رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

رضا العربي يكتب: (يحيى عراقي).. الصوت الذي توضّأت به الأرواح

رضا العربي يكتب: (يحيى عراقي).. الصوت الذي توضّأت به الأرواح
صوته يجمع بين الحنين والجرح، بين الفرح المبلّل بالدموع
رضا العربي يكتب: (يحيى عراقي).. الصوت الذي توضّأت به الأرواح
رضا العربي

بقلم الناقد الموسيقي: رضا العربي

هناك أصواتٌ لا تُولد في الحنجرة، بل تتسلّل أولًا من مكانٍ أبعد بكثير؛ من نقطةٍ خفيّة في الروح، كأنها قادمة من ذاكرةٍ قبل الوجود. ومن بين هذه الأصوات يجيء (يحيى عراقي)، ذلك المطرب الذي لا يغنّي فقط، بل يمارس فعلًا يشبه التلاوة، ويشبه الاعتراف، ويشبه أن يفتح نافذةً سرية في قلب سامعه ليُطلّ منها على نفسه.

(يحيى عراقي) ليس فنانًا عابرًا في طريق الأغنية، بل هو أثر.. والأثر لا يزول.

هو حالة شعورية كاملة، من النوع الذي لا يمكنك أن تصفه بعبارة واحدة؛ لأن صوته يجمع بين الحنين والجرح، بين الفرح المبلّل بالدموع، وبين البساطة التي تحمل وراءها عُمقًا يشبه عُمق النيل حين يبدو هادئًا بينما تحته حياة لا تُحصى.

رضا العربي يكتب: (يحيى عراقي).. الصوت الذي توضّأت به الأرواح
حين يغنّي (يحيى عراقي) تشعر أن الأرض نفسها تفتح أبوابها القديمة

روح قادمة من رحم الأرض

حين يغنّي (يحيى عراقي) تشعر أن الأرض نفسها تفتح أبوابها القديمة، تلك التي خبّأت فيها خطى العابرين، ودموع الأمهات، وضحكات العشّاق تحت النخيل.

في صوته طميٌ من ضفاف الريف، ورائحة بيوتٍ طينية شهدت حكايات الحبّ الأول، وحنين كأنه خارجٌ لتوّه من فناء قديم في قرية بعيدة، حيث الزمن لا يركض، بل يمشي على مهل وكأنه يخشى أن يوقظ أحدًا من حلمه.

لا يغنّي (يحيى عراقي) ليصنع مجدًا، بل يغنّي ليُسكِن شيئًا مضطربًا في الداخل.

إنه ليس مؤديًا؛ إنه حامل رسالة، يضعها بين يدي المستمع ثم يتركه وحيدًا مع نفسه… وأجمل الفن هو ذلك الذي يعيد الإنسان إلى ذاته.

الفنانون كثيرون، لكن الصادقين قِلّة.. والمدهش في (يحيى عراقي) أنك حين تسمع أغنيته تشعر أنه لا يمثل المشاعر، بل يتركها تُملي عليه كيف يغنّي.. لا ينكسر، لكنه ينحني قليلًا، كما تنحني الشجرة لتحفظ ثمرها من الرياح.

هناك جرح قديم في طبقة صوته، جرح ليس ضعفًا بل علامة حياة؛ كالفجوة الصغيرة التي تُبقي الباب قابلًا للفتح، وكالندبة التي تُذكّر بجمالٍ سابق لم ينطفئ.

هذه الشفافية هى سرّ جاذبيته؛ لأن المستمع يشعر أنه أمام إنسان، لا أمام نجمٍ مُصطنع.

والناس بطبعهم يحبون الفنان الذي يملك قلبًا قبل أن يملك حنجرة.

رضا العربي يكتب: (يحيى عراقي).. الصوت الذي توضّأت به الأرواح
(يحيى عراقي) يمارس هذا الفهم بصوته؛ كل نغمة عنده تبدو كأنها سؤال وجودي

الفن في أعمق معانيه

ربما لا يعرف الكثيرون أن الفن في أعمق معانيه هو محاولةٌ لفهم الوجود.. و(يحيى عراقي) يمارس هذا الفهم بصوته؛ كل نغمة عنده تبدو كأنها سؤال وجودي:

هل الحب خلاص؟

هل الحنين وطن؟

هل الدموع لغة؟

هل الموسيقى قارب نجاة أم مجرّد مرآة لما نخفيه؟

هو لا يعطي مستمعه أغنية فحسب، بل يعطيه مساحةً للتفكير، وللسفر داخل ذاته، وللنظر طويلًا في المرايا التي يخشاها.

