
بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
في ذكرى الكاتب الكبير الراحل (محمود دياب) أتذكر بعض كلماته: المركب توشك أن تغرق، ولكى ننقذها لابد وأن نتخفف من بعض الأثقال ووسيلتنا اعتاق عبيد الأمة، لا يوجد بلد حر إلا بشعب حر.
ما من شيئ يدفع عبدا أن يُستشهد ليصون الحرية للأسياد، أن يحمى أرضا لايملك فيها شبرا، أن يحفظ نهرا لا يُعطى منه جرعة ماء، أن يمنح دمه ليحيا جلادوه.
لكل فرد في الأمة حقوق معلوم في المأكل والملبس والمسكن والعلم ، ومن حق القادر أن يعمل، ومن حق العاجز أن يأكل، والأرامل والأيتام، وكذا من أقعده السن.
لو أنا أعتقنا الناس جميعا ومنحنا كلا منهم شبرا في الأرض وأزلنا أسباب الخوف، لحجبنا الشمس إذا شئنا بجنود يسعون إلى الموت، ليزودوا عن أشياء امتلكوها واكتشفوا كل معانيها

الحرية بأوجز كلمة: عظمة أمة
بهذه الكلمات الرائعة التي تشبه دستورا يعطى الحق في الحياة لكل الشعب في مساواة وعدل ينهى الكاتب الكبير (محمود دياب) مسرحيته التي لا تنسى (باب الفتوح)، وكأنه مازال القاضي الذى يجلس على منصة القضاء ليفصل في قضية خصومها الشعب والحكومة.
فقد كان (محمود دياب) واحدًا من أولئك الكتّاب الذين لم يكتفوا بأن يصفوا الحياة، بل حاكموها.. جمع بين ميزان العدالة ووهج الخيال، بين منصة القضاء وخشبة المسرح، فخرج أدبه صوتًا صادقًا يعبر عن الإنسان المصري البسيط – ذلك الذي يقف كل يوم في طابور العدل باحثًا عن دوره في الحياة.
ففي كل ما كتب (محمود دياب) يظهر جليا تأثره بنشأته ومهنته التي كانت لهما أثر كبيرعلى رحلته الإبداعية وانحيازه للشخصيات المقهورة والمسلوبة ، فقد ولد محمود دياب فى الإسماعيلية فى 25 أغسطس 1932.
وبعد أن نال شهادة البكالوريا، انتقل إلى القاهرة والتحق بكلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1951 وحصل على الليسانس فى القانون عام 1955، وعين نائبا بهيئة قضايا الدولة، ثم تدرج فى الوظائف القضائية بالهيئة حتى وصل إلى درجة المستشار، ثم طلب نقله إلى جهاز الثقافة الجماهيرية، حيث وجد في الثقافة ساحةً أوسع للعدالة.

البدايات كانت مبشرة
بدأ (محمود دياب) رحلته الأدبية بكتابة القصة القصيرة، فأصدر قصة (المعجزة) عام 1959، ثم مجموعة (خطاب من قبلي) التي نال عنها جائزة نادي القصة عام 1961.
لكن المسرح كان نداءه الأقوى.. ففي عام 1963 كتب أولى مسرحياته (البيت القديم) التي أعلنت ميلاد صوت جديد في المسرح المصري؛ صوت منحاز للإنسان البسيط، متمرّد على الظلم الاجتماعي والسياسي.
قال على لسان أحد أبطاله في تلك المسرحية: كل بيت قديم يحمل جدرانه أسرار من مرّوا فيه، ولكن جدار الوطن أثقل بالهمّ من كل البيوت.» فكانت هذه العبارة المفتاح الأول لعالم دياب، الذي لم يتوقف عن مساءلة الواقع ومجادلة السلطة.

