عصام السيد يكتب: هل تحولنا إلى (قطيع إلكتروني)؟

بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
في بداية هذا القرن – و بالتحديد في عام 2008 – بدأ صعود عمالقة التكنولوجيا مثل جوجل وأمازون وفيسبوك ، ليبدأ تحول الفضاء الإليكتروني من منصّة معرفة وتواصل إلى بنية تحتية شاملة تتحكم في سلوكنا، حينها صدر كتاب (قطيع إلكتروني) للكاتب والمفكر الأمريكى نيكولاس كار (Nicholas Carr) أكثر الأصوات الفكرية تأثيرًا في نقد التكنولوجيا الحديثة.
حيث كتب قبلها في (هارفارد بيزنس ريفيو، ونيويورك تايمزـ ووول ستريت جورنال)، واشتهر بمقالته الشهيرة (هل تجعلنا جوجل أغبياء؟) التي أثارت ضجة عالمية حول أثر الإنترنت في تشكيل الذكاء والذاكرة البشرية.
لم يكن (كار) عدوًا للتكنولوجيا، بل كان قلقا من تسليم حياتنا للآلات، و لذا بدأ يسأل: هل ما زلنا نملك وعينا، أم أن قوة خفية تسحبنا نحو اتجاه واحد، كقطيع لا يدرك إلى أين يمضي؟، فقد كان يرى أننا ننزلق تدريجيًا إلى عالمٍ تُدار فيه أفكارنا، قراراتنا، وحتى رغباتنا عبر خوارزميات لا نعرفها.
وأننا نتحول – دون أن نشعر إلى (قطيع إلكتروني) يتحرك بإيقاعٍ واحد، وفق ما تفرضه علينا البنية الرقمية الجديدة، التى وعدتنا بالتحرر إلأ أنها في الحقيقة تسوقنا إلى شكل جديد من التبعية، أكثر هدوءًا، وأكثر إحكامًا.
وهكذا يقدّم (نيكولاس كار) في كتابه (قطيع إلكتروني) تحليلًا عميقًا لكيفية تحوّل الإنترنت من أداةٍ إلى قوة إعادة تشكيل شاملة للمجتمع، فالذى حدث للكهرباء في القرن التاسع عشر يحدث الآن للإنترنت: تحوّلت من تقنية ثورية إلى (مرفق عام) تتحكم به شركات عملاقة، وتعيد ترتيب الاقتصاد والمجتمع كله.

تبدل موازين القوة
مع انتقال البيانات والبرامج إلى السحابة (أو الشبكة العنكبوتية) لم يعد المستخدم يمتلك أدواته، بل يستعيرها من الشركات التي تمتلك الخوادم.. وكلما زادت حاجته إليها، زادت تبعيته لها، فالأنظمة الرقمية تُنشئ بيئات استخدام تُوجّه السلوك دون وعي: ما نقرأه، ما نفضّله، ما نشتريه، ما نؤمن به.
كل شيئ يتم تشكيله عبر خوارزميات تجمع عنا البيانات ثم تعيد تقديمنا لأنفسنا في صورة جديدة.. ويحلل الكتاب كيف أن الشركات التي تتحكم في البنية الرقمية أصبحت قوى مهيمنة، تحدد قواعد السوق وتعيد تشكيل العمل والإنتاج، مما يخلق فجوة متزايدة بين (المنتِج الحضاري) و(المُتحكّم الرقمي).
هنا يظهر (الإنسان الرقمي) الجديد: فردٌ متصل دائمًا بالإنترنت، لكنه ليس أكثر استقلالًا، بل أكثر قابلية للتوجيه، وأكثر اندماجًا في تدفق جماعي من الأفكار والآراء التي تتحرك سريعًا كالأمواج.. في هذا القطيع، لم يعد الاختلاف مقاومة، بل (ضجيجاً) في نظام صُمّم ليستوعب الجميع في مسار واحد.
ومع انتشار مواقع التواصل الاجتماعى خلال العقدين الآخيرين وتغلغلها في حياتنا، اندفع كثير من العلماء لإجراء مزيد من الدراسات التى كشفت لنا أن الأفراد – عبر تلك المواقع – لا يتصرفون دائمًا بشكل مستقل، بل كجزء من نظام جماعي ذكي تصمّمه المنصات الرقمية.
فهم يتلقون محتوى مدفوعًا بالخوارزميات، وليس بما يختارونه بحرية تامة.. هذه الخوارزميات تقرر أي منشور يظهر وأي منهم يُخفى، بناءً على تفاعلات سابقة، و بيانات المستخدم، واهتمامات مفترضة.

