
بقلم المخرج الكبير: عصام السيد
كثيرا ما أقيم ورشا تدريبية للإخراج المسرحى، بعضها في الحقيقة هى محاضرات في (أسس الإخراج المسرحى) أو ما يُسمى أحيانًا حرفية (الإخراج) التي تهدف الى تزويد المتدرب أو الطالب بالمبادئ النظرية والمهارات العملية التي يحتاجها المخرج لقيادة العمل المسرحي.
عن طريق دراسة القواعد والمبادئ الفنية والتنظيمية التي يقوم عليها فن (الإخراج)، بما يشمل تحليل النص، صياغة الرؤية الإخراجية، تنظيم عناصر العرض (الديكور، الإضاءة، الملابس، الحركة، الصوت)، والتعامل مع الممثلين والجمهور، بهدف تحقيق وحدة فنية متكاملة تعكس الفكرة الأساسية للعرض المسرحي.
و كثيرا ما يطالبنى البعض أثناء تلك الورش بأن أروى بعضا من تجاربى الشخصية في (الإخراج)، خاصة أن لى مسيرة تقترب من خمسين عاما في هذا المجال، قدمت خلالها اكثر من 70 عملا مسرحيا تعاملت فيها مع كبار النجوم منهم (أمينة رزق، أحمد مظهر، نور الشريف، بوسي، عزت العلايلي، حسين فهمي، سعيد صالح، جورج سيدهم، نبيل الحلفاوى، عبد الرحمن أبو زهرة، فاروق الفيشاوى، محمود الجندي، هالة فاخر).
وساهمت في ظهور نجوم تعاملوا معى في بداياتهم مثل: (عبلة كامل، محمد سعد، أشرف عبد الباقي، بيومي فؤاد، محمد ممدوح – تايسون، أحمد آدم، طلعت زكريا)، ولكني كنت دائما أرفض أن تتحول الورشة إلى مجرد ذكريات وحواديت، و لكن من كل هؤلاء تعلمت دروسا وخبرة مكنتنى من الاستمرار وأن أقف اليوم لأحاضر.
أحد أهم الدروس تعلمتها في (الإخراج) من (الأستاذ) الذى حلت الذكرى الأولى بعد المائة لميلاده والذكرى التاسعة عشر لوفاته الأسبوع الماضي، فقد ولد وتوفى في نفس الشهر و لكن بفارق اثنين وثمانين عاما، إذ ولد في عام 1924 وتوفى في عام 2006 تحت اسم فؤاد زكى محمد المهندس و اشتهر باسم فؤاد المهندس و طوال الوقت ظل لقبه أو اسمه الكودي (الأستاذ).

مسرحية (روحية اتخطفت)
فعندما اقتربت من الأستاذ في عام 1990 لأخرج له مسرحية (روحية اتخطفت)، التي أعادت أشهر ثنائى فنى إلى العمل معا (فؤاد المهندس وشويكار) بعد غيبة تزيد عن 10 سنوات، كنت أعلم عنه الكثير بحكم متابعتى لأعماله وبحكم صداقتى لكثيرين عملوا معه، و أيضا بحكم جلسات التحضير التي كنا نعقدها مع المؤلف (بسيونى عثمان) – رحمه الله في منزل منتج المسرحية الأستاذ عصام إمام.
ولكن بمجرد أن بدأت التدريبات حتى وقعت المشكلة الأولى والأخيرة بينى وبين (الأستاذ)، والتي تعلمت منها درسا هاما في كيفية إدارة العلاقة بين الممثل والمخرج خاصة إذا كان نجما.
عندما جلسنا حول (الترابيزة) لنجرى بروفات الأداء بعد اكتمال النص والكاست كنت أقول ملاحظاتى لفريق العمل جميعه: الأستاذ والفنانة الكبيرة شويكار والنجمة بوسي والنجم أحمد راتب، وكان الكل يتلقاها بطيب خاطر، إلا الأستاذ الذى كان يناقشنى في كل ملحوظة تخصه وربما يقترح عكس ما أقول، أو يعدد احتمالات كثيرة للجملة الواحدة، و كنت مدركا أن حرصه على تقديم عمل متماسك يليق بتاريخه هو ما يدفعه لهذا.
