

بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
على هامش زيارته الحالية للولايات المتحدة الأمريكية، أقرّ رئيس الوزراء الإسرائيلي (نتنياهو) بأن حكومته ترى في منصات التواصل الاجتماعي (سلاحاً) لدعم اليمين الإسرائيلي في الولايات المتحدة، وسط تصاعد الإدانات الدولية للإبادة الجماعية المستمرة بحق الفلسطينيين في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023.
وخلال اجتماعه مع مؤثّرين أمريكيين في القنصلية العامة لإسرائيل بنيويورك الجمعة 26 سبتمبر، ظهر في مقطع فيديو نشرته المؤثرة (ديبرا ليا) على حسابها في منصة إكس، وصف (نتنياهو) وسائل التواصل الاجتماعي بأنها (السلاح الأهم… لضمان قاعدتنا في الولايات المتحدة).
ومن ثم أضاف (نتنياهو) أن صفقة (تيك توك) هي أهم عملية شراء جارية الآن، معتبراً أن السيطرة عليها قد تكون “حاسمة”. كما تطرّق إلى منصة إكس، قائلاً: (علينا أن نتحدث مع (إيلون ماسك).. إنه ليس عدواً، بل صديق، زاعماً أنه إذا ما أمكن تأمين النفوذ على (تيك توك، وإكس) فإن إسرائيل (ستكسب الكثير)، على حد قوله.

صفقة ترامب الكبرى
تصريحات (نتانياهو).. تزامنت مع توقيع الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب)، قبل ذلك بيوم واحد، أمراً تنفيذياً صادق فيه على صفقة تنقل عمليات “تيك توك” في الولايات المتحدة إلى اتحاد شركات أمريكي، معتبراً أنها تلبي المتطلبات الأمنية الوطنية المنصوص عليها في القانون المحلي.
وقال ترامب إن اتحاد المستثمرين سيضم شركة أوراكل، ومايكل ديل، وروبرت مردوخ، والمعروف عن (روبرت مردوخ) وابنه (لاكلان مردوخ) إمتلاكهما لشبكة (فوكس نيوز) اليمينية الداعمة بقوة لإسرائيل، ومجموعة (نيوز كورب) الإعلامية، كما تملك العائلة أيضاً صحيفة (نيويورك بوست) التي اعتادت مهاجمة الناشطين المؤيدين لفلسطين وتلميع صورة جيش الاحتلال.
أما (مايكل ديل)، مدير (ديل تكنولوجيز)ـ فقد ارتبط اسمه بتزويد جيش الاحتلال بالتقنيات والبيانات التي عزّزت قدراته في حروبه على غزة ولبنان، إلى جانب دعم مؤسساته الأمنية مباشرة أو عبر شركات ناشئة تستحوذ عليها (ديل) في إسرائيل.
كذلك (أوراكل) معروفة بقربها من ترامب وتشديدها الرقابة الداخلية على أي نشاط مؤيد للقضية الفلسطينية، وقد تعاونت (أوراكل) مع الحكومة الإسرائيلية في مجالات التكنولوجيا والبنية التحتية العسكرية، فيما سبق لمديرها التنفيذي (لاري إليسون) أن عرض على نتنياهو الانضمام إلى مجلس إدارة الشركة ودعاه إلى جزيرته الخاصة في هاواي.

