


بقلم الكاتب والناقد: محمد الروبي
في مقالي السابق، وكان عنوانه (على هامش فيلم الست.. الدراما حين تقترب من الذاكرة) لم أكن بصدد محاكمة عمل بقدر ما كنت أتحسس حدود الاقتراب من التاريخ، على مستوى(التحريف الواعي)، خاصة حين يكون هذا التاريخ قريبًا بما يكفي لأن ما زال صوته يتردد في الذاكرة.
هناك توقفت عند القلق، لا الحكم، وعند السؤال، لا الإجابة؛ عند تلك المسافة الدقيقة التي تفصل بين حق الدراما في التأويل، وحق الذاكرة في ألا تُخدَع.
وها أنا أعود إلى الفيلم نفسه، لا لأكرر ما قيل، بل لأقترب أكثر من منطقة الالتباس، حيث يغوي نصف الحقيقة بأن يبدو كاملًا، بينما هو في جوهره نقيضه. وكما يُقال: نصف الحق كذب كامل.
في البدء لابد من التذكير بأنه حين تقترب الدراما من التاريخ، فإنها لا تدخل أرضًا محايدة.. التاريخ ليس مادة خامًا تنتظر الصياغة، بل طبقات متراكمة من السرد، وصراعات، وسياقات اجتماعية وسياسية وثقافية معقدة.. ومنذ اللحظة الأولى، يجد صانع العمل نفسه أمام سؤال لا فكاك منه: هل يعيد تمثيل الوقائع كما كانت، أم يعيد تركيبها وفق منطق الفن؟

نصف حق يُقدَّم بوصفه الحقيقة
هنا يظهر ما يمكن تسميته بـ (التحريف الواعي)، تحريف لا يولد من الجهل، بل من الاختيار.
(التحريف الواعي)، في جوهره، ليس جريمة فنية. فالسينما لا تبحث عن الحقيقة الوثائقية، بل عن الحقيقة الإنسانية، تلك التي تُستخرج من ضغط الزمن، ودمج الشخصيات، واختراع الحوار، وتكثيف اللحظات. في هذه الحالة، يصبح التحريف أداة للتفكير، لا وسيلة للإخفاء؛ نافذة تُفتح على المعنى، لا ستارًا يُسدل عليه.
لكن المأزق يبدأ حين ينزلق هذا (التحريف الواعي) من كونه فعلًا تأويليًا إلى تشويه درامي. حين لا يعود التغيير خادمًا لرؤية، ولا كاشفًا عن عمق، بل مُراكِمًا لملامح مبتورة، تقتطع الشخصية من سياقها، وتُعرَّى من زمنها، وتُسلَّم لأحكام أخلاقية معاصرة لا تنتمي إليها. عند هذه النقطة، يفقد التحريف شرعيته، ويتحول من أداة إبداع إلى عبء على الذاكرة… إلى نصف حق يُقدَّم بوصفه كل الحقيقة.
من هذا المنظور يمكن قراءة فيلم (الست)، فمأزقه الحقيقي لا يكمن في عدم التزامه بالدقة التاريخية، بل في اتجاه التحريف نفسه. الفيلم يلتقط سلوكيات إشكالية: التدخين، تعاطي الحشيش، التسلط، البخل، الحدة…و..و.. لكنه يعرضها كصفات معزولة، لا كعناصر داخل تركيب إنساني معقد.
أن تُنتزع هذه السمات من سياقها الاجتماعي والوظيفي والنفسي، يعني أن تتحول من مفاتيح للفهم إلى أدوات للتشويه على جناح (التحريف الواعي).
وفي المقابل، يُغفل الفيلم – عمدًا أو إهمالًا – شبكة علاقات كانت جوهر تجربة أم كلثوم: علاقتها بالوسط الفني، بالسلطة، بالتحولات الكبرى في المجتمع المصري. يُمحى التفاعل بين الصوت والسلطة، بين الفن والتاريخ، ويُختزل الكيان كله في إطار نفسي ضيق، كأننا أمام شخصية منفصلة عن زمنها. وهذا الاختزال لا يقل خطورة عن التحريف، لأن حذف السياق هو في ذاته تشويه للمعنى.
هذا الخلل لا يقف فقط عند حدود إرتباك السيناريو وفقدانه للرؤية الحاكمة.. لكنه يتجلى بوضوح أكبر على مستوى الأداء التمثيلي. فأداء منى زكي بدا – في لحظات كثيرة – فاقدًا لروح أم كلثوم، لا لشبهها الخارجي فقط. فبدل البحث عن جوهر الحضور: الثقل، الاقتصاد، السلطة الهادئة، استسهلت اللجوء إلى محاكاة شكلية.
أبرزها الاعتماد على طبقة صوتية مصطنعة، فُرض فيها (تضخيم الصوت) بدل امتلاكه. بل وساهم القناع الذي وضعه الماكييرعلى وجه الممثلة في اتساع هوة الابتعاد عن روح الشخصية.

