
بقلم الكاتب الصحفي: محمود حسونة
انقلبت الآية.. فنانون عالميون بل ويهود يحتجون على (الحرب) الصهيونية على غزة، والفنانون العرب يلتزمون الصمت إما خوفاً أو طمعاً.
هذه (الحرب) تكشف أن عالمنا أصبح شديد القسوة بالغ العجز منزوع الإنسانية خاوي القيم، ينحني أمام الأقوياء ويبيد الضعفاء، لا يعرف الكرامة ولا ينتفض أمام المهانة، ينساق كما القطيع وراء القوة العظمى ويخشى بطشها مهما بلغ فسادها، وفي حالة ابتلاعه حبوب الشجاعة يكتفي بالشجب والتنديد ولا يفكر في اتخاذ أي خطوات عملية لإنقاذ الحمَل من فم الأسد.
لو أن العالم تشغله مبادئ العدالة وحقوق الإنسان لما التزم الصمت ولما استمرّت إسرائيل تعيث في غزة والضفة تدميراً وتقتيلاً في (الحرب) وتخريباً وإبادة على مدار عامين، ولو أن المنظمات الدولية لها قيمة فعلية لما اكتفت بالقول دون الفعل، ولو أن مجلس الأمن حريص على أمن وأمان العالم لاتخذ موقفاً يتجاوز الفيتو المشهر دائماً في وجه الحق وأصحابه.
والمسؤولية على ما يحدث في فلسطين لا تتحملها فقط المارقة الباغية إسرائيل ولا الظالمة المستقوية أمريكا ولكن يتحملها العالم كله من أقصاه إلى أدناه، ويتحمل النصيب الأكبر عالمنا العربي الذي لم تحرك المجازر اليومية بحق الأطفال والنساء والشيوخ ولا الحصار والتجويع والتعطيش سواكنه.
مهرجانات فنية أقيمت في دول عربية مختلفة وخلت من أي مظاهر تعاطف، فنانون تم منعهم من الاشتراك في أعمال بسبب تعاطفهم؛ ورغم ذلك لم يخل الأمر من بعض الاستثناءات، مثل الدورة الماضية من مهرجاني القاهرة والجونة السينمائيين.
وخلال الأسبوع الماضي (مهرجان بغداد) ليالي فنية ومهرجانات كثيرة وصخب واحتفالات صيفية وشتوية للغناء والرقص واللهو لم تنتبه أن كارثة تحل بالمنطقة وأن شعباً عربياً يباد أمام أعين العالم.

(صوت هند رجب)
رغم القتامة التي ظللت صورة الإنسانية خلال هذه (الحرب)، ورغم أن بعض دولنا أخرست صوت أصحاب بقايا الضمير ورغم أن فنانينا آثروا الصمت سواء كان خوفاً أو طمعاً، ورغم أن شعوبنا لم تجد فرصة للتعبير والتضامن، إلا أن هذه الحرب أيقظت ضمائر شعوب وفنانين ومؤثرين وسياسيين حول العالم.
تفاعلوا وعبروا وغضبوا ونددوا وقاطعوا كل ما هو إسرائيلي، والغريب أن بينهم فنانين يهود لديهم ضمائر يقظة ومشاعر إنسانية متوهجة دفعتهم للخروج للتنديد علناً بإسرائيل وبالصهيونية.
كم هو مؤلم لنا نحن العرب والمسلمين أن نجد رموزنا يلتزمون الصمت، في ذات الوقت الذي ينتفض فيه فنانون يهود وغربيون وعالميون تنديداً ورفضاً لإجرام المارقة الباغية. نتألم لأننا كنا ننتظر من فنانينا التعبير بأي لغة ممكنة، لغة الكلام والتصريح أو لغة الفعل من خلال تقديم أعمال فنية من قلب المأساة.
نتألم أن هذه (الحرب) التي خلفت آلاف قصص الظلم والتجبر لم تجذب ولو مأساة واحدة منها فنانينا لتقديمها في عمل درامي أو سينمائي أو مسرحي، باستثناء فيلم (صوت هند رجب) الذي قدمته المخرجة التونسية (كوثر بن هنية) ونال التكريم والتقدير والجوائز من مهرجان فينسيا السينمائي الذي يقام أيضاً خارج ديارنا.
