
* الجمهور المصري كشاف الفن الأصيل وبوابة التألق في الوطن العربي
بقلم الدكتور: إبراهيم أبو ذكري
عندما تسعى مصر لتقديم الفنانين العرب إلى الجمهور المصري، لا تقتصر المعايير على المهارة في التمثيل فقط. فالعديد من أساتذة فن التمثيل المحترفين الذين أسهموا في تخريج المئات من النجوم البارزين قد لا يعتبرون نجوم الصف الأول.. وهذا ينطبق ليس على مصر فقط، بل أيضًا على مجمل الدراما العربية وعلاقة الممثلين بالجمهور المصري مثل (سلوم حداد).
فالجمهور المصري يعبر عن ميوله واهتماماته من خلال تفاعله مع الأعمال الفنية، ولا يقتصر انجذابه على الأسماء اللامعة، بل يمتد ليشمل الممثلين الذين يتمتعون بالقدرة على التواصل مع المشاعر الإنسانية بصدق وعمق.
لذلك، فإن العلاقة بين الممثلين والجمهور تعتمد تارة على الموهبة وأخرى على القصة والشخصيات التي يتم تقديمها، مما يجعل الفهم والتواصل بين الفنان والجمهور عنصرين أساسيين لا يمكن تجاهلهما.
هنا في مصر، تتزايد أعداد الراغبين في التعلم والشهرة في مجالات الفن والدراما، سواء كانوا عربًا أو مصريين.. حتى بين أصحاب الخبرة الذين يتخرجون من الأكاديميات المتميزة، نجد أن قلة فقط من هؤلاء يتم قبولهم من قبل الجمهور المصري.
استكشاف أعماق الفن: كيف يميز الجمهور الحقيقي الفنان علي المسرح.. هذا يشير إلى أن البراعة في فن التمثيل أو إتقان أدوات الأداء ليست العوامل الوحيدة التي تؤهل الفنان للوصول إلى وجدان الجمهور المصري.
فهناك عنصر خفي، قد لا يدركه الكثيرون، هو الذي يتيح للفنان اختراق القلوب، خاصة في المجتمع المصري. يُعتقد أن هذا العنصر يتجاوز المهارة التقنية ويتعلق بقدرة الفنان على تجسيد المشاعر الإنسانية بصدق وعمق، وكذلك القدرة على التواصل مع الثقافات والتجارب التي تعكس هموم وآمال الناس.
لذا، تبقى العلاقة بين الفنان والجمهور قائمة على تفاعل عاطفي وثقافي عميق، لا يمكن قياسه إلا من خلال تجربة المشاهدة والتواصل.

ليست مدة الخبرة هى المعيار
إن الجمهور المصري، الذي يتقبل الفنون والإبداع، يمتاز بمدى ذوقه الخاص الذي لا يقتصر على جنس أو جنسية الممثل، ولا يعتمد بالضرورة على تاريخه أو سيرته الذاتية.. فقد نجد فنانًا جديدًا، قد لا يمتلك تاريخًا طويلًا في عالم الفن، ومع ذلك يمكن أن ينال إعجاب الجمهور، إذ ليست مدة الخبرة هى المعيار الوحيد للقبول، كما في حالة (سلوم حداد).
هذا هو السر الذي أودعه الله سبحانه وتعالى في نفوس الممثلين القادمين من العالم العربي، فحتى لو كان الفنان قد حقق نجاحات عظيمة في بلده، قد يواجه تحديًا عند تقديمه للجمهور المصري.. قد يكون هذا الممثل في بداية مسيرته الفنية، ويظهر أمام الكاميرا للمرة الأولى، ومع ذلك يتمكن من التألق ويساهم في الوصول إلى الصفوف الأولى.
القبول من قبل الجمهور ليس مستندًا فقط إلى الخبرة أو الشهرة، بل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقدرة الفنان على التواصل مع المشاعر الإنسانية وإظهار الصدق في أدائه.. لذا، يُعد تفاعل الجمهور المصري مع الممثلين فناً بحد ذاته، يعتمد على ما يشعر به الجمهور من خلال الأداء والأحاسيس التي يحفزها.
فنون بلا حدود: كيف يظل الفن المصري موحدًا للوجدان العربي.. يعتقد البعض أن رفض الجمهور المصري لبعض الوجوه العربية، التي عادت دون أن تحقق قاعدة جماهيرية، هو أمر ينطبق فقط على الفنانين من خارج مصر.
لكن الحقيقة أن هذه الرغبة الجماهيرية تشمل أيضًا أبناءنا من الممثلين المصريين. فهناك العديد من الفنانين المصريين الذين لم يتمكنوا من نيل القبول المطلوب، ولم ينجحوا في التألق بما يكفي ليصبحوا نجوماً في الساحة الفنية.