السيطرة على الوعي
تلك التطورات المتلاحقة ومن ثم تصريحات (نتنياهو) بشأن السيطرة على منصات التواصل الإجتماعي، جاءت بينما تواجه إسرائيل عزلة متزايدة بسبب حرب الإبادة التي تشنّها على غزة، والتي أسفرت عن استشهاد أكثر من 65 ألف فلسطيني، غالبيتهم الساحقة من النساء والأطفال، منذ أكتوبر 2023.
كما تأتي في توقيت ترغب فيه إسرائيل تكميم الأفواه ومنع كافة وسائل الإعلام من المضي قدماً في كشف جرائمها أو توجيه النقد لها.
قبل أيام قليلة.. كشفت القناة 14 الإسرائيلية، عن تقرير لموقع (واشنطن فري بيكون) الأمريكي، يفيد بأن قلقاً يسود الأوساط السياسية والإعلامية في الولايات المتحدة، بعدما تبين أن روبوتات المحادثة الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، مثل “شات جي بي تي، وجوجل جيميناي، وغروك) على منصة إكس، تصنّف قناة (الجزيرة) كأحد أبرز مصادرها وأكثرها موثوقية في تغطية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ووفقاً للتحليل، فإن منصات الذكاء الاصطناعي الكبرى تشيد بالجزيرة باعتبارها مصدراً يتميز بـ (المصداقية الأكاديمية، والتفاصيل الميدانية، والحضور العالمي)، الأمر الذي أثار جدلاً في الكونجرس الأمريكي حول مدى قدرة هذه المنصات على تقديم رواية (موضوعية) للحرب في غزة.
حيث أفاد (شات جي بي تي)، أكثر روبوتات الذكاء الاصطناعي استخداماً في العالم، أنه خلال الشهر الماضي استشهد بتقارير الجزيرة أكثر من أي وسيلة إعلامية أخرى تقريباً، بما في ذلك (نيويورك تايمز، ووكالة أسوشييتد برس).
وأوضح أنه يعتمد أيضاً على رويترز وصحيفة (هآرتس)، لكنه وضع الجزيرة ورويترز في صدارة قائمة مصادره (شديدة التكرار).
أما (جوجل جيميناي)، فقد أدرج الجزيرة في قائمة مصادره الأكثر موثوقية بشأن قضايا الشرق الأوسط، إلى جانب منصات تنتقد السياسات الإسرائيلية صراحة مثل مجلة +972 وموقع (موندويس) ومنظمة (بتسيلم) الحقوقية.. وأكد (جيميناي) أنه يتجنب المصادر الإخبارية المؤيدة للاحتلال الإسرائيلي بشكل مباشر، باعتبارها (دعائية) وليست صحافة مهنية.
في السياق نفسه، قالت منصة (بيربليكسيتي) – التي يقدر عدد مستخدميها بـ 22 مليوناً – إن اعتمادها على الجزيرة يعود إلى تغطيتها الواسعة، ومعاييرها التحريرية الراسخة، وقدرتها على إبراز القصص التي لا تجد مساحة كافية في وسائل الإعلام الغربية.
أما (غروك) التابع لمنصة (إكس)، فدافع عن اعتماده على الجزيرة، مشدداً على أنها (تلتزم بالمعايير الصحفية، وتوظف صحفيين محترفين، وتقدّم تفاصيل قابلة للتحقق بشأن الضحايا والتأثيرات الإنسانية)، مؤكداً أن هذه المعطيات غالباً ما يتم التحقق منها عبر الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى.

دعم أكاديمي واتهامات إسرائيلية
أوضح (شات جي بي تي) أن جزءاً من اعتماده على الجزيرة يعود إلى كون جامعات بارزة مثل (هارفارد، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا – (MIT تدرجها ضمن قوائم الموارد الموثوقة لدراسة النزاعات، بما في ذلك الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
لكن في المقابل، اعتبرت القناة 14 الإسرائيلية أن هذا الاعتماد الواسع على الجزيرة (أمر مثير للقلق)، خاصة وأن الاحتلال الإسرائيلي يتهم القناة القطرية بـ (التحيز) وتبرر استهدافها لصحافييها في غزة بزعم انتمائهم لفصائل فلسطينية مسلحة، وهو ما تنفيه القناة بشدة.
وبحسب التقرير، فإن اعتماد روبوتات الذكاء الاصطناعي على الجزيرة قد يكون وراء النتائج التي توصلت إليها عند الإجابة عن أسئلة متعلقة بجرائم الحرب في غزة.. إذ خلص (شات جي بي تي) إلى أن (الأدلة قوية وتزداد مع مرور الوقت) بشأن احتمال ارتكاب الاحتلال الإسرائيلي جريمة (إبادة جماعية).
مضيفاً: هناك سبب جاد للاعتقاد بأن إبادة جماعية قد تكون جارية في غزة، لكن لم يصدر بعد حكم قضائي ملزم، كما أشار الروبوت إلى أن الاحتلال تسبب في (مجاعة) داخل القطاع، مستنداً إلى تقارير أممية وحقوقية متكررة.
ويرى معهد (واشنطن فري بيكون)، أن لجوء شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى إلى الجزيرة كمصدر رئيسي للمعلومات، يثير “تساؤلات جوهرية” حول مدى حيادية هذه المنصات، في وقت تتحول فيه تقارير الذكاء الاصطناعي تدريجياً إلى مصدر أساسي للأخبار لدى ملايين المستخدمين حول العالم.
ومنذ بداية حربها على قطاع غزة، لم تكتف إسرائيل بالقصف والتدمير الميداني، بل نقلت معركتها إلى الفضاء الرقمي مستخدمة سلاحا آخر هو الإعلانات الممولة.
فبينما تضاعف الدعم الشعبي والحقوقي العالمي للقضية الفلسطينية، كثفت إسرائيل حملاتها الدعائية المدفوعة عبر منصات مثل غوغل وميتا، في محاولة لتشويه أي حراك تضامني مع غزة.
آخر تلك الحملات استهدفت أسطول الصمود، المبادرة العالمية التي انطلقت من عدة دول أوروبية بمشاركة عشرات السفن لكسر الحصار البحري وإيصال المساعدات إلى قطاع غزة.