كما أنه مارس (الإخراج) ويعرفه أسسه وأساليبه، وبالتالى فهو يملك وجهة نظر في النص.. و كنت مع كل مناقشة أقف لأعيد شرح الموقف بأكمله وماذا أقصد بالملحوظة، وكيف سيتم استغلالها فيما بعد سواء في تأكيد الشخصية أو في تفجير الضحك مما كان يستهلك وقتا أطول مما يجب.
تكرر الأمر فذهبت إلى المنتج الأستاذ عصام إمام – بعد أيام قلائل – طالبا قبول اعتذارى عن الاستمرار في العمل، فسألنى لماذا؟، فقلت لأننى لست على وفاق مع الأستاذ فكلانا له أسلوب في التفكير يختلف عن الآخر، ولن أخضع لرأي لست مقتنعا به حتى لو كان لنجم العمل.
وقلت بصريح العبارة (أنا باحب أخرج لوحدي، وما احبش حد يخرج معايا)، ولذا أفضل الانسحاب.. وجاء رد (إمام) صادما لي، إذ قال لى المخرج هو سيد العمل، هكذا تربينا وأنت حر في تصرفك حتى لو أدى الأمر لتغيير الكاست!
أسقط في يدى.. بالطبع أدركت أن (إمام) لا يريد تغيير الأستاذ، و لكنه رمى الكرة في ملعبى وأعطانى كافة الصلاحيات لحل المشكلة وهو موقن بأننى لن أطلب تغيير الأستاذ..
وبعد طول تفكير تعمدت في اليوم التالى ألا أقول أي ملاحظات للأستاذ على الإطلاق، على عكس باقى الممثلين، و في استراحة بين المشاهد اقتربت منه وبدأت أهمس له ببعض الملاحظات على أنها اقتراحات، فلم يناقشنى طويلا، بل استمع أكثر، وبدأ يطور معي تلك (الاقتراحات) وتوهج فجأة و بدت عليه السعادة، فأدركت أننى عثرت على لوحة مفاتيح الأستاذ.

علاقة المخرج بالممثل
بدأت اقتراحاتى تتوالى وهو يقبلها بسعادة وإذا رأيت انحرافا عنها أعدته إليها باقتراحات جديدة وشيئا فشيئا بدأت العلاقة تسودها الثقة وحذره يصبح اطمئنان، حتى صرح فيما بعد في أحد البرامج التليفزيونية أن المسرحية عندما عرضت عليه وجد مخرجها شابا صغيرا لا يتجاوز 28 عاما – كنت وقتها أكبر بحوالي 10 سنوات – و لكنه عندما تعامل معه وجده (اختراع) بنص عبارته.
تعلمت من هذا الموقف أشياء كثيرة ودروسا صارت قواعد أقولها لمن أدربهم دون أن أروى الوقائع، ومنها أن علاقة المخرج بالممثل تخضع في البداية لعوامل من الشد والجذب تشبه بدايات مباريات الكرة حيث يقيس كل فريق عناصر قوة ومواطن ضعف الفريق الآخر، إلى أن يجد كل منهم صيغة للتعامل تريحه وترضيه ويقبلها الطرف الآخر.
ولذا عليك أن تكون صبورا في تلك المرحلة ولا تبنى فيها موقفا نهائيا من الشخص الذى أمامك حتى تكتشفه بالكامل، فلكل ممثل مفاتيحه الخاصة التي يجب على المخرج العثور عليها ليعرف كيف يجعله يصدر اجمل النغمات.. وعندما ستحوز ثقة الطرف الآخر ستجد أن التعامل أصبح أسهل والتوجس أقل.
وأن الممثل لو يمتلك أسلوبا خاصا به فلا تحاول كسره مرة واحدة بل تدريجيا، ومن خلال مناقشات مستفيضة خارج وقت البروفة حتى لا تعطل الباقين.. وأن أفضل السبل لقيادة الممثل أن تقنعه بأنه شريك في خلق الشخصية وليس قطعة شطرنج في يد المخرج.
رحم الله الأستاذ وجعل مثواه الجنة جزاءا على امتاعنا به من فن وما تعلمنا منه من دروس في (الإخراج) وأساليب التعامل مع الممثل.