إن بريق الشهرة ليس مضمونًا بمجرد الانتماء أو الجنسية، بل يتطلب موهبة حقيقية وقدرة على التواصل مع الجمهور ورسم المشاعر.. فالجمهور المصري يتطلع إلى أداءٍ فني يشعره بالارتباط، ويعكس قضاياه وهمومه بطريقة تخاطب أحاسيسه.
لذا، ليس غريبًا أن نجد فنانين مصريين لم يجدوا صدى إيجابيًا في قلوب الجمهور، رغم اجتهادهم ومهارتهم، مما يؤكد أن القبول في عالم الفن هو نتيجة تركيبة معقدة من الموهبة، والإبداع، والتواصل العاطفي.
لتأكيد ما أعنيه، نجد أن هناك مجموعة من الممثلين العرب الذين استقبلهم الجمهور المصري بترحاب كبير، بل ومنحهم قبولًا استثنائيًا، مما جعلهم يتألقون أكثر من العديد من الفنانين المصريين على أرض المحروسة.

جزء من نسيج الثقافة المصرية
هؤلاء النجوم، الذين أحبهم الجمهور المصري أكثر من بعض زملائهم المحليين، استطاعوا أن يحققوا قاعدة جماهيرية عريضة ليست فقط في مصر، بل أيضًا عبر العالم العربي.
لقد شعر الجمهور المصري أن هؤلاء الفنانين، رغم انتمائهم العربي، أصبحوا جزءًا من نسيج الثقافة المصرية.. فهم يتحدثون العربية بلهجة مصرية، ويعرضون إبداعاتهم وفنونهم في مصر، مما جعل الجمهور ينظر إليهم كفنانين مبدعين يحملون الكثير من المشاعر والأحاسيس.
من بين هؤلاء النجوم، نجد (جومانة مراد، وسلافة فواخرجي، ونسرين طافش، وإياد نصار، وهند صبري، ودرة)، وكثيرين آخرين مثل (فريد الأطرش، وأسمهان، وبيرم التونسي، وداود حسني، وحسين الجسمي، ووردة الجزائرية، وسميرة سعيد).. هؤلاء الفنانين وغيرهم الكثير تمتعوا بحب الجمهور المصري، وأصبحوا جزءًا من تاريخ الفن العربي، حيث تركوا بصماتهم في العاصمة الثقافية الفن، القاهرة.
فقد ساهم هؤلاء الفنانون – بموهبتهم وإبداعاتهم – في إثراء الساحة الفنية المصرية، ليصبحوا جسرًا يربط بين الثقافات العربية المختلفة، ولتتجلى فيهم الأواصر الفنية التي تتجاوز الحدود السياسية والجغرافية.
تفكيك الانقسامات: دور الفن في تعزيز الأخوة العربية.. في خضم هذه المناقشات المضنية في الأيام الحالية، ومع ما نشهده من تطاولات على مصر والمصريين من بعض أشقائنا العرب، أتذكر مثالًا صغيرًا يبرز هذه الظاهرة هو (سلوم حداد).
(سلوم حداد) حقق نجاحات ملحوظة في بلاده وسائر العالم العربي، يُعتبر عبقريًا وأستاذًا في فن التمثيل، ولا يمكن لأحد أن ينكر ذلك.. هو من فطاحل الممثلين السوريين، يتمتع بموهبة فريدة في الأداء باللغة العربية الفصحى، وله قدرة رائعة في اللهجة السورية.
ومع ذلك، لا أرى من المفيد إجراء مقارنات بين (سلوم حداد) وأي من الممثلين الآخرين، حتى لو كانوا يتقنون ما يميز سلوم حداد في أدائه. فعندما ننظر بموضوعية، نجد أن هناك فنانين آخرين قد يكون لديهم مهارات تتجاوز ما يمتلكه (سلوم حداد)، خصوصًا من المصريين والعرب الذين يجيدون التحدث باللهجة المصرية والفصحي سواء بسواء بل يتقمصون أي لهجة عربية مضافا اليها لغات أجنبية.
مما يوسع من دائرة المنافسة ويعكس تنوع الطاقات الفنية، ولا يجعل أي فنان متفردًا بشكل كامل كما يُزعم.

لم يوفق في اللهجة المصرية
إذاً، فنحن أمام واقع يتميز بالتنوع والغنى الفنّي، حيث يجب أن نعترف بموهبة الجميع، ونحرص على بقائنا موحدين في دعم الفنون والإبداع، بعيدًا عن أي تباين في الجنسيات أو اللهجات.
