رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

عامر فؤاد عامر يكتب (عثمان الحناوي).. الباحث الذي عشق بليغ حمدي وصافح ذاكرة الغناء المصري

عامر فؤاد عامر يكتب (عثمان الحناوي).. الباحث الذي عشق بليغ حمدي وصافح ذاكرة الغناء المصري
عثمان مع شقيقته ميادة الحناوي

بقلم الكاتب السوري: عامر فؤاد عامر

برحيل الباحث الموسيقي (عثمان الحناوي)، فقدت الساحة العربيّة واحداً من أنبل عشّاقها، وأكثرهم إخلاصاً لذاكرة الغناء الأصيل.. لم يكن الرجل مجرّد باحثٍ موسيقيّ يجمع التسجيلات القديمة، بل كان ضميراً فنيًا حيّاً، يؤمن أنّ الأغنية العربيّة ليست ترفاً ثقافيّاً، بل مرآة لهويّة الأمّة وتاريخها العاطفي والاجتماعي.

منذ بداياته، حمل (عثمان الحناوي) همّ الحفاظ على التراث الغنائي، فأنشأ مكتبة موسيقيّة تعدّ من أغنى ما وُجد في العالم العربي، تضمّ أكثر من ألفي ساعة من التسجيلات النادرة، تمتد من عبد الوهاب إلى فريد الأطرش فالسنباطي، ومنيرة المهديّة إلى ميادة الحناوي.

ومن بليغ حمدي إلى سيد مكاوي. لم يكن يجمع تلك النوادر بدافع الحنين، بل عن وعي معرفي وبحثي يرى في الموسيقى وثيقة حضاريّة لا تقلّ أهمّيّة عن الكتب والمخطوطات.

عامر فؤاد عامر يكتب (عثمان الحناوي).. الباحث الذي عشق بليغ حمدي وصافح ذاكرة الغناء المصري
مصر ليست بلداً، بل نغمة.. فيها وُلد الغناء العربي بشكله الناضج

بين دمشق والقاهرة.. ذاكرة عابرة للحدود

وُلِدَ (عثمان الحناوي) في بيئةٍ حلبيّةٍ مشبعة بالمقامات والموشحات، لكنّه لم يقف عند حدود المدرسة الحلبيّة أو الدمشقيّة، بل شدّ الرحال فنّيّاً نحو القاهرة، بوصفها القلب النابض للأغنية العربيّة.

هناك، وجد ما كان يبحث عنه: مدرسة اللحن الدافئ والصدق الإنساني، التي جمعت بين جماليّات عبد الوهاب، وجلال السنباطي، وعبقريّة بليغ حمدي، الذي أصبح لاحقاً أحد أقرب الأسماء إلى وجدانه الفنّي.

كان يقول في أكثر من مناسبة: (مصر ليست بلداً، بل نغمة.. فيها وُلد الغناء العربي بشكله الناضج، وبليغ حمدي هو القلب الذي ظلّ يخفق فيه).

عامر فؤاد عامر يكتب (عثمان الحناوي).. الباحث الذي عشق بليغ حمدي وصافح ذاكرة الغناء المصري

عامر فؤاد عامر يكتب (عثمان الحناوي).. الباحث الذي عشق بليغ حمدي وصافح ذاكرة الغناء المصري
مع بليغ حمدي في القاهرة

بليغ حمدي… اللحن الذي لا يموت

لم تكن علاقة (عثمان الحناوي) ببليغ حمدي مجرّد إعجابٍ بملحن عبقري، بل ارتباط وجداني ومعرفي عميق. فقد وجد في بليغ نموذج الفنّان الذي يعبّر عن الناس بلغةٍ موسيقيّةٍ قريبةٍ من القلب، من دون أن يفقد عمقه الفنّي.

كان يرى في بليغ حمدي الحدّ الفاصل بين الكلاسيكيّة والحداثة، بين العاطفة الشعبيّة والذوق الراقي. وفي حديثٍ صحفيٍّ سابق، أجريته معه، قال: (بليغ حمدي هو اللحن الذي يمشي على الأرض، يختصر الوطن من المحيط إلى الخليج في جملة موسيقيّة واحدة).

ولعلّ ما زاد هذه العلاقة عمقاً هو تجربة شقيقته (ميادة الحناوي) مع بليغ، تلك المرحلة الذهبيّة التي أنتجت روائع مثل (الحب اللي كان، فاتت سنة، أنا بعشقك)، وغيرها المزيد.

كان (عثمان الحناوي) رفيق تلك الرحلة خطوة بخطوة، مستشاراً موسيقيّاً ومرافقاً وفيّاً، يعرف تماماً كيف تتحاور الروح الشاميّة مع النغمة المصريّة في مساحة واحدة من الصدق الفنّي.

