
بقلم الكاتب الصحفي: محمود حسونة
ليس كل صاحب موهبة جدير بها مثل (فضل شاكر)، فالموهبة إما أن تأخذ صاحبها إلى العلا وإما أن تكون سبباً في سقوطه في الدرك الأسفل من الحياة.. الموهبة تقود من يجيدون توظيفها إلى عالم الشهرة والأضواء، وسرعة البديهة تمنحهم القدرة على الحكم الصائب على المحيطين بهم وتحصنهم من الوقوع فريسة للمستغلين والمنتفعين والمنافقين.
والذكاء يساعده على اتخاذ القرارات الصحيحة واختيار الأعمال التي تضيف ولا تنال من رصيده حتى يظل رصيده من النجاح ومن حب الناس يتضاعف ويتضاعف حتى يصل به إلى قمة النجومية.
كل مشهور حوله حاشية قد تساهم في نجاحه وقد تكون سبب خيبته، والموهوب المفتقد للذكاء وسرعة البديهة قد ينجح ولكنه نجاح مؤقت سرعان ما يزول نتيجة تخبطه في الاختيار والقرار، أو نتيجة وقوعه فريسة لمنتفعين يلقون به إلى تهلكة الجريمة أو المخدرات أو التطرف أو الابتذال، ليصبح مثار سخرية الساخرين ونقمة الغاضبين وعطف المتعاطفين.
عدد من المشاهير المصريين وغير المصريين ساقتهم أقدارهم إلى السجون أو إلى الانعزال الاختياري أو الإجباري سواءً من الفنانين، ممثلين ومغنين، أو من نجوم الرياضة بل وأيضاً من نجوم المجتمع، ساقتهم مواهبهم وشهرتهم إلى الوقوع في فخاخ نصبوها لأنفسهم أو نصبها لهم المحيطون بهم، والمجال هنا لا يتسع لذكر الأسماء نتيجة كثرتها.
ما يعنينا في هذا المقال هو المطرب اللبناني (فضل شاكر) صاحب الموهبة المتميزة والنجومية الممتدة من المحيط إلى الخليج والحضور الطاغي والأغاني العذبة، والتي أهلته ليحمل لقب (ملك الرومانسية) بعد (أمير الرومانسية)، ويجعله واحداً من أهم نجوم الغناء العربي. الموهبة فرضت نفسها وضمنت له النجاح والانتشار.
ولكنها لم تحمه، لا من النفس الأمارة بالسوء ولا من المحيطين به الذين عبثوا باسمه وبنجوميته، ورط نفسه أو ورطوه، أقنعوه بما عجزوا عن إقناع قطاع عريض من الجمهور العربي به، وبما عجزوا عن إقناع غيره من الفنانين الواثقين من رؤيتهم والمؤمنين بفنهم بأن الفن حرام.

انتمائه لجماعة أحمد الأسير
ليخرج على الرأي العام، في العام 2012 بعد أن أطلق لحيته معلناً اعتزاله الفن (بعد مشاورة بعض المشايخ)، مقتنعاً بأن (الفن حرام ويحرض على الرذيلة ويغضب الله).
كانت هذه هي الخطوة الأولى لتغيير قناعات (فضل شاكر) بعد انتمائه لجماعة أحمد الأسير التي تمردت على لبنان حكومة وجيشاً وشعباً، وتم منح فضل السني جرعة طائفية بعد انضمامه لحزب الله الشيعي لقتال وقتل الغاضبين بجوار نظام بشار الأسد الديكتاتور الفاسد.
لينتقل (أمير الرومانسية) صاحب الصوت الدافئ والإحساس المرهف من مجرد الاعتزال واعتبار الفن حراماً إلى حمل السلاح والترهيب والتخويف، عالم يتناقض تماماً مع عالمه الذي كان، والسبب أنه ترك المتطرفين يعبثون بعقله ويتلاعبون بمشاعره ويستغلون نجوميته فيما لا يتوافق مع رهافة حسه ومكنونات موهبته.
(فضل شاكر) تمت إدانته من القضاء العسكري اللبناني ولم يجد أمامه من حل سوى الهروب، ليختفي ويقبع داخل ظلمات التائهين في (مخيم عين الحلوة) في صيدا، اختفى وترك جمهوره حائراً متسائلاً عن الحقيقة والدوافع والأهداف والمصير وأسئلة أخرى كثيرة، كانت تدور في عقل محبي أغنياته وفي نفس الوقت تدور في عقله.