أعفي نفسي من ذكر أسماء معينة سواء كانت مصرية أو عربية، لأن هذه المقارنات لا تليق بمكاني ولا تناسبني.. ولكن يجب أن أؤكد أن (سلوم حداد)، رغم موهبته الكبيرة، لم يوفق في أداء التمثيل باللهجة المصرية، حيث واجه صعوبة في التفاعل مع الدارجة المصرية، التي تُعتبر جواز المرور إلى وجدان أكثر من مائة مليون مصري.
الدراما العربية: تكامل ثقافي بعيدًا عن الحدود.. إن الجمهور المصري هو الذي يزرع الأضواء البراقة حول أي ممثل، ويمنحه نجوميته لتصل إلى آفاق واسعة في العالم العربي. ومع الأسف، فإن تجربته في الدراما المصرية لم تؤهله لتحقيق هذا الإدراك العاطفي عند الجمهور المصري، مما جعل من الصعب عليه اجتياز الحواجز التي تتيح له التواصل الفعال مع مشاعر الناس وقضاياهم.
لذا، يبقى النجاح في هذا المجال مرتبطًا بقدرة الفنان على فهم جمهور يتنوع في تطلعاته وطموحاته، وهو ما لم يتمكن منه في هذه الحالة.
من ناحية الشهرة، لا أنكر أن (سلوم حداد) حقق شهرة واسعة في بلده وفي العالم العربي، ولكنه خلال هذه الأيام اكتسب نوعًا من الشهرة لم يكن يحلم بها، وليس بسبب تفوقه في اللغة العربية أو بمهاراته التمثيلية.. فعندما حاول التحدث باللهجة المصرية، بدت كلماته وكأنها تفتقر إلى الإحكام، مما جعل الحضور يضحكون من طرافة الموقف.

الحظ لم يكن في صالحة
لقد حقق (سلوم حداد) شهرة لم ينلها خلال مسيرته الفنية الطويلة، وما زاد الأمور تعقيدًا هو هجومه على الفن المصري. والعجيب أنه اعتذر لاحقًا ليُحسن العلاقة المقطوعة مع الجمهور المصري الذي شعر بالخيبة منه، وذلك لأنه ينتمي لشعب نحترمه ونعتز به.
ولكن بعد فترة، عاد ليتحدث عن مصر بشكل سلبي مرة أخرى، وكأنه يسعى لزيادة عدد مشاهدينه من خلال الخلافات، بدلاً من الاعتماد على الإبداع الحقيقي.
من المؤسف أنه أدرك أن ارتفاع شهرته لم يكن بسبب عمل فني مميز، بل لأنه تجاوز في حق الممثل المصري والفن المصري واللهجة المصرية.. كان كمن يغوص بنفسه في عمق المحيط بحثًا عن شهرة، ولكنه الحظ لم يكن في صالحة، بل كانت تلك اللامبالاة تزيد من المسافات بينه وبين الجمهور المصري.
وفي النهاية، يبقى القبول والرفض مسألة تعود إلى الله، الذي يعلم ما في قلوب الناس وما يتناسب مع كفاءاتهم الفنية.
مصر ووجدان الشارع العربي: مساحة للحب والتقدير.. ستظل مصر، بلهجتيها المصرية، حاضرة بقوة في وجدان الشارع العربي، حيث يُعتبر الجمهور المصري صادراً بمشاعر الحب والتقدير لكل من يطرق أبوابه بالإبداع والفن.
هذا الجمهور يتمتع بذكاء فريد؛ فهو قادر على تمييز ما يُقدم له بوضوح، ويستطيع أن يتعمق في أرواح الفنانين ليكتشف بسهولة إن كانوا يقدمون فناً صادقًا راقياً، أم أنهم يعيشون في عالم من الزيف والمظاهر.
الفن والإبداع: جسر التلاقي بين الشعوب العربية.. الفن ليس له وطن محدد، والإبداع في الدراما العربية قد حقق تكاملاً ثقافياً يجمع بين جميع البلدان العربية، سواء كانت خليجية أو فرعونية أو سومرية.. هذا التكامل يعكس وحدة التجارب والمعاناة والآمال، مما أسهم في تشكيل هوية ثقافية واحدة تُعرف بوطننا العربي، بعيدًا عن التطلعات الإقليمية الضيقة.
إن نجاح أي عربي في أي مجال هو نجاح للجميع، من المحيط إلى الخليج. لذا، يجب علينا أن نتجنب الاستجابة للمساعي الخبيثة التي تُغذّي الانقسامات، والتي تغرس الفتيل في وسائل التواصل الاجتماعي.. هذه الجهود غالبًا ما تُكافأ بالدولارات بعد حصولها على الترندات، بل يجب أن نعمل معًا لتعزيز قيم الأخوة والتضامن والاستفادة من الفن كوسيلة لبناء جسور التواصل والمحبة بين شعوبنا.