رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(أحمد برين).. الموال الذي لم ينكسر

(أحمد برين).. الموال الذي لم ينكسر
سرعان ما صار حافظًا متمكنًا، يعرف مواقع الكلمات كما يعرف الفلاح مواقع الزرع في الحقل.

بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله

في الجنوب البعيد، حيث يضج النيل بالحكايات، وحيث تتعانق الشمس مع جدران الطين وتلوّنها بلون الذهب، جاء إلى الدنيا عام 1939 صوت من أصوات القدر: (أحمد برين).

وُلد في قرية سلوا بحري بمحافظة أسوان، من بيت له جذور ممتدة في قبيلة الجعافرة.. وُلد كفيفًا، لكن قلبه كان مبصرًا على نحو عجيب. لم ير النور بعينيه، لكنه عاش نورًا في قلوب الناس.

هناك، في كُتّاب قرية صغيرة مجاورة، جلس الطفل (أحمد برين)..  كان صوته يتهدج وهو يردد آيات القرآن الكريم خلف شيخه، بينما أصابعه تتحسس ألواح الخشب المدهونة بالحبر الأسود.

لم يكن يقرأ بالعين، بل بالذاكرة، بالحفظ الذي وهبه الله له.. كان الكُتّاب بالنسبة له بحرًا أوليًا، يمده بالمعرفة واليقين، ويغرس في وجدانه حب القرآن.

سرعان ما صار حافظًا متمكنًا، يعرف مواقع الكلمات كما يعرف الفلاح مواقع الزرع في الحقل.

كبر الطفل (أحمد برين)، وتوجه إلى القاهرة حيث الأزهر الشريف، ليحصل في ستينيات القرن العشرين على درجة الليسانس من كلية أصول الدين.

هناك، بين رحاب الأزهر، ازدادت بصيرته عمقًا، وصار العلم عنده سندًا للفن الذي كان يتشكل في داخله.

كان يجلس في أروقة الأزهر، يستمع إلى مشايخه، ويمتص الحكمة كما يمتص الطين ماء النيل.

تعلم (أحمد برين) أن الإيمان ليس كلمات تُقال فقط، بل حال يعيشه الإنسان في كل لحظة.

 ومن هنا تفتحت في قلبه بذرة الفن، وصار يرى أن الموال يمكن أن يكون وسيلة للوعظ، مثلما يكون وسيلة للطرب.

(أحمد برين).. الموال الذي لم ينكسر
بعد سنوات من الدراسة، استقر في قرية الدير بمركز إسنا في محافظة الأقصر

الدير.. المحطة الكبرى

بعد سنوات من الدراسة، استقر في قرية الدير بمركز إسنا في محافظة الأقصر.. كانت تلك المحطة الحاسمة في حياته.

في تلك الأرض التي تعانق فيها الأصوات الصوفية بأهازيج الصعيد، انطلق (أحمد برين) ليصنع اسمه كمنشد ومُغنٍ للمديح والموال الشعبي.

في الليالي العامرة، كان الناس يجتمعون حوله.. يفرشون الحصر في الساحات، يضيئون الفوانيس، وينتظرون اللحظة التي يرفع فيها صوته؛ وحين يبدأ، كانت القلوب تهتز كما تهتز السنابل على وقع الريح.

كانت النساء يجلسن خلف الرجال، والأطفال يتسابقون إلى الصفوف الأولى. وحين يعلو صوته بالموال، كان السكون يسود المكان، ثم لا يُسمع إلا نحيب  الباكين أو زغاريد الفرح، بحسب ما يختاره من مقام أو معنى.

لم يكن (أحمد برين) مجرد صوت، بل كان موسيقيًا بالفطرة. استخدم آلات بسيطة: الدف، الرق، الباز.. لكنها في يده لم تكن أدوات عادية، بل أجنحة يطير بها إلى عوالم بعيدة.

كان يلحن القصائد ويرتجل في اللحظة، في المناسبات القومية: يوم ثورة 23 يوليو، رحيل الملك فاروق، وحرب أكتوبر.

في إحدى الأمسيات، بعد عبور الجيش المصري قناة السويس، ارتجل قائلاً:

(يا نيل شاهد علينا… عبرنا ورفعنا الراية

ولادك يا مصر يا غالية… دمهم غطا السمايا).

فضجت الساحة بالتصفيق والتهليل.

(أحمد برين).. الموال الذي لم ينكسر
(أحمد برين) لم يغنِّ الموال كفن شعبي فقط، بل جعله فلسفة حياة

فلسفة الموال

(أحمد برين) لم يغنِّ الموال كفن شعبي فقط، بل جعله فلسفة حياة.

كان يخلط بين مدح النبي ﷺ ومواعظ الدنيا، بين قصص الأنبياء وتجارب البشر. الموال عنده كان مرآة تعكس الوجع والفرح والحكمة.

كان يقول:

خسارة الحر لو داسه الزمان ورماه

مما جراله يروح عند الخسيس ورماه

بيبكي وينوح عيونه من البكا وارماه

وأقولك الجد يا أخي سيب الخسيس ورماه

يا ليل يا ليل يا ليل يا عيني على آه

هذه الكلمات لم تكن مجرد شعر، بل كانت تجربة رجل عاش الوجع، ورأى غدر الدنيا، فحوّل الألم إلى حكمة.

(أحمد برين).. الموال الذي لم ينكسر
لم يكن يتردد في البوح بجرحه أمام الناس

الجرح في موال

لم يكن يتردد في البوح بجرحه أمام الناس.. كان صادقًا إلى الحد الذي يجعل السامع يظن أنه يشكو بالنيابة عنه.