تكوين العادات:
وكشف هؤلاء العلماء – الذين أنشأ بعضهم علما جديدا هو علم النفس الرقمى – أن وسائل التواصل تعمل على تكوين عادات نفسية رقمية – مثل العودة مرارا لمنصات التواصل أو التحقق المستمر من المنصة ، مما يجعل المستخدمين يزورون المنصة بدون تفكير واعي كامل، ويتفاعلون مع المحتوى بشكل شبه آلي.
مما يخلق (القطيع الإلكتروني) بفضل هذه الدوافع النفسية، و أن هذا القطيع ليس بالضرورة واعيًا تمامًا بأنه قطيع؛ فالكثير من الأفراد يعتقدون أنهم يتصرفون بحرية، لكن في كثير من الأحيان، ما يرونه وما يتفاعلون معه تم توجيهه جزئيًا أو كليًا من خلال تصميم المنصة.. وبذا يفقد حريته الداخلية.
ومما يزيد القلق أن الجهات القوية (شركات التكنولوجيا، فِرق البرمجة، الجهات الإعلانية) يمكنها استخدام هذا التكوين القطيعي الرقمي لتوجيه الرأي بحجب بعض الحقائق أو التلاعب بها بالسماح لبعضها دون الآخر على جناح (قطيع إلكتروني).
أو التلاعب بالوعي الجماعي، فتثير انقسامات اجتماعية، إذا استخدمت لتغذية الأساطير أو الأيديولوجيات أو النعرات القومية أو الطائفية أو حتى التأثير في السياسة والاقتصاد، كل هذا بدلا من تعزيز النقاش الحر.
ذلك القلق وتلك المخاوف تثير تساؤلات أخلاقية وسياسية كبيرة: من يبرمج الخوارزميات؟، ولماذا؟، ما هى أهدافه وإلى أين يسعى؟ وما الحد بين الاستخدام الطبيعي للتكنولوجيا والتوجيه الخفي؟.. باختصار: من يوجه هذا القطيع و إلى أين وتحقيقا لأى هدف؟
وهكذا كان لنيوكلاس كار رؤية استشرافية حادة، إذ كتب – قبل أكثر من عقدين من الزمن – ما نراه اليوم واقعًا معاشًا: وتتجلّى هذه الرؤية عبر أربعة مفاهيم محورية: الاحتكار الرقمي، الذكاء الاصطناعي، التتبع السلوكي، والاقتصاد القائم على البيانات. إنها ليست مفاهيم منفصلة، بل خيوط متشابكة تنسج معًا صورة القطيع الرقمي الذي يتحدث عنه كار.