عامر فؤاد عامر يكتب (عثمان الحناوي).. الباحث الذي عشق بليغ حمدي وصافح ذاكرة الغناء المصري
لم يكن (عثمان الحناوي) باحثاً متأمّلاً من بعيد، بل ناقداً جريئاً لا يخشى تسمية الأشياء بأسمائها

الباحث الناقد … والغيور على الذائقة

لم يكن (عثمان الحناوي) باحثاً متأمّلاً من بعيد، بل ناقداً جريئاً لا يخشى تسمية الأشياء بأسمائها. كان يرى أن الأغنية العربيّة تمرّ بأزمة ذائقة حقيقيّة، وأنّ الإعلام العربي شريك في هذا الانحدار من خلال تسليطه الضوء على “الفن السريع” وابتعاده عن الجذور الأصيلة.

قال في أحد حواراته: (في الماضي، لم يجرؤ أحد على دخول المعترك الفنّي وفي صوته شائبة، أمّا اليوم فالساحة مليئة بالأصوات المشوّهة، والإعلام يروّج لهم وكأنّهم حَمَلة راية الطرب),

لم يكن نقده غضباً عابراً، بل صرخة المثقف الطربي الذي يرى في الفنّ قيمة تربويّة وجماليّة معاً. دعا مراراً إلى إعادة الاعتبار للكلمة واللحن، وضرورة أن تتبنّى شركات الإنتاج الأصوات الأصيلة بدل اللهاث وراء الربح السريع.

وفي برنامجه الإذاعي الشهير (نثرات من ذهب الزمان) على راديو شام أف إم، جسّد تلك الفلسفة عمليّاً، فكان البرنامج مساحة تربويةّ فنّيّة، تعرّف المستمعين إلى جيل الروّاد: من فتحيّة أحمد إلى نجاة علي، ومن أسمهان إلى أم كلثوم، ومن بليغ إلى عبد الوهاب.

عن تجربته في هذه الفسحة الإذاعيّة التي تجاوز عمرها اثني عشرة عاماً من دون انقطاع، قال عنه: (أُقدّم القليل من الكلام والكثير من الغناء، لأنّ الغناء وحده كفيل بأن يُعلّم).

بين ميادة وبليغ.. الوفاء لمدرسة الأصالة

في دفاعه الدائم عن شقيقته ميادة الحناوي، كان عثمان يتحدّث عن مبدأ لا عن قرابة. كان يرى فيها امتداداً طبيعيّاً للمدّرسة المصريّة الأصيلة التي نشأت على يد السنباطي وبليغ وعبد الوهاب.

كان يقول عن ذلك: (ابتعدت ميادة عن الساحة لتبقى وفيّة للتاريخ الفنّي العريق، فالفنّ اليوم صار فنّ القشور والموديل، لا الصوت ولا المعنى).

هذه الجملة تختصر فلسفة (عثمان الحناوي) كلّها: الوفاء لما هو جميل، والتمسّك بما يليق بالفنّ من هيبة وصدق، حتّى لو كلّف ذلك الغياب.

عامر فؤاد عامر يكتب (عثمان الحناوي).. الباحث الذي عشق بليغ حمدي وصافح ذاكرة الغناء المصري
رحل (عثمان الحناوي) بصمت يشبه هدوء صوته الإذاعي، لكنّه ترك في الوجدان العربي أثراً لا يُمحى

وداع الباحث الذي أحبّ مصر

رحل (عثمان الحناوي) بصمت يشبه هدوء صوته الإذاعي، لكنّه ترك في الوجدان العربي أثراً لا يُمحى. رحل العاشق الذي جمع دمشق والقاهرة في نغمة واحدة، والباحث الذي رأى في بليغ حمدي تجسيداً لمفهوم الفنّ العربي الكبير.

لقد كان (عثمان الحناوي) يؤمن أنّ مصر هي قلب الغناء العربي، وأنّ من لا يعرفها لا يعرف معنى الطرب. لم يكن مصريّاً بالهويّة، لكنّه كان مصريّاً بالوجدان، شاميّاً بالعاطفة، عربيّاً بالانتماء، وإنسانيّاً في حبّه للفنّ.

سلامٌ على (عثمان الحناوي)، الباحث الذي جعل من أرشيفه مشروع ذاكرةٍ للأمّة، ومن نقده جرس إنذارٍ ضدّ الرداءة، ومن حنينه لجمال مصر دليلاً على أنّ الفنّ العظيم لا يُولد في مكانٍ واحد، بل في روحٍ تعرف الصدق أينما وُجد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.