طبيب لجراح طلب الود ياما لح

جواني بالنار كيه جار وأنا حي

شوفوا القسى في العمل والخبث وفاتونا

لو كانوا يا خلق بالمعروف فاتونا مكنتش أقول

آه يا عيش ويا ملحي

يا ليل يا ليل يا ليل يا عيني على آه

كل كلمة تخرج منه كأنها طلقة شجن تخترق الصدر.

(أحمد برين).. الموال الذي لم ينكسر
واحدة من أهم ملامح (أحمد برين) أنه لم يحصر نفسه في المديح الإسلامي فقط

بين المئذنة والجرس

واحدة من أهم ملامح (أحمد برين) أنه لم يحصر نفسه في المديح الإسلامي فقط، بل كان ينشد أيضًا في الليالي القبطية.

كان يقف بين الأجراس والمآذن، يمد صوته في مولد السيدة العذراء في أسيوط، فيردد الأناشيد الدينية بروح واحدة.

لم يفرق بين مسلم ومسيحي، بل رأى أن الفن والإيمان طريق واحد إلى الله.

هكذا صار صوته جسرًا يوصل الناس إلى بعضهم، ويكسر الحواجز بين العقائد.

(أحمد برين).. الموال الذي لم ينكسر
كان الليل أقرب الأصدقاء إلى (أحمد برين).. في وحدته

الليل صديقه

كان الليل أقرب الأصدقاء إلى (أحمد برين).. في وحدته، كان يرفع صوته بالشكوى والدعاء:

أشكو لمن رفع السما بلا عمد

إلهي تعالى مقتدر في علاه

على ما جراليا ويح قلبي لما جرالي

صابر على حضن الكريم مولاه

يا ليل يا ليل يا ليل يا عيني على آه

في هذه المواويل، يظهر قلبه المؤمن، المعلّق بالله، المستسلم لحكمته.

لم يقف صوته عند حدود الصعيد، ولا عند حدود مصر. سافر إلى بلاد عربية وأوروبية، وهناك كان الناس يسمعون صوته بدهشة.

 كانوا يرون فيه صورة مصر الأصيلة، مصر النيل والطمي والمواويل.

لم يفهم بعضهم اللغة تمامًا، لكنهم كانوا يبكون مع بكائه، ويهتزون مع دفه ورقه. كان صوته لغة عالمية للوجدان.

في باريس، مثلاً، جلس في قاعة صغيرة يؤدي موالاً عن سيدنا موسى والخضر.

 لم يفهم الفرنسيون كل الكلمات، لكنهم أحسوا بالرهبة والسكينة، فبكى بعضهم دون أن يدري لماذا.

(أحمد برين).. الموال الذي لم ينكسر
هكذا أعاد للسيرة الشعبية نبضها، وجعلها قريبة من الناس

حكايات السيرة الشعبية

إلى جانب الغناء، كان (أحمد برين) راوياً للسير الشعبية.. يروي قصص عنترة وأبو زيد الهلالي، يخلطها بالمديح، يضيف إليها من حكمته وتجربته.

في إحدى الليالي، جلس بين الرجال في الساحة، وقال: عنترة ما كانش فارس بس.. ده كان قلبه زي السيف، ما يظلمش حد.. وأبو زيد ما كانش راجل حرب وبس… ده كان جَسور، لكن في قلبه رحمة.”

فتعالت الهتافات: “الله… الله يا برين!”

هكذا أعاد للسيرة الشعبية نبضها، وجعلها قريبة من الناس.

رغم كل ما عاناه، كان الصبر عادته ودأبه. لم يكن يشكو بلسانه كثيرًا، بل يترك للموال أن يحمل شكواه:

أسهر وحدي ولا أقولش آه ده الجرح باقي.

كان يعلّم الناس أن الصبر قوة، وأن الجرح يمكن أن يكون مدرسة للتسامي.

(أحمد برين).. الموال الذي لم ينكسر
ترك (أحمد برين) مجموعة من الأعمال التي صارت علامات في الذاكرة الشعبية

إرثه الفني

ترك (أحمد برين) مجموعة من الأعمال التي صارت علامات في الذاكرة الشعبية:

* أقسمت بالكهف والبقرة وسورة العصر

* لما ناداني

* دنيا غروره

* يا حمام بتنوح ليه

* فرش وغطا

* ليه يا زمان متديش للأصيل عدلو

* هجروني مع المجاريح

* مدد مدد

هذه الأعمال ليست مجرد أغنيات، بل فصول من سيرة الجنوب، تروي وجع الناس وأملهم.

(أحمد برين).. الموال الذي لم ينكسر
(أحمد برين) باقٍ، لأنه لم يخرج من الحنجرة وحدها، بل خرج من القلب

أحمد برين.. صورة خالدة

عاش عمره مبصرًا بالقلب، لا بالعين.. رأى الجمال في البساطة، ورأى الحكمة في الألم.

صوته كان دواءً للناس، وجرحًا يذكّرهم بحقيقتهم، وجسرًا يصلهم بربهم وببعضهم.

اليوم، حين نستعيد صوته، ندرك أنه لم يكن مجرد منشد أو مغنٍ شعبي، بل كان شاهدًا على زمن، وحاملًا لتراث، ورمزًا لصوت لم يُطفئه العمى، بل جعله أوضح وأقوى.

(أحمد برين) باقٍ، لأنه لم يخرج من الحنجرة وحدها، بل خرج من القلب.. وصوت القلب، لا يموت.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.