الاحتكار الرقمي
في الماضي، كان الإنترنت أشبه بساحة مفتوحة للجميع؛ واليوم، كما يرى كار، باتت تسيطر عليه حفنة من الشركات العملاقة.. هذا الاحتكار الرقمي لا يحدد فقط أين نذهب على الشبكة، بل يحدد أيضًا كيف نفكر، وما نراه، وما نثق به، فالمنصات التي احتكرت البنية التحتية الرقمية – من محركات البحث إلى شبكات التواصل – أصبحت البوابة الإلزامية للعالم.
وهكذا، يتحول المستخدم من كائن حرّ إلى تابع لنظام مغلق.. الاحتكار الرقمي، وفق رؤية كار، هو أول خطوة في خلق القطيع عن طريق: تقليل الخيارات، وتوحيد المسارات، وتشكيل بيئة لا يستطيع الفرد الخروج منها بسهولة.
لا يخشى (كار) الذكاء الاصطناعي كآلة، بل كفكرة: فكرة أن (الآلة تفكر أفضل منك، فدعها تقرر، فحين يبدأ الإنسان يثق بقرارات الخوارزميات أكثر من ثقته بحكمه الشخصي، يصبح تجاوزًا خطيرًا لذاته، فالذكاء الاصطناعي يختار لك: ما تقرأه ، و ما تشتريه ، و من تتفاعل معه ، وحتى ما تؤمن بأنه (خبر موثوق).
وباسم السهولة والدقة، نتنازل خطوةً بعد خطوة عن استقلالنا المعرفي.. و هكذا يصبح الذكاء الاصطناعي – في تصور كار – الراعي الإلكتروني الذي يقود القطيع دون عنف، بل بالإغراء والراحة والتنميط الدقيق لشخصياتنا.
(إنك مراقَب دائمًا) – لا كتهديد، بل كميزة تسويقية)، من هنا ينطلق كار ليكشف كيف تحولت حياتنا اليومية إلى سلسلة من البيانات المتدفقة، وكيف تتعقبنا الشركات رقمًا رقمًا: حركاتنا، عاداتنا، اهتماماتنا، نقاط ضعفنا، حتى أوقات تعبنا وفرحنا.
وهذا التتبع السلوكي يمنح الشركات قدرة غير مسبوقة على التأثير في سلوك الإنسان نفسه ، فلم تعد المنصات تنقل ما نريد؛ أصبحت تصنع ما نريد !!.. إنه التأسيس النفسي للقطيع: فما دام كل فرد يُرى كمعادلة يمكن التنبؤ بها، يصبح من السهل دفعه نحو اتجاه واحد – بهدوء، وبلا مقاومة تُذكر.

الإنسان كمنجمٍ خام
في الاقتصاد التقليدي، كان الإنسان مستهلكًا للمنتجات.. أما في الاقتصاد القائم على البيانات، فالإنسان هو المنتج ذاته، حيث يرى (كار) أن البيانات أصبحت المورد الأغلى.
وأن الشركات لم تعد تربح من بيع الخدمات بقدر ما تربح من تحويل السلوك البشري إلى سلعة، حيث يتم جمع هذا السلوك و تحليله ثم بيعه، لإعادة توظيفه لإنتاج المزيد من السلوك. وهكذا يدخل الفرد في دائرة مغلقة: يُنتج بيانات → تُباع بياناته → تُستخدم بياناته لحثّه على إنتاج بيانات جديدة.
هذا الاقتصاد هو الدينامية التي تجعل القطيع يستمر في الحركة – ليس من أجل حاجاته، بل من أجل ماكينة السوق.. حين تتجمع هذه العناصر الأربع – الاحتكار، الذكاء الاصطناعي، التتبع، والاقتصاد القائم على البيانات – يصبح المشهد الذي يصفه (كار) واضحًا: أولا نفكر كما تسمح الخوارزميات.
ثانيا نرى ما تختاره المنصات، ثالثا نتحرك داخل طرق رقمية محددة سلفًا، رابعا ننتج بيانات تُستخدم لإعادة تشكيلنا مرة أخرى.
وبالتالى نفقد ذواتنا تدريجيا، وهذا الفقدان لا يحدث بالقوة، بل بالراحة والاعتياد والانبهار، ونتحول إلى جماعة ضخمة من البشر، متصلين دائمًا، متشابهين في السلوك، موجهين من قوى رقمية لا تُرى، نظن أننا أحرار بينما نحن مسيرون داخل مسار واحد مصمم بدقة.
إن كتابات (نيكولاس كار) المعنون بـ (قطيع إلكتروني) كانت تشعل ضوءًا في ممر مظلم، لا ليرعب العابرين، بل ليقول لهم: (ما زالت لكم القدرة على الاختيار، إن تذكرتم أن ترفعوا رؤوسكم عن الشاشة)، وإذا كان المستقبل تيارًا رقميًا جارفًا، فربما تكون الخطوة الأولى للخروج من القطيع هي أن ندرك – ببساطة – أننا جزء منه.