رضا العربي يكتب: (علي الحجار).. حين يتوضأ الصوت بالكلمة.. يولد الفن من رحم الروح



بقلم الناقد الموسيقي: رضا العربي
في المسافة بين الحلم والصوت وُلد لقاء نادر بين مطربٍ يشبه النور حين يذوب في النغم وشاعرٍ يكتب بالعطر لا بالحبر… هناك على ضفاف الإحساس وقف (علي الحجار) وناصر رشوان ليشكّلا معًا أحد أنبل الجسور بين الكلمة والروح.
كان صوت (علي الحجار) دائمًا أكثر من مجرد صوت موسيقي كان ممرًّا سرّيًا إلى ذاكرةٍ جماعية تبحث عن نفسها حين يغنّي تشعر أن مصر القديمة تستيقظ في الحنجرة وأن الحنين يصعد من بين ضلوع الزمن ليلامس القلب صوته ليس فقط صوت عاشق بل هو صوت وطنٍ يئنّ ويغفر يشتاق ويثور يُحب ويعزف وجعه بكرامةٍ نادرة.
(علي الحجار).. ذلك الصوت الذي لا يُغنّي فحسب بل يُصلي بالحروف ويُقيم في كل لحن وطنًا من الحنين.
في حضرته تتحول الأغنية عند (علي الحجار) إلى اعتراف وإلى نافذة تُطلّ منها الروح على نفسها لا يغني لكي يُطرب بل ليُذكّرنا أننا بشر، وأن القلب مهما حاول أن يتماسك يظل طفلًا يبكي حين يسمع الجمال.


ذاكرة من ذهب
منذ أن خرج من (مدرسة الحجار الكبير) الفنية إلى سماء القاهرة كان صوته مختلفًا.. مزيجًا من وجع العاشق ونُبل الثائر.. تغنّى بالحب لكنه لم يبتعد عن هموم الناس صوته يعرف الشجن الشعبي كما يعرف التصوف يعرف الوجدان المصري حين يغني “المال والبنون”، ويعرف كيف يجعلنا نبكي على (بوابة الحلواني) وكأن التاريخ نفسه يردد خلفه: (يا مصر قومي وشدي الحيل).
(علي الحجار).. لا يؤدي الأغنية.. بل يسكنها.. حين يغني تتحرك الكلمات داخله كأنها دم في العروق يطوّع المقام ليخدم المعنى.. ويمنح النغمة انحناء القلب لذلك يخرج صوته كأنه أثر قديم محفور في الذاكرة لا يُمحى مهما مرّ الزمان.
هو المطرب الذي لم يُساوم على صدقه ولم يركض خلف شهرة سريعة.. ظل وفيًّا لفنه، ولأولئك الذين ينتظرون منه لحظة صدق، لا لحظة ضجيج.. (علي الحجار) هو ذاكرة من ذهب، وصوت من طينٍ مصريٍّ نقيٍّ فيه صبر النيل وكرامة الفلاح، ووجدان العاشق الذي يعرف أن الغناء أحيانًا أشدّ من الدعاء
صوت (علي الحجار).. ليس مجرد صوت موسيقى.. إنه ضميرٌ غنائيّ عاشق وجرحٌ جميلٌ يذكّرنا بأن الفن حين يكون صادقًا يصبح حياةً أخرى نعيشها بصمتٍ ودمعةٍ وابتسامة.

مساحاتٍ من الصدق المرهف
أما (ناصر رشوان) فكان كاتب الضوء في عتمة هذا العالم.. شاعرًا يمشي على خيوط الندى.. يكتب القصيدة كمن يضمّد جرحًا في صدر الحياة.. كلماته لا تصرخ بل تهمس في وجدان المستمع حتى تتحوّل إلى وجعٍ حلو وإلى صدقٍ نقيّ لا يشبه سوى أول نبضة في الحب.. كان يعرف كيف يجعل الكلمة جسدًا حيًا وكيف يمنحها دفق الدم لتتنفس وتبكي وتبتسم في صوت علي الحجار
وعندما التقى هذا الصوت بتلك الكلمة حدث ما يشبه المعجزة.. تحوّل اللحن إلى صلاةٍ من نور وتحولت الأغنية إلى مرآةٍ يرى الناس فيها وجوههم ودموعهم وأحلامهم كانت أعمالهما المشتركة مساحاتٍ من الصدق المرهف تمتدّ بين الحب والخذلان، بين الكبرياء والدمعة التي لا تُقال.
(علي الحجار).. يغنّي وكأنه يفتح أبواب القلب و(ناصر رشوان) يكتب وكأنه يعيد ترتيب العالم من جديد كلاهما يعرف أن الفن ليس زينةً على وجه الحياة بل هو القلب الذي يمنحها نبضها الأخير.
وفي كل مرة يلتقي فيها صوتهما (علي الحجار) في الغناء و(ناصر رشوان) في الكلمة يشعر المستمع أنه أمام تجربةٍ إنسانية كاملة فيها العشق والوجع فيها التمرد والخضوع فيها الوطن والمرأة فيها الإنسان في أصدق صورة.
ذلك اللقاء بينهما لم يكن مصادفة بل قدرٌ جماليّ أراد أن يُعيد للموسيقى معناها النبيل وللشعر شرفه الأول وللناس بعضًا من الدفء الذي فقدوه في زحمة العالم.. إنه لقاء الروح بالروح والصدق بالصدق والإنسان بالإنسان.