


بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة
أعجبني جدا مسلسل (ورد وشوكولاتة) على كافة مستويات الصناعة الإنتاجية المتقنة من جانب مجموعة (العدل جروب)، وأيضا باعتباره يأتي ضمن موجة درامية تسعى إلى تجاوز الأنماط المعتادة في تناول الصلات الإنسانية، فضلا عن كونه قطعة درامية أصلية سعت طوال الوقت إلى الغوص في العلاقات التي تتشكل عند تقاطع الحاجة والخوف والتعلق.
أجمل مافي (ورد وشيكولاتة) أنها دراما اجتماعية تعرض رؤية أكثر جرأة في تفكيك دوافع الشخصيات ومحركاتها النفسية على تعقيداتها الكبيرة، والبحث أيضا في الأركان المظلمة في قلب الأحداث التي قد تختفي خلف واجهات هادئة.. ولا يكتفي المسلسل بعرض سرد خطي، بل إنه يذهب إلى طرح حالة نفسية واجتماعية مركبة تستمد قوتها من كونها تتماس مع جريمة المذيعة (شيماء جمال) التي شغلت الرأي العام خلال الأشهر الأخيرة.
ورغم حساسية الموضوعات التي تعالجها الدراما، فإن مسلسل (ورد وشيكولاتة) يحاول تقديمها بميزان دقيق وحساس للغاية.. وربما هذا التوازن يمنح العمل ثقله الفني، ويجعله من أكثر الإنتاجات الحديثة إثارة للجدل، ضمن المطروح من الدراما في هذا الموسم الذي يشهد منافسة قوية في نوعية المسلسلات الاجتماعية.
أحداث مسلسل (ورد وشوكولاتة)، تدور حول مروة (زينة) الإعلامية الناجحة التي تبدو حياتها مستقرة ومتوازنة مهنيا إلى حد ما، لكنها تحمل في داخلها فراغا عاطفيا وشعورا بالوحدة يدفعها إلى الدخول في علاقة عاطفية مع صلاح (محمد فراج) المحامي الذي يتمتع بحضور قوي وكاريزما وثقة من طراز خاص، ما جعله يملك خيوط اللعبة الدرامية وممارسة نفوذه بنعومة مع (مروة).
مع مرور الوقت، يكشف هذا الارتباط المحاط طوال الوقت بأسلاك شائكة، عن جوانب غير مرئية في شخصية (صلاح) الذي يعاني تعقيدات نفسية تسكن عمق الذاكرة، إذ يظهر وجه آخر يتسم بالرغبة في السيطرة وفرض النفوذ العاطفي، مما يحول العلاقة من مساحة دفء ودعم إلى ضغط نفسي خانق كما بدا لنا في تصرفات (صلاح) بشكل مرضي يعكس بالضرورة تشوهاته النفسية.

الاقتراب من المساحات الصامتة
منذ المشاهد الأولى لمسلسل (ورد وشيكولاتة)، يختار المؤلف الاقتراب من المساحات الصامتة بين الأزواج، تلك التي لا تقال صراحة حتى في أكثر الأحداث سخونة، هذه الزوايا المهملة تصبح محورا لرحلة تتكشف فيها الشخصيات ببطء وتنتهي بفتح أبواب لا يمكن إغلاقها بسهولة، وهو الأمر الذي أفضى في النهاية إلى ارتكاب جريمة القتل البشعة لـ (مروة).
وما يؤكد هذا حين وجدت (مروة) نفسها في مواجهة حقيقة العلاقة التي تورطت فيها مع (صلاح)، وبسبب انكشاف أسرار كانت مخفية لسنوات، ومن خلال الأحداث تتضح ملامح شبكة معقدة تجمع بين الحب، والتلاعب، والقرارات التي تغير مجرى حياة الأبطال بشكل جذري، وهو ما انعكس على حالات كثيرة من العصبية والشد والجذب طوال عشر حلقات هى عمر المسلسل.