حق يراد به باطل
الموسيقى المصاحبة جاءت هى الأخرى بمثابة معول أخرفي تعميق هذه الهوة. فهشام نزيه، واضع الموسيقى، يصر – بالاتفاق مع المخرج بالطبع – على أن تطغى موسيقاه على موسيقى أغاني أم كلثوم، وكأن هناك رسالة خفية تُقال للمشاهد: أنت هنا لا لتسمع أم كلثوم، بل لتشاهد ما نريد قوله عنها.. صوتها سيقيد محاولاتنا.. فلنُخفضه، ولتسمع موسيقانا.!
وهنا يطفو السؤال الذي لا يمكن تجاهله: هل يمكن مشاهدة حياة بطلتنا من دون ملمحها الأعظم: صوتها؟
الصوت هنا ليس مجرد أداة، بل هو تاريخ الموسيقى العربية ذاته، بل وملمح أساسي في تاريخ اجتماعي سياسي لهذه الأمة ، وذاكرتها، وامتدادها العاطفي والرمزي.
وفي مواجهة هذا كله، تتكرر حجة الدفاع الجاهزة: (السينما العالمية والعربية مليئة بأعمال لم تلتزم بالتاريخ)، وهى حجة تمثل، بوضوح، الحق الذي يُراد به الباطل.
نعم، هناك أعمال كثيرة حرّفت التاريخ، لكن الفارق الجوهري لا يكمن في الفعل، بل في وظيفته.. فتلك الأعمال لم تُخفِ كونها قراءات وتأويلات، ولم تدّعِ امتلاك الذاكرة النهائية، بل استخدمت التحريف لطرح أسئلة كبرى عن الإنسان والسلطة والعبقرية.
ففيلم (أماديوس) – مثلا – لا يقدم (سالييري) التاريخي، بل (سالييري) الرمزي، تجسيد الإنسان المتوسط في مواجهة العبقرية.. و(الناصر صلاح الدين) – مثلا – لا يستعيد القائد كما كان، بل الرمز كما احتاجه زمن إنتاج الفيلم. في الحالتين، (التحريف الواعي) معلن، ومحمَّل بالدلالة، لا مطروحًا بلا سياق لتبرير تشويه لا ينتج رؤية.
(السينما ليست مطالبة بأن تكون كتاب تاريخ” نعم. لكنها مطالبة بأن تحترم ذكاء المتلقي. والسؤال الحقيقي ليس: هل حرّف الفيلم التاريخ؟ بل: ماذا فعل بهذا (التحريف الواعي)؟
هل كشف طبقة أعمق من المعنى؟ أم اكتفى بإثارة صدمة سطحية؟.. هل أعاد تركيب الشخصية داخل زمنها؟ أم نزعها من سياقها وتركها فريسة لأحكام لاحقة؟
عند هذه النقطة فقط يمكن التمييز بين (التحريف الواعي) بوصفه فعلًا إبداعيًا مشروعًا، وبين (التشويه ) بوصفه عجزًا دراميًا مقنّعًا. والخطر الحقيقي لا يكمن في أن تعيد السينما كتابة التاريخ، بل في أن تفعل ذلك دون رؤية، ودون ضرورة فنية، ودون مسؤولية تجاه الذاكرة الجماعية.
وهنا، تعود المقولة لتفرض نفسها لا كشعار، بل كخلاصة: (نصف الحق، حين يُفصل عن سياقه، لا يصبح نصفًا.. بل يتحول إلى كذب كامل).