

بقلم الدكتورة: كرمة سامي
أتذكر في رحيل (روبرت ردفورد).. كنت لوالدي (سانشو بانزا) أتبعه حيثما يذهب، السينما، المسرح، حديقة الحيوانات، بيوت أصدقائه، محل عمله في مجلة (المجلة) ثم جريدة (الأهرام).. أشركني في مرحلة مبكرة في عشقه للسينما وشاهدت معه مئات الأفلام في سينما بالاس ونورماندي الصيفي.
حتى عندما تدور بكرة الفيلم مرة أخرى فلا مانع لدينا من مشاهدة ما فاتنا من بدايات فيلم بيرت رينولدز أو آلان دولون، وكثيرا ما كنت انتقل بناظريّ إلى النوافذ المضيئة في المباني المحيطة بحديقة السينما وأسعد عندما أرى شرفة مظلمة مزدحمة بأفراد أسرة تشاهد الفيلم معنا، وكان حلمي في تلك المرحلة أن ننتقل من بيتنا بجوار حديقة المريلاند إلى أي مبنى سكنى من مباني الشركة البلجيكية بطرازها المعماري المتفرد.

في بدايات هذه المغامرات كنا نخرج أنا وأبي من ظلمة السينما إلى النور نحارب طواحين الهواء وأفرع الأشجار ونحيي مشاهد الفيلم الذي شاهدناه، وألوم نفسي لانشغالي بأحداث الفيلم وقد فاتني أن أحذر البطل من الخطر المحدق به (رغم أني لم أكن أعرف معنى يحدق به الخطر!).
أو أحذره من غدر صديقه الذي شاهدته يصوب نحو صدره مسدسه ويرديه قتيلًا كل مرة ولا يتعلم من الموقف، ثم في العرض التالي للفيلم يسقط ضحية للخيانة من نفس الصديق الغادر!
أتخيل كيف سأنتصر للبطل الذي ظُلم، سأخبره! سأحذره! ولكن كيف؟!، ولا تغيب عني مشاهد الغدر بالبطل وأنا متفرجة عاجزة عن بطل أصبح لي عشرة وونسًا، ها هو يغدر به في حمام السباحة أو على رصيف الميناء أو على درجات سلم الكنيسة.
وتتكرر مشاهد الغدر حتى يرفع الفيلم من السينما ويظهر بطل آخر بحاجة لمساعدتي، ويصبح مرافقنا الجديد في طريق عودتنا سيرًا على الأقدام من روكسي إلى بيتنا عند الحدود الأخيرة للحديقة.

مع (روبرت ردفورد)، (1936 – 2025) اختلف الوضع فقد شاهدته محبًا للملعونة ديزي بوكانان زوجة الوغد توم بوكانان، التي غدرت بقلبه قبل أن يصرعه چورچ ويلسون زوج مرتل عشيقة توم برصاصات من مسدسه.
تمنيت في اللحظة التي صوب فيها چورچ مسدسه أن أنادي چورچ باسمه: (قف يا چورچ!.. أنت ترتكب خطأ جسيمًا.. انتظر.. سأشرح لك) أنا أتعاطف معه، لكن الجريمة ليست الحل، (تمهل يا چورچ، هى سيارة جاتسبي صحيح لكنه لم يكن القائد، بل ديزي.. الملابسات يطول شرحها! ضع مسدسك جانبًا أولًا ولا تنتحر، دقيقة واحدة لتفهم كيف دمر توم بوكانان وزوجته ديزي حياتك وحياة زوجتك مرتل وحياة جاتسبي!).
نعم! أنتم ضحية نفس القاتل توم!.. لكن چورچ يباغتني ويطلق الرصاص وفي تلك اللحظة يتصور جاتسبي أن ديزي اختارته هو وجاءت لتبدأ معه حياة جديدة!

يجذبني والدي من يدي ويدفعني برفق خارج ممرات السينما إلى ميدان روكسي.. حلقي يختنق بالدموع، لماذا يقتل جاتسبي وينتحر چورچ وينجو توم وديزي؟!، لماذا يدفع الأبرياء ثمن أخطاء الآخرين؟! يتصور والدي أن الحل في دعوتي لمحاربة طواحين الهواء على الورق، فيحدثني عن رواية (جاتسبي العظيم) لمؤلف أمريكي شهير اسمه سكوت فيتزچيرالد تنتظرني في البيت.
أجد في الرواية السلوى، ها هو جاتسبي يبدأ رحلته من جديد يراقب الضوء الأخضر البعيد المنبعث من منزل ديزي. يرتكب نفس الأخطاء وفي النهاية يموت! جاتسبي هو (روبرت ردفورد) بملامح وجهه الأمريكية وصوته الخفيض ورومانسيته الحالمة. حتى عندما أشاهده في أفلام أخرى وأدوار أخرى، هو جاتسبي!.. حتى عندما أصبح (ليوناردو دي كابريو جاتسبي) عالمنا المعاصر، لم أعترف به، رغم إخراج (بَز لرمان) المدهش ورؤيته للرواية، مزقت عصبية دي كابريو غلالة الحلم التي جسدها ردفورد للشخصية الروائية.
وكأن فيتزچيرالد كتب روايتين أحدهما لروبرت والأخرى لليوناردو!.. أردت أن أقول لجاتسبي: (ثمة شيء عفن في العشرينيات الذهبية؟ أتدري ما هي؟ إنها ديزي يا جاتسبي/ أو روبرت وأمثالها وطبقتها!).. استحقها دي كابريو بأدائه النزق، وتجاوزها ردفورد برومانسيته البريئة فاستحق أن يكون هو (جاتسبي العظيم!).