مسلسل (ورد وشيكولاتة) بالأساس يجمع بين الرومانسية والتشويق والإثارة النفسية، ويأخذ المشاهد إلى عالم يختلط فيه الحب بالخوف، والرغبة بالسيطرة، والاحتياج العاطفي بالانتقام، ولعل هذا يبدو جليا في العلاقة بين (صلاح، ومروة) والتي تبدو في ظاهرها علاقة حب شديدة التوتر، لكنها في باطنها ساحة صراع بين نمطين نفسيين مختلفين: رجل نرجسي يمارس السيطرة والتلاعب، وامرأة تبدو قوية أمام الجميع لكنها ضعيفة أمام جرح طفولتها وماضيها المشوه.
خلاصة القول: إن (ورد وشوكولاتة) ليس مجرد مسلسل درامي رومانسي يضاف إلى قائمة الإنتاجات القصيرة، بل هو تجربة مكثفة وموقوتة تنطلق من عمق القضايا الاجتماعية الشائكة في العالم العربي، لتكشف عن الوجه الآخر للعلاقات بين الحب والسلطة والخداع، في صيغة العشر حلقات التي أصبحت سمة مميزة للإنتاج الدرامي عالي الجودة في المواسم الدرامية الأخيرة.
والمسلسل، كما هو معلن، مستوحى من أحداث حقيقية هزت الرأي العام العربي، وهو ما منحه ثقلا إضافيا وجرأة في الطرح.. القصة لا تركز فقط على علاقة حب مصيرية، بل تُسلط الضوء على تداعيات الزيجات السرية، تأثير الماضي على الحاضر، وكيف يمكن للسلطة والنفوذ أن يتداخلا في العلاقات الشخصية.
أنا مع من يمدح مسلسل (ورد وشيكولاتة)، لأنه نجح في تقديم دراما نفسية ذات حساسية عالية تناقش العلاقات السامة، والسيطرة، وتقلبات المشاعر بطريقة ناضجة، وتحويل الواقع: وفي هذا الصدد يقدر المنتقدون قدرة المسلسل على تحويل الواقع إلى دراما جذابة دون الاعتماد على الإثارة السريعة، فضلا عن الإيقاع السريع الذي يحول دون المط والتطويل كما هو سائد في دراما الحلقات الطويلة.
ويبدو ملحوظا بالنسبة لي على الأقل، أن البناء الدرامي للمسلسل يفتح نقاشات هامة حول الحدود بين الحب والامتلاك، الدعم والهيمنة، كا يقدم المسلسل أسئلة وتأملات تجعل المشاهد يفكر فيها حتى بعد انتهاء العمل، خاصة أن هناك جوانب مأساوية صاحب الأحداث.

استغلال المسلسل للمأساة
ومع أعجابي الشديد بمسلسل (ورد وشيكولاتة) فإنه واجه المسلسل غضبا واتهامات بتشويه الحقائق، لا سيما من نقابة المحامين، بسبب استخدامه لقضية مقتل المذيعة (شيماء جمال) كعمل درامي، وهو ما يرمي إلى أن هناك مخاوف من استغلال المسلسل لهذه المأساة الإنسانية بشكل يسيء إلى سمعة الضحية.
وقد يرى البعض أن القصة تقدم نماذج منحرفة قد لا تكون مفيدة للمجتمع، ويستحسن تقديم نماذج أفضل، وقد تكون بداية المسلسل قاسية جدا، لكن هناك من يرى أن الواقع كان أقسى بكثير.
ومع هذه السلبيات فقد أشاد النقاد بالقصة الجريئة للمؤلف (محمد رجاء)، التي تبدأ كرومانسية دافئة ثم تنقلب إلى صراع نفسي وعاطفي معقد.. فقد اعتبر الكثيرون أن قوة المسلسل تكمن في قدرته على الغوص في دوافع الشخصيات النفسية وتحول الحب إلى علاقة خانقة ومأساوية في ميل واضح نحو التراجيديا الإنسانية.

المتوازن والمحترف (محمد فراج)
على مستوى الأداء التمثيل: حظي أداء النجمين (محمد فراج وزينة) بإشادة خاصة، حيث وصفه النقاد بـ (المتوازن والمحترف)، فقد قدم (محمد فراج) في دور (صلاح) – الذي اعتبره من أكثر الشخصيات تعقيداً في تاريخه الفني – وجسده ببراعة دور الزوج النرجسي والمتلاعب الذي يظهر في البداية حنوناً قبل أن يكشف عن جانبه السام وتحوله إلى مجرم وقاتل بشع.
