
بقلم الناقد الفني: رضا العربي
ليس من السهل أن تمسك بشخصية مثل أم كلثوم دون أن تُتَّهَم فورًا بأنك تجرأت على المقدس، فـ (الست) ليست مطربة فقط، بل دولة وجدانية مستقلة، لها علمٌ من الصوت ونشيدٌ من الذكريات، وحرسٌ جمهوري من العواطف الشعبية. وحين قررت (منى زكي) أن تقترب، لم تقترب كمقلِّدة، بل كممثلة.. وهنا بدأت المشكلة.
(منى زكي)، تلك الممثلة التي تعلّمت باكرًا أن التمثيل ليس حنجرة ولا نبرة، بل روح تدخل جسدًا آخر مؤقتًا، وجدت نفسها في امتحان غريب: أن تمثّل امرأة لا يُسمح لأحد أن يكونها إلا نفسها، حتى بعد الموت.. المطلوب منها أن تكون (أم كلثوم) دون أن تكون أم كلثوم، أن تُشبهها دون أن تُقلّدها، وأن تُرضي جمهورًا لا يريد الرضا أصلًا.
السخرية هنا أن الفيلم لم يُحاكِ الأسطورة، بل حاول تفكيكها.. لم يقدّم (الست) بوصفها صوتًا فقط، بل إنسانة تتعرق، تتعب، تغضب، تحسب حساب الخطوة قبل أن تخطوها.
وهذا ما لم يحتمله البعض؛ لأننا اعتدنا أن نضع الرموز في إطار ذهبي، لا يُمس، ولا يُفكَّر فيه.
لم تخسر (منى زكي) في الفيلم لأنها فشلت، بل لأنها نجحت أكثر مما ينبغي.. نجحت في أن تذكّرنا أن (أم كلثوم) كانت امرأة من لحم ودم، لا تسجيلًا محفوظًا في الإذاعة.. نجحت في أن تُسقِط القداسة قليلًا، وهذا في ثقافتنا جريمة فنية مكتملة الأركان.

السينما ليست حفلة طرب
السخرية الأعمق أن من هاجموا الأداء كانوا يقارنون بين الصوت.. وكأن (منى زكي) ادّعت يومًا أنها ستغنّي (الأطلال).. كانوا ينتظرون معجزة رقمية: أن تتحول ممثلة إلى أسطوانة شمعية، لا إلى كائن درامي.. نسوا أن السينما ليست حفلة طرب، بل حكاية.
الفيلم نفسه بدا كمن يمشي على حبل مشدود بين التبجيل والتشريح.. خائف أن يغضب العشاق، وخائف أن يكذب على الفن.. فجاء مرتبكًا أحيانًا، متحفظًا أحيانًا أخرى، لكنه في جوهره طرح سؤالًا مهمًا: هل نحب (أم كلثوم) لأنها إنسانة عظيمة، أم نحبها لأنها لم تعد إنسانة أصلًا؟
خرجت (منى زكي) من التجربة خاسرة في ميزان السوشيال ميديا، لكنها رابحة في ميزان الفن الحقيقي؛ ذلك الفن الذي يعرف أن الاقتراب من الأساطير لا يتم بالانحناء، بل بالجرأة المهذبة.. وأن السخرية الأجمل ليست في الضحك، بل في كشف تناقضاتنا: نطالب بالفن المختلف، ثم نرجم من يختلف.
في النهاية، لم تمثل (منى زكي) أم كلثوم، بل مثّلتنا نحن.. جمهورًا يريد أن يرى الماضي كما يتذكره، لا كما كان.. وهذا، في حد ذاته، دور يستحق الاحترام، حتى لو قُوبل بالغضب.