كيف بدأت الحملة؟
منذ الإعلان عن انطلاق الأسطول، جرى رصد حملة إسرائيلية منظمة، شاركت فيها حسابات رسمية مثل وزارة الخارجية الإسرائيلية، وأخرى غير رسمية، لتصوير الحملة التضامنية باعتبارها (أسطول الإرهاب).
واعتمدت إسرائيل في حملتها على وكالة الإعلان الحكومية (لابام/ آي جي إيه إيه – (Lapam/IGAA، وهي الجهة الرسمية المكلفة بتنفيذ الحملات الدعائية داخل إسرائيل وخارجها، بدءا من التوظيف والخدمة العسكرية. ومع اتساع رقعة الحرب على غزة، تحولت الوكالة إلى أداة مركزية في الحملات الدولية لتلميع صورة إسرائيل وتبرير جرائمها.
تحليل أجرته (الجزيرة تحقق) عبر أداة شفافية جوجل أظهر أن الوكالة نشرت منذ 7 أكتوبر 2023 أكثر من 5 آلاف إعلان ممول، بينها 3 آلاف موجّهة للداخل الإسرائيلي، والبقية استهدفت أوروبا والعالم العربي، خصوصا في ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة.
وركزت الحملة الإسرائيلية على إنكار المجاعة في قطاع غزة عبر نشر مقاطع عشوائية للطعام بلا سياق، في محاولة لإظهار أن القطاع لا يعاني من أزمة إنسانية.
كما استهدفت وكالة الأونروا بربط موظفيها مباشرة بهجوم السابع من أكتوبر، إلى جانب تشويه سمعة شخصيات دولية بارزة مثل المقررة الأممية فرانشيسكا ألبانيزي من خلال تقارير مضللة تطعن في مصداقيتها.. ولم تسلم أيضا منظمات حقوقية مثل مؤسسة هند رجب من هذه الحملات.
أكثر من نصف هذه الإعلانات وجّه إلى جمهور موقع يوتيوب، في حين ظهر الجزء الآخر على محرك بحث جوجل متصدرا نتائج البحث عن كلمات مفتاحية متعلقة بغزة.


إنفاق هائل لتغيير الرواية
وثائق وزارة المالية الإسرائيلية كشفت أن الحكومة خصصت نحو 174 مليون شيكل (51.8 مليون دولار) للحملات الإعلانية بين يونيو وديسمبر 2025، منها 44.8 مليون دولار موجهة مباشرة إلى منصات جوجل، بينها 17.9 مليونا ليوتيوب وحده، إضافة إلى نحو 3 ملايين دولار عبر منصة إكس.
ووفقا لما نشرته وسائل إعلام إسرائيلية، فإن الحملات تتضمن مقاطع فيديو يشارك فيها رئيس الوزراء (نتنياهو) ووزارة الخارجية، وذلك بهدف مواجهة المزاعم المتعلقة بـ (المجاعة في غزة)، وتعزيز الرواية الإسرائيلية أمام الجمهور العالمي.
وأضافت وسائل الإعلام نقلا عن الوكالة الإسرائيلية أنه تم تبرير الإعفاء بدواع (ملحّة) لتنفيذ حملات موجهة على الصعيد الدولي بالاستفادة من وسائل الإعلام الرقمية خارج إسرائيل.
هذا الإنفاق الضخم عكس حجم الرهان الإسرائيلي على الإعلانات الممولة كأداة مركزية لصناعة سردية بديلة تناقض ما تكشفه التقارير الحقوقية والصور الميدانية من غزة، وفي أحدث حلقات هذه الحملة، نشرت مواقع حكومية إسرائيلية تقارير دعائية تصف أسطول الصمود بأنه (مشروع إرهابي) تديره حركة (حماس) عبر واجهات مدنية وحقوقية.