(محمد فراج) في (ورد وشيكولاتة) لم يلعب دور الشرير التقليدي، بل لعب دور (الساحر) الذي يغلف أطماعه وأطباعه بمعسول الكلام وهدوء المظهر، وهو في ذات الوقت يمتلك القدرة على التلاعب بالعقول والعواطف، شخصية مركبة تثير في المشاهد مزيجاً من الانجذاب والقلق والتوتر الذي صاحب أداءه المغزول بخيوط موهبة آسرة.
كان أداء (محمد فراج) طوال الأحداث حتي الحلقة الثامنة بدا هادئا، باردا، ومحسوبا، وهى سمات تعكس طبيعة الشخصية التي تخفي وراء قناع الرومانسية رغبة جامحة في السيطرة وتحقيق الأهداف، لذا استطاع (فراج) ببراعة ومن خلال لغة جسده المعبرة أن يجعل المشاهد يتفهم كيف يمكن لشخصية بهذه الجاذبية المضللة أن تسيطر على حياة امرأة قوية مثل (مروة).
بحكم معرفتي به، يمتلك الفنان (محمد فراج) قدرة فريدة على تقديم الشخصيات المركبة شديدة التعقيد، التي تتحرك بين الخير والشر، وبين الرقة والقسوة، وبين الحب والسيطرة، وهنا في مسلسل (ورد وشيكولاتة) يظهر (فراج) في واحدة من أكثر شخصياته تركيبا: شخصية (صلاح)، ذلك الرجل صاحب الكاريزما، الذي يظهر في البداية محبا وحنونا، قبل أن يكشف عن جانب نرجسي وسلوكيات عنيفة تهدد شريكته (مروة)، وهو ما أفضى لقتلها في النهاية بدم بارد.
نجحت (زينة) في تقديم شخصية المذيعة القوية أمام العالم، ولكنها تحمل جرح طفولة يجعلها ضعيفة ومترددة أمام شريكها (صلاح)، فقد قدمت زينة دور (مروة) الإعلامية الشهيرة بقدرة جادة وتتمتع بكاريزما وسلطة إعلامية، لكنها في حياتها الخاصة تبدو ضعيفة ومعرضة للانجرار وراء عواطفها التي أوقعتها في بئر عميق وسحيق.


التحولات النفسية المعقدة عند (زينة)
وهنا أرى أن (زينة) نجحت لأول مرة في التعبير عن التحولات النفسية المعقدة لشخصية الإعلامية (مروة)؛ من الثقة المطلقة إلى التشتت والجنون العاطفي.. ويبدو لي أنه لم يكن أداؤها مجرد تجسيد لشخصية تقع في الحب، بل كان تشريحاً لامرأة تبني عالمها على أساس واه وغير متين، لتهدمه لاحقاً بيدها جراء تشوهات الماضي التي تلاحقها.
أكثر ما أعجبني في أداء (زينة) في (ورد وشيكولاتة)، تلك المشاهد التي جسدت فيها لحظات الشك والانهيار، فقد كانت الأكثر صدقا وعمقا، حيث أظهرت التناقض بين الصورة العامة اللامعة والصراع الداخلي المرير للإعلامية المحترفة في فتح الملفات الشائكة ، وهو ما أكد لي ربما لأول مرة أنها ممثلة جيدة إلى حد ما، فإلى وقت قريب ورغم كثرة ما قدمته من أعمال، لم أكن أقتنع بأنها ممثلة.
وأيضا أشهد ببراعة الفنانة القديرة (صفاء الطوخي) في تجسيد شخصية (كوثر) أم (مروة)، حيث نجحت في أن تعكس قسمات وجهها علامات الشك في (صلاح) من أول لحظة عاد إلى البيت من دون (مروة)، ثم بدأت تتصاعد علامات الغضب وتكثيف مشاعر الأم التي بدت تشعر بما يحدث لابنتها كما يحدثها قلبها.. تجليات مرعبة بدت لصفاء الطوخي في نهاية الحلقتين الآخريتين.