ولأن الفن العظيم لا يتحقق دون لحظة صدقٍ كاملة، تجد (يحيى عراقي) يقدّم نفسه بلا رتوش، بلا ادّعاء، بلا مساحيق.

كأنه يعلن:

(هذا أنا… بكل ضعفي وبكل قوتي).

وهذه الفلسفة الإنسانية هي ما تجعله أقرب إلى القلب من أي حسابات موسيقية.

قد تمر سنوات ولا يظهر في المشهد ضجيجًا أو صخبًا، لكنه يبقى حاضرًا في ذاكرة الناس.

رضا العربي يكتب: (يحيى عراقي).. الصوت الذي توضّأت به الأرواح
يعتمد على بصمة شعورية لا يمكن محوها

بصمة شعورية لا يمكن محوها

حضور (يحيى عراقي) لا يعتمد على أضواء ولا مهرجانات.. بل يعتمد على بصمة شعورية لا يمكن محوها.

هو أشبه بمطرٍ جاء ذات ليلة ومنذ ذلك الوقت ظلّت رائحته في الذاكرة.

وأشبه بيدٍ ربتت على كتفك يومًا في لحظة انهيار، ولم تنسَ إحساس الأمان بعدها.

الفنان الحقيقي هو الذي يتسلّل إلى لحظات الإنسان ويستوطنها بلا استئذان، وهذا ما يفعله (يحيى عراقي).

لأن صوته يحمل شجنًا لا يشبه أحدًا، ودفئًا يشبه الجميع.

ولأن أغنيته ليست سلعة؛ إنها حكاية.

ولأنه لا يتصنّع الحكمة، لكنه يعيشها:

يبثّ للناس طاقةً تشبه الأبوة الحانية حينًا، وتشبه صداقة العمر حينًا آخر، وتشبه العاشق القديم الذي لا يزال يحتفظ برسالة ورقية في درج خشبي.

الناس لا تتعلق بالفنّان فقط… بل تتعلق بالشعور الذي يخلّفه فيها.

و(يحيى عراقي) يترك في المستمع شيئًا يشبه أثر اليد على الرمل… أثرًا لا يمحوه إلا الزمن، وحتى الزمن أحيانًا يعجز.

يمكن أن نقول ببساطة إن أغنية (يحيى عراقي) ليست أغنية بل صلاة،

وإن صوته ليس صوتًا بل وطن شعوري،

وإن حضوره ليس حضورًا بل عزاءٌ دافئ لقلوبٍ متعبة.

رضا العربي يكتب: (يحيى عراقي).. الصوت الذي توضّأت به الأرواح
الصوت الذي يجعلنا ننتبه أننا نملك قلوبًا، وأن القلوب يمكن أن تُشفى بالموسيقى

صوتٌ يُنقذ الروح

هو مدرسة من الهدوء، ومن الحكمة البسيطة التي تأتي من الحياة لا من الكتب.

وفنه رسالة حبّ طويلة، مكتوبة بحبر الشجن ومرسلة إلى كل قلب ضائع يبحث عن مرفأ.

في زمنٍ أصبح الصوت فيه صدى لا معنى له، يبقى يحيى عراقي هو الصوت الحقيقي… الصوت الذي يجعلنا ننتبه أننا نملك قلوبًا، وأن القلوب يمكن أن تُشفى بالموسيقى، ويمكن أن تحكي من خلال أغنية ما لا تستطيع أن تحكيه بالكلام.

يحيى عراقي ليس مجرد مطرب…

إنه تجربة إنسانية، ورحلة داخل الذات، ومرآة صافية تعكس ما نخفيه، وفنّان من طراز نادر يعرف أن الجمال في الصدق، وأن العُمق في البساطة، وأن الموسيقى ليست ترفًا بل خلاصًا.

إنه صوتٌ يُنقذ الروح حين تتعب، ويفتح بابًا صغيرًا نحو النور حين يشتد الليل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.