الرمز و التاريخ والرقابة
في مسرحياته التالية: (الزوبعة – باب الفتوح – رجل طيب في ثلاث حكايات – ليالي الحصاد – الهلافيت – أرض لا تنبت الزهور – الضيوف)ـ صاغ (محمود دياب) مسرحًا يمزج بين الرمز والتاريخ والهمّ الاجتماعي، لكنه لم يكن يهرب إلى الرمز كما فعل بعض معاصريه، بل كان يستخدمه كسلاح لقول ما لا يمكن قوله مباشرة في زمنٍ رقابيٍّ شديد الحساسية.
في (باب الفتوح) مثلًا، جعل من شخصية (صلاح الدين الأيوبي) رمزًا لـ الزعيم الوطني جمال عبد الناصر، وعبّر من خلاله عن اغتراب الحاكم عن شعبه حين تحيط به الحاشية وتغيب عنه أصوات الفقراء حيث يقول أحد شخوص المسرحية مخاطبًا صلاح الدين: يا مولاي، السيف لا يبرق في الظلام إن لم يكن وراءه ضوء من العدل.. هذا السطر يلخّص دياب فلسفته كلها: العدالة أولًا، والسلطة بلا عدلٍ ظلامٌ آخر.
كان الاغتراب أحد أبرز موضوعاته.. لم يرَه مجرد غياب عن الوطن، بل غيابًا عن الذات، ففي ( الهلافيت) صوّر فقراء الريف وقد انقطعت صلتهم بالأرض التي عاشوا عليها، وفي ( الزوبعة) عبّر عن الانكسار الجماعي الذي تلا هزيمة 1967.
ولذا كتب عنها الناقد الكبير (محمود أمين العالم): إن (الزوبعة) من أنضج ما قدّمته مسارحنا خلال السنوات الأخيرة، إذ استطاعت أن تجعل من المأساة الوطنية دراما إنسانية كاملة.
وإلى جانب قضية الاغتراب كان انحياز (محمود دياب) واضحا للبسطاء والمهمّشين و استخدم الرمزية العميقة و استمد بعض موضوعاته من التراث العربي والتاريخ الإسلامي ربما هربا من الرقابة، من أجل تقديم النقد السياسي المغلف بالرمز، دفاعًا عن الحرية والكرامة.
ولكنه في جميع الأعمال كان يلتزم ببناء درامى صارم، ولغة شعرية مكثفة سواء كانت في نصوصه باللغة العربية الفصحى أما في النصوص المكتوبة العامية فقد قدمها من خلال ايقاع شعبي محبب.

جوائز وتكريمات
وبالرغم من المكانة الكبيرة لأعمال (محمود دياب)، وحصوله على عدة جوائز وتكريمات مثل جائزة المجمع اللغوي عن مسرحيته (البيت القديم)، وجائزة منظمة اليونسكو لأحسن كاتب مسرحي عربي عن (الزوبعة)، وتكريمه في اليوبيل الفضي للتليفزيون المصري (1985) بمنحه وسام اليوبيل، كما نال وسام القضاء وشهادة تقدير من الرئيس أنور السادات.
ورُشّح ممثلًا لمصر في مؤتمر المسرح العربي في بغداد، حيث فاز بجائزة أحسن كاتب عربي، برغم كل هذا لم تسلم مسرحيات (محمود دياب)، من سيف الرقابة، حيث منعت مسرحيتى (باب الفتوح، ورجل طيب في ثلاث حكايات) من العرض لفترة ثم اجازتهما بعد تعديلات.
أما مسرحيته (الهلافيت) فقد تم تقديم ليلة عرض واحدة لها فى قرية من قرى محافظة كفرالشيخ، ثم تم منعها من العرض بعد ذلك إلا أن الرقابة عادت ووافقت على عرضها مرة أخرى بعد فترة من الزمن وبالتحديد فى عام 1970، وكادت هذه المسرحية أن تُفقد للأبد غير أن الناقد فاروق عبدالقادر أنقذها من الضياع عندما دفع بها إلى النشر.

الهروب الى السينما
وحين ضاق (محمود دياب) بقيود المسرح الرقابية في السبعينيات، اتجه إلى السينما، فكتب السيناريو والحوار لعدة أفلام بارزة مثل (الظلال على الجانب الآخر (إخراج غالب شعث، و(الأخوة الأعداء) عن رواية الكاتب الروسى الكبير دوستويفسكي (الأخوة كرامازوف)، و(سونيا والمجنون) عن رواية (الجريمة والعقاب) لنفس الكاتب.
وفاز بجائزة أحسن حوار عام 1977 في مصر، وجائزة من موسكو كأفضل فيلم مأخوذ عن القصة نفسها متغلبا على الفيلم الأمريكي و الانجليزى المأخوذين عن نفس القصة.
وفي أكتوبر 1983 رحل (محمود دياب) عن خمسين عامًا فقط، لكن عمره الإبداعي بقي ممتدًا.. فقد ترك نصوصًا ما زالت تُدرَّس وتُعرض، لأن قضاياها مازالت حية: الحرية، العدالة، وكرامة الإنسان. مؤمنًا بأن المسرح ليس ترفيهًا بل رسالة وعي.. كتب مرة يقول: (حين يصمت الناس، يبقى المسرح وحده يتكلم).
رحم الله كاتبا عملاقا، كان قاضيًا يُصدر أحكامه بالكتابة، ومسرحيًا يحاكم العالم بالصدق، فإذا بالحياة كلها تتحول على يديه إلى مسرح كبير، بطله الإنسان المصري البسيط الذي لا يزال يبحث عن (باب الفتوح).