كان (روبرت ردفورد) من بين الفنانين الذين شاء قدرهم أن يظهروا في مرحلة من مراحل عصر مارلون براندو ورغم ذلك أثبتوا وجودهم.. بدأ معتمدا على تجسيد شخصية الفتي الأمريكي القٌح، وارتبط خلال رحلته بكبار الكتاب والمخرجين وشراكته السينمائية لبول نيومان.
لم يكن أداء (روبرت ردفورد) متنوعًا، بل ربما كان سر جاذبيته لدى جمهوره هو التشخيص الهاديء السلس، لذا تجده كما هو رغم تنوع الأدوار بين موظف وصحفي وسياسي وراع بقر، نصاب أو بريء كان جوهر شخصية ردفورد الحقيقية يقبض على زمام الشخصيات.
وفي خضم المنافسة التشخيصية الشرسة بين غيلان الأداء من أبطال الشاشة الأمريكية حوَّل (روبرت ردفورد) النقيصة إلى ميزة! لذلك هو بطل المساحات الآمنة في التمثيل، ورائد المجازفات في صناعة السينما.
ربما لم يفز بجائزة تمثيل، ولم ينازع وحوش الأداء مثل (چاك نيكلسون وچين هاكمان ودو نيرو وباتشينو)، فقد حاصرته في بداياته لعنة الشعر الأشقر والوجه الحسن لكنه أظهر خلف الملامح عقلًا سينمائيًا مفكرًا ومستنيرًا ميزه عن باقي نجوم السينما.

كسر (روبرت ردفورد) هذه اللعنة عندما تحول -بذكاء في القرار والتوقيت – إلى الإخراج ونال أوسكار أفضل مخرج عام 1981 عن فيلم (أناس عاديون) منتزعًا الجائزة في الدورة الثالثة والخمسين لجوائز الأكاديمية عن عمله الإخراجي الأول من عمالقة إخراج مثل ديڤيد لينش (الرجل الفيل) ومارتين سكورسيزي (الثور الهائج) ورومان بولانسكي (تِس)!
حطم (روبرت ردفورد) الحلقة الهوليودية التجارية المقدسة التي تتصدرها سلسلة (حروب الكواكب) بفيلم بسيط عن مشاعر أسرة أربكتها وفاة ابنها الأكبر، وبميزانية لم تتجاوز 6000.000 دولارا وأرباح بلغت 50.000.000 دولارا حوَّل ردفورد مجرى الفيلم السينمائي في هوليود وكذلك مجرى مسيرته الفنية.
بدأ التحول في نهاية الستينيات عندما اشترى (روبرت ردفورد) قطعة أرض في ولاية يوتاه وبنى على جزء منها منتجع (سن دانس) الذي كان حجر الزاوية لاهتماماته بالحفاظ على البيئة، ومتجهًا في نفس الوقت إلى ما أسماه (رد الجميل ) لصناعة مؤثرة. اختار (روبرت ردفورد) اسم دوره الأشهر وتميمته سن دانس (كيد) واجهة لمشروعه البيئي الفني الخيري واستثمارًا لدور عمره عام 1969 أمام شريك نجاحه بول نيومان (بوتش كاسيدي).
وإلى جانب مهمته في (رد الجميل) أضاف (روبرت ردفورد) إلى رصيد السينما الأمريكية، ورصيده، تشجيعه لشباب السينمائيين وللأفلام المستقلة ليكون الأب الروحي الحقيقي الذي ينقذ السينما المستقلة من مخالب ستوديوهات السينما وأنيابها.
ولهذا بعد تأسيسه لمشروعه الأخضر في يوتاه استكمل حلمه بإطلاقه مهرجان سن دانس للفيلم السينمائي 1978 وتأسيسه معهد سن دانس للسينما 1981، في إطار مؤسسي فني لا يستهدف الربح يموله ردفور من جيبه الخاص وفاء للسينما وعشقًا لها.

الأجمل في تاريخ (روبرت ردفورد) ليس ما قدمه من أفلام، بل ما رفضه من عروض لأداء أدوار كان يعلم بذكاء أنها لن تضيف له مثل (الخريج، والأب الروحي)، وكانت خيرًا لزملائه مثل دستين هوفمان ومارلون براندو.. لكننا سنذكره باختياراته التي تعكس ثقافة واعية أهمها في نظري دور الصحفي بوب ودوارد مفجر فضيحة ووترجيت في (كل رجال الرئيس) 1976.
ربما لم ينل (روبرت ردفورد) جائزة في التمثيل، لكن الأكاديمية استحت أن تتجاهل هذا السينمائي الذي تحول من فتى وسيم إلى مؤسسة سينمائية مستقلة ولهذا منحته جائزة شرفية عن مجمل عمله السينمائي عام 2002.
هذه سيرة مختصرة لفنان تحول من بطل أول وفتى شاشة إلى مؤسسة سينمائية كانت الحاضنة لمواهب فذة من بينها كوينتين تارانتينو، وستيڤن سودربرج، ووِس أندرسون!
السؤال: من لدينا في ثقافتنا تحول مثل (روبرت ردفورد) من الأضواء إلى البناء؟