عاش التيه والضياع والعزلة والانعزال، ولعلها العزلة التي فرضت عليه التفكير وإعمال العقل والبحث والتقصي عن الحقيقة، حقيقة الفن وحقيقة التطرف، ليصل إليها بعد طول الغياب ويبدأ العودة بأغنيات جديدة أبدعها من بين جدران الخوف والضياع، ورغم غضب الناس منه إلا أن موهبته كانت شفيعاً له عندهم، استقبلوا جديده استقبال المشتاقين إلى فنه، أقبلوا على أغنيته لتحقق أعلى نسب مشاهدة.
(فضل شاكر) لم يتقبل لا الأحكام الصادرة بحقه ولا الاتهامات الموجهة له ولذا فقد أصدر قبل فترة بيانًا إعلاميًا كشف فيه عن تعرضه لما وصفه بالظلم على مدار أكثر من 13 عاما، مؤكدًا أن جميع التهم التي لاحقته كانت نتيجة تصفية حسابات سياسية ضيقة لا علاقة لها بأي أساس قانوني، نافياً أنه كان مطلوبًا للقضاء عند دخوله (مخيم عين الحلوة).

عودة منقوصة لكي يستكملها
بل لجأ إليه هربًا من تهديدات بالقتل، وأن المذكرات والأحكام القضائية صدرت لاحقًا دون مبرر واضح، ومؤكداً في بيانه أنه بريء من تهمة الاقتتال مع الجيش اللبناني، مطالباً الجهات المعنية بالتعامل مع ملفه كمواطن عادي بعيدًا عن أي أبعاد سياسية، معتبرًا أن 99% من مشكلته ستُحل بمجرد إزالة الطابع السياسي عن قضيته.
عاد (فضل شاكر) ولكنه لم يعد، عودة منقوصة لكي يستكملها لا بد أن يكفر عن خطاياه ويسلم نفسه، وهو ما فعله الأسبوع الماضي عندما قام بتسليم نفسه إلى إحدى وحدات مخابرات الجيش اللبناني موعوداً بمحاكمة جديدة بعد تأكيده أنه لم يرتكب القتل ولم يمارس ما يمارسه الإرهابيون.
تسليم (فضل شاكر) لنفسه أثار ردود فعل واسعة بين جمهوره والجمهور الرافض لسلوكياته خلال فترة الاختفاء، كثيرون اعتبروه مداناً ومكانه السجن للتكفير عن خطاياه، وكثيرون أيضاً اعتبروه بريئاً وأنه لم يرتكب ما يستحق عليه السجن.
وأنه يستحق البراءة وفرصة للعودة إلى عالم الفن مغرداً بأعذب الألحان، جدل سيحسمه قرار المحكمة، ولكن مجرد فتح الملف من جديد والتغاضي عن الأحكام السابقة يوحي بتوافر الإرادة لتبرئته والعفو عنه.
يتردد أن هناك وساطة سعودية رفيعة المستوى، أقنعته بتسليم نفسه بعد أن تلقت وعوداً بمحاكمة يسيرة له، ويؤكد ذلك أن أغنياته الأخيرة أنتجتها شركة سعودية، وكذلك المسلسل الوثائقي الذي أطلقته منصة (شاهد) هذا العام بعنوان (يا غايب)، والذي يروي قصة حياة فضل شاكر بصوته ولأول مرة تضمن الوثائقي شهادات مؤثرة عن مسيرته الفنية، واعتزاله، وتداعيات الأحداث التي غيرت مجرى حياته.
والعمل أثار الجدل حول صورة فضل شاكر الحقيقية، بين من رأى فيه مظلوماً ومن اعتبره مسؤولاً عن خياراته السياسية.
المعطيات توحي بأن (فضل شاكر) ستعاد محاكمته ليثبت براءته أمام الرأي العام ويحفظ للدولة اللبنانية كرامتها، ولكن أياً ما كانت نتيجة المحاكمة فإن ما حدث يؤكد أنه لم يستطع أن يحمي موهبته من عبث العابثين وإرادة المتطرفين.
وأن الفنان عندما يقرر أن يمارس لعبة السياسة فعليه احتمال نيرانها التي يمكنها أن تحرقه وتحرق موهبته؛ وكثير من الفنانين حرقتهم لعبة السياسة وأكثر من الكثير حرقهم العجز عن حماية موهبتهم من أصحاب المصالح.