سيّما أغنية (يا صلاة الزين)، قدّم ما وصفه الموسيقيون بـ (المعجزة الصوتيّة)، حين جمع في الجملة اللحنيّة الواحدة بين طبقتي التينور والباص في آن واحد معاً، وهو أمر نادر للغاية في الغناء العربي، وأثار دهشة الملحنين والنقاد المتخصصين في فيزيولوجيا الصوت.
استطاع (فهد بلان) أن يفرض لوناً غنائيّاً جبليّاً افتقدته الساحة العربيّة قبل ظهوره، وذلك من خلال تعاون طويل ومثمر مع الملحن الراحل (عبد الفتاح سكر)، ثمّ مع نخبة من كبار ملحني الوطن العربي، منهم: (بليغ حمدي، فريد الأطرش، محمد الموجي، سيد مكاوي، محمود الشريف، فليمون وهبي، ملحم بركات) وغيرهم.
وقد أبدى هؤلاء الملحنون ارتياحهم الكامل في العمل مع (فهد بلان)، لثقتهم بقدرته على أداء مختلف القوالب الغنائيّة، من الأغنية الشعبيّة والقصيدة إلى الموشّحات والأناشيد الوطنيّة والأهزوجة التراثيّة، من دون أن يفقد صوته هويّته الخاصّة.
حضور إنساني وجماهيري
لم يكن (فهد بلان) صوتاً قويّاً فحسب، بل كان شخصيّة كاريزماتيّة محبوبة، تمتزج فيها البساطة بخفّة الظلّ والكرم والصدق. شارك الناس أفراحهم وأعراسهم، وغنّى للريف والجبل والسهل والصحراء، فصار نجماً اجتماعيّاً بقدر ما كان نجماً فنّيّاً.
إلى جانب الغناء، خاض فهد بلان تجربة السينما، وشارك في بطولة عشرة أفلام سينمائيّة إلى جانب نجمات الصفّ الأوّل مثل: صباح، مريم فخر الدين، نجاح سلام، سميرة توفيق، وغيرها.. كما شارك في بطولة مسلسل لبناني بعنوان «أنا أنت»، ما ساهم في توسيع قاعدته الجماهيريّة عربيّاً.
إرث لا يُختزل
في الذكرى الثامنة والعشرين لرحيله، يبدو واضحاً أنّ اختزال تجربة (فهد بلان) في بضع سطور يُعدّ إجحافاً بحقّ فنّان شكّل ركناً أساسيّاً من أركان الغناء العربي الحديث.. فقد كان بحقّ سفير الأغنية السوريّة إلى العالم العربي، وصوتًا استثنائيّاً سيظلّ حاضراً في الوجدان العربي، مهما تغيّرت الأذواق وتبدّلت الأزمنة.
* المعلومات الواردة أعلاه من الأستاذ عماد بلان ابن أخ الراحل فهد بلان.