استهداف أسطول الصمود
وجاء استهداف أسطول الصمود عبر تقرير منشور على موقع حكومي رسمي اعتاد نشر مواد دعائية مشابهة، كما حدث سابقا مع الحملات ضد فرانشيسكا ألبانيزي ومؤسسة هند رجب.
التقرير الممول صيغ باللغة الإنجليزية صياغة مختصرة، ووسم الأسطول بـ (أسطول الإرهاب)، زاعما أنه يكشف (شبكات خفية) تقف وراءه، ويقود الرابط المرفق إلى تقرير أطول يمكن تنزيله، يتضمن سردا مفصلا يحاول نزع الصبغة الإنسانية عن المبادرة، والادعاء بأنها جزء من حملة عالمية لتشويه إسرائيل وترويج رواية حماس.
وذهب التقرير إلى حد اتهام الحملة بأنها تدار من قبل حماس عبر مسارات متعددة منها حقوقية مدنية من خلال منظمات تنشط في أوروبا، ودينية عبر جمعيات مثل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، كما اعتمد على مصادر عربية -من بينها تقارير للجزيرة- في سياقات مجتزأة، محاولا اختزال الأسطول في عدد محدود من الأفراد وربطهم بحماس.
لكن اللافت أن التقرير تجاهل عمدا العدد الكبير من النشطاء والسياسيين الأوروبيين المشاركين في الأسطول، وبينهم برلمانيون معروفون، ووسع دائرة الاستهداف لتشمل كل من يروج لرحلة الأسطول أو يتفاعل معها عبر المنصات الرقمية، زاعما أن هذا التفاعل منظم ويعتمد على مؤثرين مدعومين من حماس، لا على تضامن شعبي حقيقي.
وفي سياق التتبع، جرى رصد إعلانًا ممولًا استهدف أسطول الصمود بالاتهامات نفسها، هذه المرة على منصة فيسبوك، وانطلق يوم 19 سبتمبر ، متزامنا مع إعلان الحكومة الإسرائيلية.
هذا الإعلان أنشأته مؤسسة إيطالية تدعى setteottobre (السابع من أكتوبر)، يرأسها السياسي الإيطالي ستيفانو باريزي، وتقدم نفسها بوصفها منظمة حقوقية لمكافحة “الإرهاب”، غير أن تحليل منشوراتها يظهر خطابا ثابتا يبرر الجرائم الإسرائيلية وينكر حقوق الفلسطينيين، مع ربط متكرر للأحداث بالهولوكوست، في محاولة للتأثير على الرأي العام الأوروبي.
المؤسسة ذاتها أنشأت إعلانات ممولة عدة استهدفت المبادرات الداعمة لفلسطين، كان آخرها أسطول الصمود الذي حظي بدعم واسع من ناشطين إيطاليين.. وقد نشرت أكثر من منشور تصف فيه الأسطول بأنه (أداة لتشويه صورة إسرائيل وبث الكراهية ضدها)، منتقدة المظاهرات الشعبية المؤيدة له داخل إيطاليا.
إجمالاً.. تؤكد كافة التطورات المتلاحقة والبيانات الرقمية أن اعتماد إسرائيل على الإعلانات الممولة في حملاتها يتزايد بشكل ملحوظ، في إطار إستراتيجية متعددة المنصات تهدف إلى صناعة رواية موازية، تبرر الجرائم في غزة وتضعف الزخم العالمي المتنامي لصالح الفلسطينيين.. وللحديث بقية.