حكايات الأطفال والعائلات التي أبيدت عن بكرة أبيها والصحفيين والمسعفين والأطباء والممرضين والمستشفيات والمدارس والمزارع والأبراج وأبنية الأونروا، وأيضاً حكايات الخونة والجواسيس والطامعين في السلطة، مئات بل آلاف الحكايات في غزة وأيضاً في الضفة تستحق أن تروى وتُخلّد وتُسوّق عالمياً لفضح إسرائيل وجرائمها.
لم يتم الالتفات إليها سوى من مخرجة عربية واحدة هي كوثر بن هنية، ولعل ما شجعها الدعم الذي لقيته من نجوم عالميين مثل براد بيت وخواكين فينيكس.
نعم غزة تدمرت، ولكنها أيقظت ضمائر بعض ممن لا تزال بداخلهم بقايا إنسانية، ورغم التخاذل الرسمي عند كثير من الدول والعجز المزري لدى المنظمات الدولية إلا أن الشعوب تحركت، ونتابع يومياً مظاهرات في دول مختلفة.
الدولة التي يتوافق ويتناغم فيها الموقف الرسمي مع الموقف الشعبي هي أسبانيا، التي لا تقتصر فيها المظاهرات على المدن الكبرى ولكن تمتد إلى القرى والمدن الصغيرة، وعدة مرات يجسد إسبانيون العلم الفلسطيني بأجسادهم.
ويكفي المشهد غير المسبوق في تاريخ الرياضة الذي حدث الأسبوع الماضي عندما قطعت جماهير إسبانية طريق مرور فريق السباقات الإسرائيلي في مسابقة دولية للدراجات ومنعتهم من مواصلة السباق إحتجاجاً على المجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة.. قطعوا الطريق بالكامل ورفعوا أعلاماً فلسطينية.

بيدرو سانشيز
وبدلاً من أن تقمع حكومة أسبانيا المظاهرات مثل بعض الدول، خرج رئيس وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز في أحد المناسبات ليقول: (أنا سعيد برؤية الأعلام الفلسطينية خلفي، وأود أن أعبر عن سعادتي برؤية شعبي يقف إلى جانب شعب فلسطين ضد الظلم، واستغرب من صمت الآخرين عما يجري في غزة).
كما أصدر عدة قرارات ضد إسرائيل منها: تجريم تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، إغلاق الموانئ الأسبانية أمام البواخر التي تحمل أسلحة ومنظومات دفاعية إلى إسرائيل، منع ناقلات الوقود التي تزود الجيش الإسرائيلي بالوقود من الرسو في الموانئ.
موقف الفنانة اليهودية الأمريكية هانا أينبيندر خلال تسلمها جائزة أحسن ممثلة مساعدة خلال حفل توزيع (جوائز إيمي) كان مفاجئاً للعالم كله عندما هتفت: (لتذهب إسرائيل إلى الجحيم، الحرية لفلسطين).
ويوم 12 سبتمبر الماضي نظم فنانون وأدباء إسرائيليون احتجاجاً ضد الحرب في تل أبيب مرتدين ملابس سوداء حاملين لافتات بالعربية والعبرية والإنجليزية مكتوب عليها “الإبادة الثقافية هي حرب على الذاكرة”، وقفوا بالقرب مما يُعرف بـ”ساحة الرهائن”، وقاموا بتوزيع منشورات جاء فيها:
(نقف هنا اليوم، فنانون ومبدعون وعاملون في المجال الثقافي، لنرفع أصواتنا ضد الجرائم التي تُرتكب باسمنا. منذ بداية الحرب قُتل أكثر من 64 ألف شخص في غزة، وجُرح أكثر من 160 ألفاً، من بينهم عشرات الفنانين والكُتّاب والناشطين الثقافيين).
4000 فنان عالمي انضموا لحملة مقاطعة إسرائيل كلياً، وفنانون من دول مختلفة شاركوا في مظاهرات، وفنانون أمريكيون وجّهوا رسائل غاضبة لحكومتهم على موقفها الداعم لإسرائيل وانتقدوا بأشد العبارات جنون ترامب.
كل هذا يحدث وفنانونا ومثقفونا يلتزمون الصمت إما خوفاً أو طمعاً.. ما يعني أن الآية قد انقلبت.