يعود الفضل في نجاح مسلسل (ورد وشيكولاتة) على كافة المستويات بقيادة المخرج (محمد جمال العدل) الذي جعل الصورة تحاكي طبيعة الشخصيات وظروفها، ولهذا وقع اختياره على الإضاءات الخافتة والكادرات الضيقة التي تعكس اختناق العلاقات العاطفية مع المزج بين اللقطات الهادئة والانفعالات المكبوتة، وهى اللغة البصرية التي استطاعت أن تخدم الحالة النفسية وليس فقط الشكل الجمالي عبر أحدث تتسم بالعنف حينا والنعومة في آحايين أخري.
وبالطبع نجح (العدل) في إدارة طاقم الممثلين، خاصة في المشاهد المشحونة بالضغط النفسي، وتمكن بالضرورة من إيجاد حالة مستمرة من الاحتقان دون السقوط في فخ الميلودراما الفجة أو المتكلفة، فخرج أداء (محمد فراج) متوازنا بين الجاذبية والتوتر، بين الشدة واللين، في حين مزج أداء زينة بين القوة والانكسار، وجاء حضور (مريم الخشت) هادئا دون مبالغات أو صعبانيات.

براعة المخرج (محمد جمال العدل)
أخيرا برع (العدل) في استخدام اللون والإضاء، حيث كانت الألوان تميل إلى الدرجات الدافئة في مشاهد العلاقة الرومانسية المبكرة، لتتحول تدريجياً إلى درجات رمادية وباردة مع تصاعد الشك والتوتر، ما عكس ببراعة الحالة النفسية للشخصيات على قدر اضطرابها ومعاناتها أحيانا.
أما الإيقاع الدرامي: فقد جاء إيقاع المسلسل بكاميرا (محمد العدل) سريعا ومكثفا، وهو ما يناسب طبيعة مسلسلات المنصات ذات العشر حلقات.. فلم تصل المساحة للتطويل أو الملل – كما أشرت سابقا – بل تم بناء التصاعد الدرامي بشكل متتال ومحكم، وصولاً إلى ذروة التوتر والجنون الذي أفضى للقتل في النهاية.
وفي ميدان الترميز البصري: استخدام (العدل) عدد من العناصر البصرية للترميز، لعل أهمها هو الصراع بين العالم الخارجي الفخم والعالم الداخلي المضطرب، ما يرمز إلى أن الثراء والسلطة لا يقيان من الانهيار العاطفي، مهما تعددت وتنوعت الأسباب والمبررات الدراميا.
في النهاية، يظل (ورد وشيكولاتة) عملا دراميا ناجحا أثار نقاشا مجتمعيا وفنيا واسعا حول العلاقة بين الفن والواقع وقضايا العلاقات السامة، كما يحسب لمسلسل (ورد وشوكولاتة) أنه لم يتورط في استنساخ الجرائم حرفيا، أو مشابهة الواقع على مرارته، بل حاول أن يبني عالمه الخاص مستلهما أنماطا بشرية طبيعية من المجتمع، هذه القدرة على تحويل الواقع المر إلى دراما جذابة من دون الاعتماد على الإثارة السريعة تعد من أهم نقاط تميز المسلسل على قدر قسوة أحداثه التي انتهت نهاية قاسية ومرعبة.
وهو ما دفع المنتج (جمال العدل) للتصريح بأن العمل قد يكون نواة مشروع درامي لحكايات مختلفة بفرق عمل متنوعة على أن تبنى كل حكاية على جريمة حقيقية جرت بوقت سابق، وهذا المنهج في حد ذاته يجعل العمل لا يشاهد لمجرد الترفيه، بل لما يقدمه من سؤال، وتأمل، وحكاية تظل حاضرة في ذهن المشاهد بعد النهاية.. فتحية تقدير واحترام لـ (العدل جروب) ممثلة في المنتج الكبير (حمال العدل9، وباقي فريق عمل مسلسل (ورد وشكيولاته) جراء متعة كبيرة أصابتناجميعا.